رزان زيتونةصفحات الناس

المدينة القديمة تضيق بحراسها..

null
رزان زيتونة
حتى سنوات قريبة مضت، كانت دمشق القديمة بمعزل عن فوضى “القيم” التي تتنازعها اليوم، حيث يبدو وكأن اتجاهات متباينة تحاول أن تجذب المدينة مع رياحها.
فمنذ بضع سنوات، جرى الانتباه “فجأة” إلى هذه المدينة باعتبارها منطقة ملائمة جداً للاستثمار السياحي. أخذت البيوت الشامية القديمة تتحول إلى فنادق ومطاعم ومقاهٍ باتت تعد اليوم بالمئات. كثير من هذه المرافق جرى إعدادها لتناسب أموال السياح قبل أذواقهم. وإلى جانب السياح والمقيمين من الأجانب كطلاب أو غيرهم، تستقطب هذه الأماكن الباذخة شريحة معينة من السوريين القادرين على تحمل نفقاتها.
أما الجزء الآخر من تلك المرافق، فأسعارها أقل تكلفة وأجوائها أكثر ملائمة لشريحة واسعة من الأجيال الشابة على اختلاف ميولها واهتماماتها.
تلك الأجيال ربما تسكّن حنينها غير المعروفة وجهته بين أسوار المدينة القديمة؛ لكن فئات منها، تجد في المكان متنفسا تمارس فيه ما تعتبره حقها في أسلوب حياة حديث ومعاصر، فتختلط “حداثتها” ب”أصالتها” بدءا من أسلوب ارتداء الثياب وحتى تدخين النارجيلة، مروراً بالاستمتاع بما يصدح من أصوات الموسيقى الشابة ومشاهدة الفيديو كليبات عبر شاشات العرض التي يكاد لا يخلو منها مطعم أو مقهى، ذلك كله في جو من الحميمية التي تضفيها تاريخية المكان وتضاريسه. فضلا عن ذلك، فإن أغلبية المطاعم والمقاهي الملائمة للأجواء الشبابية خارج المدينة القديمة لا يتمكن من ارتيادها إلا أصحاب الطبقة المخملية أو ما دونها بقليل!
تلك الأجواء التي كانت سابقا مقتصرة إلى حد بعيد على الأحياء المسيحية، أصبحت تتسلل إلى معظم أنحاء المدينة القديمة. لم يعد قاطنو المدينة من يحدد هويتها الثقافية الظاهرة للعيان. أصبح الوافدون بصفة سياح من الخارج أو الداخل، هم من يطبعونها بطابعهم.
المستثمرون يريدون استغلال هذا النبع من المال السهل حتى أقصاه. والفساد يسهل الدرب عبر منح التراخيص من غير حساب لمزيد من الاستثمارات المجزية.
رؤوس الأموال والمشاريع المغمسة برائحة النفوذ أحيانا، كادت أن تودي بمناطق كاملة من المدينة القديمة ـ شارع الملك فيصل مثالاً ـ وهو ما حدا بعدد من المهتمين والأخصائيين لإعلان “الحرب” على كل من الفساد ورأس المال باعتبارهما يفرغان المدينة من روحها ويعبثان بديموغرافيتها وإرثها الإنساني والمعماري.
لكن التنازع على دمشق التاريخية أخذ أبعادا جديدة بدخول أطراف أخرى، بدأت تشعر أن مكانها يضيق أو أنه يجري التعدي على “المساحة” التي من المفترض أنها تعود لها!
من هذا، ما حصل مثلا العام الماضي، حيث وقّع عشرات القاطنين وأصحاب المحال التجارية ورجال الدين، عرائض موجهة إلى وزارة الأوقاف، اعتراضا على “التهتك” و”الأعمال المشينة” و”الطبل والزمر..الذي يتعارض مع التذكير وتسبيح السحر” و”فساد الأخلاق والنفوس” في محيط الجامع الأموي الكبير، والمقصود، المقاهي والمطاعم المحيطة بالأموي، ومن بينها مقهى النوفرة الشهير، قبلة الشباب والشابات من السياح والسوريين على السواء.
وأيضا، العرائض التي جرى توقيعها ضد الترخيص لإقامة فندق في منزل لا يفصله عن مقام صلاح الدين الأيوبي إلا جدار ويطل عليه بعدد من النوافذ. وبالتالي فهو يطل على الحديقة التي تربط المقام بالجامع الأموي، أي “بإمكان السائح في هذا الفندق أن يفتح النافذة ويبصق على المقام” كما ذكر أحد الحانقين على المشروع من أصحاب المحال القريبة.
لكن بعد تعمق في الحديث معه ومع غيره، تبين أن مقام صلاح الدين ليس المشكلة الحقيقية، المشكلة بالنسبة لهم أن أحدا ما ينوي التعدي على “حرمة” أعز ما يعتقدون أنهم لا يزالوا يمتلكون، أي إحساسهم بأن جزءا من هذه المدينة متمثلا في الجامع الأموي الكبير وغيره من المساجد الصغيرة والرموز الدينية الإسلامية، وما يستتبع ذلك من نمط وأسلوب حياة، لا يزال يمثلهم وينتمي لهم وحدهم، أو بالأحرى، أنهم لا يزالون يجدون رقعة في مدينتهم تشبههم إلى حد ما.
يتحدث أحد الشبان في مقتبل العمر بغضب، عن دخول مجموعة من الصبايا السافرات إلى جامع صغير عمره مئات الأعوام، ضمن وفد سياحي محلي. بالنسبة للشاب المكان هو مجرد صرح ديني، يجب احترام ضوابطه وحرمته؛ وبالنسبة لأعضاء الوفد، فالمكان هو معلم أثري وتاريخي؛ الصبية اعتبرت الاحتجاج مسا بحريتها الشخصية، على اعتبار أن المكان ومحيطه بالنسبة لها، هو عبارة عن متحف حي يشكل قبلة السواح من كل مكان؛ والشاب توسع في احتجاجه إلى أسلوب ارتداء الصبية ثيابها الكاشفة “وغير المحتشمة”؛ وأي من الطرفين لا يستطيع طرد الآخر من المكان الملتبس الهوية.
ليس نادراً أن تتجاور مثل تلك المتناقضات في المدينة القديمة؛ يمر المرء إلى جانب مطعم تصدح منه أصوات العزف على العود والتصفيق المنتشي، وبمحاذاته محل تجاري تصدح منه الأناشيد الدينية وصاحبه يشتكي من أن الحي تحول إلى “ماخور”! لا يجمع المكانين المتناقضين في كل شيء، إلا صورة رئيس الجمهورية معلقة هنا وهناك على السواء!
على جانب آخر، لا ننسى أصوات المتذمرين من تضييق الخناق على المدينة القديمة في ما يتعلق بتقديم المشروبات الروحية في المطاعم والمقاهي، والذين يرون في الأمر مسايرة للتيار المتدين على حساب الحريات الفردية. ولا كذلك أصوات المتذمرين من الطرفين الأخيرين على السواء، من مواكب السياح الشيعة التي تجتاز سوق الحميدية باتجاه مقام السيدة رقية؛ هذا التذمر الذي يختفي عندما يتحول الجمع إلى زبائن يشكلون قوة شرائية لا يستهان بها ضمن المدينة القديمة، وهو ما تشير إليه بوضوح لافتات عدد كبير من المحال التجارية في أحياء معينة، والتي تحولت إلى أو أضافت اللغة الفارسية إليها.
في هذه الأثناء، تستمر المدينة القديمة في منح خيارات واسعة لمرتاديها، مؤكدة بأنها تتسع للجميع، من رواد حفلات “اللاتينو دانس” في مطاعمها ونواديها، إلى الراغبين بالصلاة والخلوة مع النفس في جامع أو كنيسة. إنها المدينة التي حلت في المرتبة السابعة من حيث المدن السياحية في العالم حسب صحيفة النيويورك تايمز مؤخرا؛ والتي تحتل المرتبة الأولى في قلوب الدمشقيين ومعظم السوريين، بالضبط لأنها تشبه الجميع على اختلافاتهم وتباينهم، وفي الوقت نفسه، لا تشبه إلا دمشق القديمة..
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى