صفحات مختارة

دور المثقف النقدي في التغيير والنهوض

هيفاء احمد الجندي
إذا كان لانهيار الاتحاد السوفياتي وسائر دول المنظومة الاشتراكية من إيجابيات ففي كون هذا الانهيار قد كشف عن هشاشة الانتماء والضحالة الفكرية لأطياف من مثقفي اليسار الماركسي، وكأن هذا الانهيار كان ضرورياً للكشف عن الوعي الزائف والانتهازي لهذا النمط من المثقفين. وبعيد الاحتلال الأميركي للعراق ذهب البعض من هؤلاء الى الأقصى ينشدون الحرية والديموقراطية ولو على متن الدبابة الأميركية! وبالمحصلة انقسم مثقفو ما بعد الانهيار والاحتلال الى نيوليبراليين أو متلبرلين وليس ليبراليين، وسنوضح ذلك في ما بعد، لأن تنظيراتهم وجدت مرتكزاً وأساساً لها بقراءة فقرات مجتزأة لماركس وفلسفته ليبرالياً، حتى تتطابق مع مرحلة الكولونيالية الجديدة وخطابها الأيديولوجي الملازم لها.
وهذا ما يؤكد فكرة عبد الله العروي القائلة «بأن التأويل الليبرالي التاريخي لماركس ينتهي بسياسة محافظة، ولا يتورع البعض عن مطالبته تمدين العالم المتخلّف، ولو عن طريق الاستعمار».
وفريق آخر من المثقفين، انكمش في قوقعة الدوغمائية يحلم بالثورة الحمراء والعنف الثوري سبيلاً وحيداً لاستلام السلطة.
من البديهي أن يستنتج القارئ بعد هذه المقدمة، أن كلا النموذجين يلويان عنق الواقع ويفسّرانه بتنظيرات ورؤى تتعارض مع خصوصية التركيب الاقتصادي الاجتماعي، للبنيان الطبقي وطبيعة السلطة وأشكال الوعي السائد في بلادنا… وهذا ما يفسّر الاستسهال عند المتلبرلين بطرح «البدائل» التي تأخذ شكل القوالب الفكرية: كالدولة الحديثة مقابل المستبدة، والمجتمع المدني مقابل الأهلي، وكأن المجتمعات العربية تعيش مخاض ما قبل الثورة الفرنسية حيث الطبقة البورجوازية الصاعدة التي ستنجز وتؤسس للحداثة في كل المجالات… ويؤسفني القول إن هذه القوالب لا تعدو كونها تصورات طوباوية، وهمية، ومتعالية على الواقع وذاتية… ولكن ما نفتقده هو: وجود ماركسية خلاقة عينّية وموضوعية وواقعية، كماركسية لينين الذي طوّر نظريات ماركس، بل «حرّف» بعضها، بهدف إنجاز ثورة أكتوبر (1917) في مجتمع نام ومتخلّف بالنسبة للبلدان الرأسمالية المتطورة… أو كأفكار غرامشي الذي طوّع الماركسية منطلقاً من الخصوصية الايطالية ومسألة الجنوب وقضايا الفلاحين، فأتت طروحاته الفكرية متميّزة ومتمايزة عن تلك الماركسية الرسمية الرائجة في الثقافة ومفاهيم المثقفين في هذا المجال.
وانسجاماً مع ما سبق، أرى أن السؤال الذي يطرح نفسه، منطقياً وواقعياً، يتجلى في: «من هو المثقف الذي سيشارك في مهمة نهوض المجتمع؟…». غرامشي يقول: «إن الجميع مثقفون ولكن ليس للجميع وظيفة المثقف»، وانطلاقاً من هذه المقولة الغرامشية، سيتفرع سؤال آخر يخصنا: «من هو المثقف الذي نرى أنه سيكون له الدور الطليعي، التنويري، الثوري، وما هو توصيفه وحتى تسميته، في بلداننا العربية؟».
لمحاولة الإجابة عن هذه التساؤلات، نرى ضرورة التقدم بدعوة مفتوحة للنقاش بين مختلف المعنيين بهذا الخصوص. وأعتقد أنه للكتابة عن الثقافة والمثقفين، في هذا السياق، من المهم جداً استلهام مفاهيم غرامشي حول المثقف ودوره، وهذا لا يعني، بالطبع، تمثل هذه المفاهيم دون نظر نقدي فيها، وإعادة تفكيكها وفقاً لخصوصية مجتمعاتنا العربية.
عن المثقف العضوي والتقليدي والبنيان العربي:
يميّز غرامشي بين نوعين من المثقفين: المثقف العضوي المرتبط بطبقة أساسية صاعدة، مهمته أن يمنح هذه الطبقة انسجامها ووعيها المطابق، وانطلاقاً من هذه الرؤية، يمكن اعتبار مثقفي التنوير الأوروبي، كفولتير مثلاً، ليبراليين حقيقيين، وبالتالي ينطبق عليهم التوصيف الغرامشي بأنهم مثقفون عضويون، لأنهم ارتبطوا بصعود البورجوازية كطبقة صاعدة وثورية، في مرحلتها، ومثقفو التنوير هؤلاء لم يعملوا فقط على نشر قيم الحرية، التقدم، العلمنة والعقلانية، بل خلقوا وعياً بها، وهذا ما يفسّر ما ذكرته في المقدمة حول التمييز بين الليبراليين والنيوليبراليين (المقاولين) أي مثقفي الطور الجديد، الرجعي والمحافظ، لليبرالية الجديدة التي فرغت ليبرالية القرن التاسع عشر من مضامينها التحررية عند انتقالها الى الطور الأكثر توحشاً وهيمنة، وبالتالي لا يمكن اعتبارهم عضويين حسب غرامشي، لأن تلك الطبقة الصاعدة تحوّلت وتبدلت، وهذا يحيلنا الى التأمل في الفشل الجزئي لمشروع طه حسين التنويري، لأنه لم تنوجد تلك الطبقة التي بإمكانها أن تحوّل مشروعه الى واقع وتعمل على تأصيله وتبيئته.
أما في المجتمعات العربية فيمكننا القول انه لا يوجد ما يسمى (بالمثقف العضوي) لأنه لا يوجد ذلك التمايز الطبقي الواضح، وما نجده: تشكيلة تحتوي عدة أنماط إنتاج متداخلة متجاورة، ولهذا تتجاور الأزمنة والحقب التاريخية، بل ان ما يسود هو (المثقف التقليدي) وهو النوع الثاني الذي خصه غرامشي بكتابته حول المثقفين، هذا المثقف التقليدي ينحدر من أوساط البورجوازية الصغيرة، ريفية ومدينية، فلاحين ميسورين، صغار التجار، الحرفيين، والوعي الذي يبثه وينشره هذا النمط من المثقفين هو وعيّ غيبي ـ ظلامي، لأنه وعيّ فلاحي ـ سلفي يجري تكريسه ودعمه من قبل السلطات العربية التي كانت تسيطر عليها البورجوازية الصغيرة، حسب توصيف عبد الله العروي، ولكن هذه الطبقة، بصيرورتها، متبدلة ـ متحولة بفعل الظروف والتناقضات والسياق. وفي السنوات الأخيرة، اغتنت هذه البورجوازية واستفادت من الشكل البيروقراطي المغلق وتحولت الى بورجوازية مالية متحالفة مع مجموعة من الطفيليين والمقاولين وكبار التجار لتشكّل في ما بعد ائتلاف فئات حاكمة مهيمنة ومسيطرة، وأصبحت السلطة تكثيفاً لعلاقات القوة حسب بولنتزاس، وبالتالي فإن هذه الشبكة تخلق أجهزتها ومؤسساتها وأحزابها ومثقفيها المقاولين لتهيمن بأيديولوجيتها الشمولية، والوعي التضليلي الذي تنشره، كي تلهي الجمهور عن واقع الاستغلال، النهب والتفاوت، بخطاب ثقافوي ـ «عروبي» مهمته التغطية على واقع العجز والتخلف والتأخر. إذاً فالمثقف التقليدي (كالمثقف المقاول) امتداد للسلطة وهي امتداد له.
المثقف النقدي ودوره التاريخي:
بما أن السيادة (للمثقف التقليدي) في المجتمعات العربية الآن… صار لا بد من وجود النموذج البديل والنقيض وهو (المثقف النقدي) الذي ينحدر من نفس أوساط المثقف التقليدي وفئاته الاجتماعية، ولذلك ستتضاعف مسؤولياته في المراحل المقبلة لأنه ستقع على عاتقه ليس المشاركة فقط في مهمة النهوض، بل في العمل على استقطاب المثقف التقليدي وجذبه الى صفوفه.
ـ فمن هو المثقف النقدي الذي سيكون له هذا الدور بعملية التغيير والنهوض؟
المثقف النقدي: هو الذي ينطلق من الحيوية الفكرية، وليس من الأحكام الجاهزة والقوالب «الفكرية» المعلّبة، وهذا المثقف النقدي ينطلق من الراهن ومن السياق ويعتمد على العقل والتحليل المادي ليس للانفلات فقط من مزالق الأيديولوجيا بل من أجل فهم العمل السياسي والوعي النقدي الشمولي بالواقع، ليستخلص بعدها القوانين والرؤى، ينطلق من كل ما هو نسبي وتاريخي ويمارس دوره من موقعه الفكري المستقل والمسؤول، لأن الأحزاب وتحديداً أحزاب اليسار الرسمي، لم تعد بمثابة منبره الحقيقي أو مرجعه الأساس، لان أكثر قياداتها تحولت الى مكبرات أيديولوجية بائسة، متواضعة، تنخرها البيروقراطية، ذلك لان العقل النقدي والانتهازية السياسية المهووسة بالوصول وبالمكتسبات، خطان لا يلتقيان، وقد طُرد العديد من هؤلاء النقديين من قِبل قيادات الأحزاب التي لم تعد معنية بالتغيير والتثقيف، بل بالصراع والمنافسة في ما بينها، ومن هنا يرى الكثير من هؤلاء النقديين ضرورة إنشاء تكتل ثقافي ـ فكري ـ نقدي على هامش الأحزاب، ينطلق من الأفكار الماركسية ويخلق وعياً بالتقدم تتحد عنده النظرية بالممارسة وتتبلور لديه رؤية شاملة ومتماسكة للعالم والحياة. ولكن هذا الانسجام الفكري ـ النظري يتطلب بالضرورة انسجاما قيمياً أخلاقيا، لأنه لا نقد بدون تشرب القيم والأخلاق بالمعنى النضالي والإنساني.
وحتى يتحول هذا التجمع الى كتلة ناهضة لا بد له أن يتجه، بالضرورة، الى التواصل والتلاحم مع البسطاء والفقراء والشغيلة والمهمشين، ويتم استيعاب ثقافة هذا الجمهور نقدياً، لأن الأفكار تستمد أهميتها، لا بل تاريخيتها، عند تحولها الى قوى بأيدي الجمهور الكادح والمهمش، وقتها يتحول التجمع الى كتلة تاريخية ناهضة قوامها المثقفون والبسطاء، لان واقع البنية الفوقية في عالمنا العربي لا تشكّل كتلة تاريخية، حسب رؤية غرامشي، فهذه البنية متواطئة ضد جمهورها، ولا يمكن أن ترتقي بوعيه وتنقله من الحسّ العام «المشترك» الى الحسّ السليم.
إذاً فإن تقييم المثقف إن كان نقدياً أو زائفاً يتوقف على مدى ارتباطه بجمهوره.
عن المثقف النقدي والتقني «الاختصاصي»:
وبما أن المثقف النقدي لا يرتكن لثابت بل هو يتمرد على المألوف، العادي… وهو مشاكس، متمرد على كل السلطات، ومستقل، ولكنه غير حيادي لأنه منحاز الى جمهور الفقراء والمهمشين ويعمل على نشر قيم التقدم والحرية والعدالة الاجتماعية، على عكس المثقف التقني الذي يجرّد المعرفة من كل معنى تحرري، إنساني وأخلاقي. فتتحول المعرفة الى نسق مغلق (أي المعرفة من أجل المعرفة) فتنتشر ثقافة اللاجدوى، العبث، اللامعقول، النخبوية والفردانية، وتكريس القطيعة مع الجمهور الذي يتحول عند التقني الى ضرورة منطقية، ذهنية، مجردة، فهو على عكس المثقف النقدي الذي يدافع عن الفقراء بناء على عاطفة مليئة بالحب والاحترام والثقة بقدرات هذا الجمهور.
إذاً، المثقف النقدي، هو المؤهل لتفكيك خطاب السلطات التي تعمل على طمس واقع التفاوت، والاستغلال والالتفاف على مكامن الصراعات والتناقضات الحقيقية. وهنا يحضرني موقف المفكّر نعوم تشومسكي كمثقف نقدي لواقع الهيمنة الأميركية وخطابها الأيديولوجي، الثقافوي، برموزه «الأفذاذ» كفوكوياما، وهنتغتون، وبرجنسكي… بناء على ذلك يمكن القول ان أي طبقة اجتماعية تمر بمراحل صعود أو تراجع وانكماش… وكل طور من هذه الأطوار يفرز مثقفيه. والى ان تتبلور الطبقة النقيض سيبقى المثقف النقدي بديلاً ونقيضاً لكل مثقفي السلطات في العالم.
اقتراحات وبدائل للنهوض:
استخلاصاً من هذا كله نرى: أن من يؤسس لحركات راديكالية هو اليسار ومثقفوه النقديون. واليسار هذا، هو الحل من حيث إنه يقرن التحرير بالتغيير، على عكس الحركات الدينية التي تسقط من قاموسها مفردة (التغيير)… ولكن للبدء والتأسيس، فلا بد لهذا المثقف النقدي إلا أن ينهض من جديد، من تحت الرماد، ويخرج من عزلته، اغترابه، ذاتيته و«أبراجه العاجية»، وإذا لم يخرج وينفض الغبار، فهو بهذا سيساهم بانتشار المدّ السلفي والليبرالي البورجوازي الجديد، ويقدّم لهؤلاء انتصارات مجانية.
هذه التوجهات والتطلعات ليست برومانسية ثورية، ولكننا ننطلق من فكرة أن أكثر مرحلة تتطلب شحذ الهمم هي مراحل الانكسار والهزيمة، باتجاه أن نعيد وصل ما انقطع مع السياق الناهض، سياق مهدي عامل، الياس مرقص، سمير أمين، وأمثالهم… وهذا يستدعي إقامة (ورشات فكرية نقدية)، تبحث، تفكّر، تحلّل… والشرط الأساسي لهذه الورشات هو الوعي بالاختلاف، والسجال، وليس الامتثال والتماثل، ليتم استخلاص الرؤى والنظريات، لتلتقي حماسة الشباب في مرحلة السياق المعطل الآن مع تجربة وخبرة جيل ذلك السياق الناهض.
وسيتمخض حتماً عن هذا اللقاء نهضة جديدة تتسم باتقاد وتوهج الذهن، العقل والقلب.

([) كاتبة من سوريا
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى