صفحات من مدونات سورية

قراءة في الإستبداد على أضواء سمرقند

إنتهيت من قراءة رواية سمرقند منذ مدة طويلة وكنت قد دونت بعض الإقتباسات على أمل صياغة إنطباعي  بشكل نهائي، والحقيقة رغم أن الإفكار جاهزة برأسي والفكرة العامة متبلورة كليا إلا أنني وجدت صعوبة في ترجمتها على أزرار الكمبيوتر!
ربما بسبب تشعب الموضوع وحيرتي بكيفية البدء به، فلا أصعب من الحديث عن موضوع متشعب متداخل الأطراف! ولعل انطباعي الأول وربما الوحيد الذي تشكل جراء السفر مسافة ألف عام في تاريخنا العتيد يتلخص بأنني كنت كمن يشاهد إحدى المسلسلات التي تريد الحديث عن واقع اليوم ولا تستطيع إلى ذلك سبيلا إلا من خلال القالب التاريخي وممارسة الإسقاط المباشر وغير المباشر على الواقع.
الرواية عبارة عن سرد تاريخي لقصة مدينة تلخص حكاية المنطقة والإستبداد الذي تعيشه حتى اليوم، حكاية الحروب والصراعات على السلطة، حكاية الأطماع الإستعمارية وحكاية الشعب الضائع وسط المعمعة السابقة.
ما أراد أمين معلوف قوله يتلخص حسب قراءتي بأن الإستبداد يدجن الشعب ويهزمه في الأعماق، والخوف من الحاكم وبطشه يدفع الناس إلى تملقه وتأليهه حتى يعتاد الأمر لدرجة يشعر معها بالملل من كثرة المديح. فلا أسهل من إظهار الولاء في الأفواه الكاذبة التي سيملأها الحاكم بالذهب، على سبيل إضفاء شيء من الطرافة على رتابة أجواء الثناء التي اعتادها!
ومن عجائب الإستبداد أنه يربط إستقرار الحياة باستقرار الحاكم على كرسيه، فالخوف المركب من المجهول الذي ينتظر الشعب إذا ما غاب الحاكم، والخوف من البلبلة والفوضى وبطش المتصارعين على الحكم – كون البطش بالشعب والمناوئين هو الطريقة المثلى لبسط الهيبة والنفوذ واستقرار الأمور- يجعلهم لا يتمنون زوال الحاكم مهما كان ظالما.
في ذلك العصر كان الناس يحذرون تغير الملك وما يواكبه ذلك من مجازر وآلام وأعمال نهب وسلب لا سبيل إلى تلافيها، وكان ينبغي أن يتجاوز العاهل كل حد ويخضع الرعية لضرائب فوق الطاقة ومهانات لا تنقطع لكي يصل بهم الأمر إلى الرجاء بأن يغزوهم ملك آخر.
وربما هذا السر وراء ظهور الرأي الفقهي القائل بأنه لا ينبغي الخروج على الحاكم حتى لو كان ظالما، وضرورة الصبر على جور الحاكم. فيتعاضد السياسي والديني في تثبيت أوتاد الطغيان والعبودية . . حتى لا يجد المرء سبيلا إلى العيش الكريم وكسب رزقه بنزاهة في بلد يحكمه الإستبداد.
فتصبح الغربة والهروب من الأوطان ملجأ كل المظلومين وخلاصهم من نير الإستبداد علهم يشعرون فيها ببعض الحرية. ولم أجد أروع من هذا الإقتباس على لسان جمال الدين الأفغاني:
لو لم تكونوا قد حولتم بلادنا الجميلة الى سجون لما احتجنا الى اللجوء للأوربيين . . لو كنت أحمل جنسية الولايات المتحدة أو فرنسا أو النمسا ناهيك عن بروسيا أو انكلترا لدخل قنصل بلادي مكتب الصدر الأعظم من غير أن يقرع الباب وحصل على إطلاق سراحي في نصف ساعة.
أقول لك إننا- مسلمي هذا العصر- أيتام.
إزاء هذه الثنائية (الإستبداد السياسي والديني) يتشكل المزاج الشعبي بشكل لا واع على هواها ولا يجد الشعب متنفسا للإضطهاد الذي يعيشه سوى ممارسته على بعضه البعض، فيترقبون زلات اللسان ويتربصون بأقوال العلماء والأدباء ليمارسوا على من يعبر عن رأيه الخارج على الإجماع عقد الإضطهاد والقمع التي يعيشونها، وكيل تهم الهرطقة والكفر وربما الخيانة . . الخ.  والخوف كل الخوف من تفاني الأتقياء!
رغم أن الخوف إحدي الوسائل الرئيسية التي يستخدمها الإستبداد في تطويع الناس وفي فرض استمرار وجوده، إلا أنه لا يلبث أن يؤثر بشكل تفاعلي على كافة مناحي الحياة بما فيها النظام الإستبدادي نفسه، الذي يصبح هو الآخر أسير الخوف في سلوكياته وممارساته. فالقسوة المفرطة في عقوبة من يتجرأ على الكلام بحديث ينال من النظام أو لا يروقه على أقل تقدير ما هو إلا انعكاس لهذا الخوف، والريبة من أي تجمع شعبي أو نشاط مدني أو حتى توجه ثقافي جديد هو أيضا مظهر من مظاهر الخوف الذي يصبح عقيدة وروحا تعشش في مفاصل الدولة التي يحكمها الإستبداد. لذلك نجد أن مجتمعاتنا دائما ما كانت تواجه الآخر المختلف – أيا كان هذا الآخر – بالحذر والريبة والرفض حد المحاربة بطريقة تطغى على كل الخصال الحميدة و الفضائل التي يتمتع بها  المجتمع وأفراده، والنظام الإستبدادي إذا شعر بالخوف والمحاصرة تراه ينقلب إلى وحش مسعور ينال من شعبه على أهون الأسباب.
والحقيقة أن الإستبداد يعصف بكل شيء غير أنه يلجأ لخلق وحماية بعض التابوهات القيمية أو الإجتماعية التي تدغدغ مشاعر الشعب على سبيل تجميل صورته في عيون العوام وأيضا يساعده هذا الأمر على خلق فسحة مغلقة يلعب فيها الناس ويمارسون ما يتصورونه حرية أو قراراً شعبياً، ولا أفضل من التابوهات الدينية لهذه المهمة، فالجانب الديني دائما كان الشريك الأول للإستبداد السياسي في تطويع الشعب وبنفس الوقت هو جانب يأنس له الناس ويقدسونه، لذلك تجد أن النظم الإستبدادية لا تتهاون في ردع ما يمكن أن يؤوّل على أنه مساس بالتابو الديني، أو مباركة أي محاكمة شعبية للأفكار والسلوكيات وأصحابها الذين خدشوا هذه التابوهات.
مشكلة أخرى تزيد الأمور تعقيدا:
المزايا المطلوبة لتولي الحكم غير المزايا المطلوبة للوصول الى سدة الحكم، فلكي يحسن المرء تصريف الشؤون عليه أن ينكر ذاته ولا يهتم إلا بسواه، ولا سيما بأكثر الناس شقاء، ولكي يصل إلى سدة الحكم ينبغي أن يكون أشد الناس طمعا، وألا يفكر إلا في ذاته وأن يكون مستعدا لسحق أقرب أصدقائه إلى قلبه.
هذه الحقيقة الراسخة في النظم الإستبدادية تجعل من الصعب وصول حاكم صالح يهتم لأمر الرعية حقا، فكل الحكام يعبدون الطريق إلى العرش بجماجم وأشلاء الرجال وبذلك تستمر حلقة الحكم الإستبدادي حتى تدب شرارة الثورة في نفوس الرجال وينقلبوا على حكم الإستبداد.
إلا أن ذلك لا يكفي حقيقة، صحيح أن الحاكم أو النظام هو ما يجسد الإستبداد غير أن تحطيم الصنم لا يجتث جاهلية الإستبداد من النفوس والحياة، بل على الشعب أن ينقلب على كل التقاليد البالية وعلى كل القيم التي خلقتها وكرستها عهود الإستبداد:
هيه، كلا، تبصر! في وسعي أن أبغض الشاه غير أنه ليس الشخص الذي أقاتله، فلا يمكن أن يكون الإنتصار على طاغية هدفا نهائيا، وأنا أقاتل لكي يعي الفرس أن عليهم أن يكونوا أحرارا، أن يؤمنوا بأنفسهم، بقوتهم وأن يجدوا لأنفسهم مكانا في عالم اليوم. هذا هو ما رغبت في تحقيقه هنا. لقد خلعت هذه المدينة سلطة الملك والزعماء الدينيين لقد تحدت القوى وأثارت في كل مكان الإنتصار، غير أنهم لا يريدون تركهم ينتصرون، إنهم يخشون كثيرا أمثولتهم ويريدون إذلالهم وعلى الشعب الأبي أن يسجد أمام جنود القيصر للحصول على خبزه.
ببراعة تامة عبر أمين معلوف عن فكرة الدعم الغربي لقيم التحرر والديموقراطية وحق تقرير المصير، وارتباط هذا الدعم بمقدار تحقيقه لمصالحهم ولو ثبت عكس ذلك تجدهم انقلبوا شركاء في التآمر على وأد الثورة ومعاداتها، غامزا إلى موقف القوى الغربية من الثورة الإسلامية في إيران. وهو موقف يمكن تعميمه دون أن يفقد مصداقيته.
غير أنني وجدت الكاتب قد بالغ كثيرا في تضخيم دور بعض الشخصيات الغربية التي لا ناقة لها ولا جمل في صراعات الشعب وحولهم إلى أبطال كبار في نضالهم وتضحيتهم حد الشهادة في سبيل نصرة الثوار والمسحوقين لنيل حريتهم، وحكاية شوستر أمين الخزانة الذي كاد أن يغير وجه الشرق!
ملاحظتي هذه كانت قبل ضجة الجدار المصري وموقف النظام من قافلة شريان الحياة التي تزعمها النائب البريطاني جورج غالاوي وثلة من الأحرار في أوربا، ليتأكد لي مرة أخرى أن أمين معلوف كتب الحاضر بلغة الماضي وشخوصه، طالما أن الإستبداد هو المتحكم فآثاره واحدة مهما تغير الزمن!

http://www.3bdulsalam.com/?p=2091

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى