صفحات ثقافيةياسين الحاج صالح

أصول ثقافية للعسر السياسي العربي

null
ياسين الحاج صالح
ليس بالقوة العارية وحدها استطاع أهل الحكم في البلدان العربية نزع السياسة من المجتمعات التي يحكمون واحتكارها لأنفسهم. ما يفوق ذلك أهمية ويؤسس له هو نظرة إلى العالم تراه عدوانا علينا، نحن العرب، وتعديا على حقوقنا وتآمرا على قضايانا العادلة. وفي عالم الدول الحديث لا يكاد يحتاج أحد إلى اختراع وقائع العدوان والتوسع وممارسة القوة حيال الجماعات الأضعف بخاصة. فالدولة، بما هي دولة، لا تفهم غير لغة القوة، والقومية هي الإيديولوجية التي تتعبد في محراب الدولة وتعلي من شأن القوة من جهة، والحائزة على تكوين بارانوئي متأصل من جهة أخرى، وهما معا (الدولة والقومية) توفران للجميع وقائع القوة والشكوى من الاضطهاد والشعور بالعظمة في آن معا. والدولة العربية المعاصرة متشكلة وفقا للمبدأين معا، وإن كانت من جهة أخرى تشغل موقع الغارم في ترتيب العلاقات الدولية المعاصر. وإذا كان العرب قطبا سلبيا، يجمع بين الضعف المادي ووفرة ما يغري الأقوياء في مجالهم، فسيكون متوقعا جدا أن يهجم عليها الأقوياء وأن يحرصوا على دوام ضعفهم.
ومعلوم أن الشعور بالصدمة والتهديد، وكذلك الشكوى من التآمر والعدوان، أو لنقل ثقافة الضحية، شائع جدا، تتكفل بإشاعته الفكرة القومية في كل مكان.
وعدا عن وقائع الحياة الدولية الحديثة وخصائص القطب السلبي الذي يشكله العرب اليوم، فإن حساسية عريقة في العلاقة بين العالم العربي والغرب تغذي شعور العرب بالاستهداف من جهة، وبالعظمة من جهة ثانية. إن رسالتنا خالدة، لكن “العالم” الذي إما لا يقيم وزنا للحقوق والمبادئ، أو هو صليبي أو استعماري حاقد، يحبط مرة تلو المرة محاولات نهوضنا.
هذه النظرة إلى العالم ليست خاصة بالعرب بحال، إنها أوثق صلة بالقومية عموما. ولقد عرضت القومية الألمانية مشاعر كهذه يوما، واليوم بالذات تعرض الصهيونية ما يشبه هذا التكوين رغم ما يبدو من وضعها المتفوق ماديا قياسا إلى العرب.
فمم يتغذى هذا الشرط عربيا؟ للإجابة، قد يمكن التفكير بمجموعة عناصر.
الإسلام أخر الأديان الإبراهيمية، والعلاقة بين السابق واللاحق بين هذه الأديان الثلاثة هي علاقة عدم اعتراف. الشعور بالسخط حيال هذا الشرط مبثوث في القرآن ذاته، لكن الصعود السياسي الإسلامي طوال قرون أزاح هذا الشعور إلى الهامش، فلم ينبعث إلا في القرنين الأخيرين مع صعود الغرب واحتلال أصقاع واسعة من العالم الإسلامي وتهميشه ككل.
ورّثنا هذا العنصر الأول حساسية مفرطة حيال أي تجاهل من الغير وشكلا مقيما في مقاصد الغير ونياته حيالنا؛ الغير الغربي بخاصة لكونه مركز المسيحية العالمي ووريث الفرنجة الذي خضنا ضدهم ما سموه هم “الحروب الصليبية”، والقوة المستعمرة حديثا والمهيمنة عالميا.
قد يضاف إلى ذلك عنصر ثان يتمثل في استبعاد حقيقي للعرب من السياسة والدولة والعسكرية في المجال الامبراطوري الذي أسسوه هم بالذات، وذلك منذ القرن التاسع الميلادي. قد يمكن القول أصلا إن العرب شعب غير سياسي، شعب محاربين أو مؤمنين أو تجار، واستبعادهم طوال ألف عام فاقم من هذا الواقع. ولم يعد عرب إلى قيادة الدول وسياستها، وإلى خوض الحروب الكبيرة إلا في القرن العشرين، دون سابق خبرة ودون تقاليد سياسية وتراث حي من الفن السياسي. وحدها حروب القبائل البدوية والغزوات الصغيرة ظلت مألوفة في عالمنا المتداعي حتى أواسط القرن المنقضي. ولعله من هذا الباب عدنا، بعد أدائنا السيئ في حروب الدول، إلى ما يشبه غارات القبائل، على نحو ما تشهد أهم غزواتنا المعاصرة: 11 أيلول 2001. ولعل وفرة ميليشياتنا ومنظماتنا المسلحة تحيل إلى ضرب من استعداد ثقافي واجتماعي عريق للحروب الصغيرة (الحريبات)، تلقى دوافعها في شروطنا السياسية المعاصرة وتسويغها من إيديولوجيات العصر أيضا.
قيمة هذا العنصر الثاني، للتوضيح، لا تتمثل في شعور الاستبعاد بحد ذاته، بل في ضرب من البدائية السياسية العربية لا يكاد يكون له استثناء.
الغريب أن واقع الاستبعاد العربي المديدة والغريبة لا تكاد تكون حاضرة حتى في فكر القوميين العرب، والسبب في ذلك على الأرجح العلاقة الخاصة جدا بين العرب والإسلام، وما يترتب عليها من تخفيف شعور العرب بالهامشية بفضل مركزية الإسلام العالمية التي لم يُشْعَر بتقوضها إلا قبل قرنين أو أزيد قليلا من السنين. غير أن هامشية عمرها قرنان ليست ضئيلة الشأن، بخاصة أنها تحققت على يد الغرب، الخصم القديم الذي صنع حضارة رائعة، ووحد العالم واحتل موقع الصدارة فيه، والذي هو في الوقت نفسه مصدر أخطر التهديدات التي لم ننجح في الرد عليها.
ولعل التقاء الهيمنة الغربية الحديثة مع بنية نفسية ثقافية عربية خاصة، مفرطة الحساسية لعدم الاعتراف بها أو الخفض من شأنها، ومع افتقارنا إلى تقليد سياسي متين، تفسر أننا نثابر على مواجهة أوضاع الاستبعاد والتهميش المعاصرة بالشكوى والغضب، بالنحيب والحريبات، بدل خطط عملية قد تكون متواضعة، لكنها تبني وتراكم حجرا فوق حجر. في هذا يسجل الصينيون والهنود فارقا واضحا عنا. لكن ينبغي القول إن أوضاعنا أشد تعقيدا، بفضل إسرائيل والبترول وقربنا الجغرافي من أوربا والحساسية الدينية بيننا وبين الغرب.
أما العنصر الثالث فسياسي وليس ثقافيا، وهو يتصل بحاجات أطقم السلطة الفاقدة للتقاليد والمهارة السياسية من ناحية، والعاشقة للسلطة من ناحية ثانية، إلى تثبيت حكمها. ستلح على وقائع العدوان والسيطرة في العلاقات الدولية، وبخاصة عدوان الغرب القوي المعادي لنا سياسيا وثقافيا. وفي تصرفها ذاكرة قديمة ووقائع حديثة لتثبيت نظرة بارانوئية إلى العالم تجمع بين تمركز مفرط حول الذات وبين مركب من الشعور بالعظمة والاضطهاد. وستشغل عدوانية الغرب تلك الموقع الذي شغلته عقيدة الجبر في تثبيت الحكم الأموي: تبرير الواقع، وسلطة الأوليغارشيات المستفيدة منه. العنصر الثالث هذا يثبت ويمنع تغيير حساسية قديمة أو قديمة جدا.
والتقاء مقتضيا سلطة “حكم القلة” مع ثقافة الضحية تفسر حالة الاستثناء القانونية والفكرية والسياسية التي تعيشها أغلب الدول العربية أو جميعها. وتتولد عن هذا اللقاء ما نسيمها ثقافة الطوارئ أو أيضا ثقافة الاستثناء، الشعور المنتشر الذي يتجاوز السلطات الحاكمة إلى الإسلاميين وإلى عموم المعارضين بأننا في مواجهة خطرة، وأنه ينبغي ألا ننتقد أو تعرض اختلافاتنا للعلن أو ينشق علينا أحد. باختصار: نحن في حالة حرب، العدو على الأبواب، السياسة ممنوعة والاختلاف محرم. من يختلس شيئا من السياسة وينتهك ثقافة الاستثناء خائن أو عميل للأعداء. يتعزز ذلك أيضا بميراث عربي عريق من الخوف من الفتنة والثناء على الإجماع.
تلخيصا، لدينا مجتمعات حديثة العهد بالسياسة والدولة والحرب، تظهر ثقافتها حساسية خاصة تغذي لديها الشعور بأنها ضحية مظلومة في عالم يوفّر بالفعل أسبابا وفيرة للشعور بالظلم، وتحكمها نخبا ضيقة تجد في هذا التكوين ما يناسبها لترسيخ سلطتها ودوام حكمها. يَسهُل على هذه النخب نزع السياسة من مجتمعات معزولة تاريخيا عن السياسية، سواء أخذ هذا شكل استبداد مطلق بأمر الحكم، أو ترتيب العلاقة بالعالم على محور لا سياسي: العرب والغرب، الإسلام والعالم. أعني محورا لا يتوفر حل سياسي لما يرتبط به من أزمات وتوترات في المدى المنظور، ما يعني أن ترتيب علاقتنا بالعالم حوله يخدم في ترسيخ البارانويا العامة وثقافة الضحية ويسهل أمر نزع السياسة من المحكومين، فيثلج صدور الحاكمين.
في سورية هذا ظاهر جدا. ربما لأن الشعور العربي قوي في هذا البلد. قوي بكل حمولة الشعور هذا من الاضطهاد والهامشية والاستبعاد، وكل هوى السلطة عند متكونين في الحزب القومي العربي الذي يحكم البلاد من 46 عاما.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى