صفحات العالم

قمم عالمية متزاحمة والسؤال واحد… بلاجواب!

مطاع صفدي
اليوم، وبعد مضي عام على بدء انهيار إحدى أكبر ذروة لحقبة الرأسمالية المتوحشة، مع تساقط أعمدة الصيرفة الأمريكية، المتلاحقة كأحجار الدومينو، ذلك التاريخ الأيلولي الآخر المتمثل في إفلاس بنك (ليمان براذرز)، كأنه قرين الانهيار المالي لقرينه الأمني في ضرب أكبر برجين للاقتصاد والأمن الأمريكيين، بعد سنة الأهوال هذه التي يعانيها عملاق القوة العالمية، صار يمكن لبعض ألسنة السياسة الغربية أن تردد قولاً مأثوراً مكبوتاً، فحواه أن الاقتصاد هو أهم وأخطر من أن يُترك للاقتصاديين فقط. بكلمة أوضح لن يُترك للرأسماليين أمر إصلاح الرأسمالية فليس صنف (الخبراء) أنفسهم، وهم أتباع مراكز الأبحاث الملحقة والممولة بالشركات والمؤسسات، سوف يبقى هو الموكول إليه تشخيص أمراض الرأسمالية، ولا ابتكار علاجاتها المستعصية.
الغرب باحث مجدداً عن بعض بدهيات ثقافته الإنسانية المنسية. أصبحنا نسمع دعوات تتجرأ على نقد مبدأ النمو المستدام الذي ينبغي أن تُعتمد أرقاْمه كمؤشراتٍ قاطعة على السلامة الاقتصادية، وبالتالي على صحة الحالة الاجتماعية العامة. فقد برهنت فلسفة النمو المستدام هذا، أنه في المحصلة الأخيرة لن يبقى الاقتصاد في خدمة المجتمع، بل هو العكس تماماً. النمو كان وسوف يكدّس الثروات في جيوب الفئة الغنية، في حين تأكل الفروقات الطبقية المتصاعدة، فُضُلاتٍ الأرباح القليلة المتاحة للغالبية. وحينما تنفجر الأزمات الموصوفة بالمالية أو الليبرالية في أوطان النخب الغربية المسيطرة، فسوف يكون على بقية العالم أجمع تعويض خسائر السادة، بالمزيد من استغناء هذه الغالبية عما تبقى لها من حاجاتها الحيوية.
يُسمع في باريس ترداد شعار أن للحضارة سياسة، فمن هم الذين يتولون اليوم حقاً إدارة َهذه السياسة. هل أصبح الغرب محتاجاً إلى استعادة ذاكرته الإغريقية الأفلاطونية، عما تعنيه حكومةُ الحكماء أو الفلاسفة من يريد أن يعترف راهناً، من بين ساسة الغرب وليس من مفكريه فحسب بأن حاكمية النمو المستدام قد أهملت عن عمد دائماً، مقياسَ الرأسمال الإنساني لمصلحة تضخيم الرأسمال الاقتصادي وحده. فقد كان المشروع الثقافي الغربي يعتدّ متفاخراً بأن ثقافته حول التقدم قائمة على جدلية كل من العامل الجيوسياسي مقابل العامل الجيوفلسفي. غير أن هذا التقدم كان يقبل من مرحلة إلى أخرى، باختزال مختلف مؤشراته إلى مجرد المؤشر الإنتاجي المادي. والآن نسمع كذلك بعض الصخب الإعلامي مردداً مصطلح العيش الهنيء أو حدّ الكفاية، وليس نموذج السعادة أو الرخاء السائد غربياً ما قبل الأزمة. ولكن ما هي التقنيات الإحصائية التي سوف تستعمل لقياس هذا الهناء. فما دلالته، وما هي خصائصه، وكيف يمكن أن تُبتكر له روائز موضوعية قابلة للتطبيق على مختلف الفئات الاجتماعية.
تلك الأسئلة يحاول الإجابة عليها تيار جديد من الفكر الاقتصادي الاجتماعي، يريد التبشير لا بانقضاء الأزمة العالمية وحدها، بالنسبة للغرب أولاً، بل بعودة الرخاء والعيش الهنيء الذي رفلت به حياة بعض الفئات الطافحة على سطوح مجتمعاتها خلال ما كان يسمى، فرنسياً على الأقل، بفترة الثلاثين عاماً الذهبية، من نهاية القرن الماضي. إنها موجة تفاؤل صاعدة هذه الأيام مع انعقاد مؤتمر العشرين للدول الصناعية، في محاولة للتخفيف سلفاً من وقع الحقائق القاسية التي لن يفر من مواجهتها هؤلاء الساسة الكبار. إذ لم يعد بالامكان الاكتفاء بأفانين إدارة الأزمات خلال العام المنصرم، بدلاً من الاتفاق الصارم حول مبادئ لاستراتيجية تغيير شاملة. فالحكومات الغربية تحديداً استطاعت إلى حد ما أن توقف حركة الانهيار، بضخ الكميات الهائلة من الأموال العامة المتوفرة في خزائنها. ولكن ذهبت معظم هذه الأموال إلى جيوب المؤسسات والبنوك الكبرى. ذلك كان هو العلاج السريع المطلوب الذي لجأت إليه أمريكا، وتبعتها معظم دول أوروبا؛ بمعنى أن (السوق) لم تكن لديه الأجوبة الحاسمة على تحديات الأزمة. وبذلك تسقط خرافة الأعجوبة السوقية هذه، المدعية لكل أسباب الكفاية الذاتية للفعالية الاقتصادية والتصدي الذاتي لمآزقها، بدون أي تدخل للمجتمع عن طريق دولته.
لكن الما يحدث الفعلي لمصير الأزمة هو أن الدولة أمست الشريك المضارب الأول حتى في شؤون الاقتصاد المالي، وليس الإنتاجي فقط. لقد أمسكت بعض البنوك المركزية بسلطة الرقابة الفعلية على المصارف الوطنية. حتى أصبح الأمر أشبه بوضع الدول الاشتراكية السابقة، حيث مارست البنوك المركزية ضخ الأموال إلى بقية المصارف، وبالتالي كانت هي القابضة فعلياً على مفاتيح السياسة المالية والإنتاجية لحكوماتها ومؤسساتها الاقتصادية عامةً.
الليبراليون يكافحون بشراسة عودة شبح الدولة، يفعلون ذلك وبكل الجهد المطلوب، بالرغم من استنجادهم يومياً بأموالها وحتى بقوانينها. اعتقاداً منهم أن النظام الرأسمالي استطاع دائماً استيعاب الدولة لتحقيق أمنه المصلحي والسياسي معاً: فلا يمكن للأزمة أن تقلب هذه المعادلة، ربما عدّلت من صورتها موقتاً. هنا يتصاعد دور المجتمع من جديد، المهمش حتى الآن ما بين قطبيْ الرحىْ، الدولة والسوق.
أساتذة ومفكرون وباحثون كثر، يطلون بأقلامهم ووجوههم عبر وسائل الاعلام المقروءة والمرئية،بعد أن كان جُلهم متوارياً أو صامتاً، منزوياً في مكتبه أو بيته. هؤلاء يستعيدون قراءات جديدة لأفكار أو متون قديمة. يهدفون إلى تذكير الناس أن الاقتصاد ليس علماً فنياً يخص المشتغلين به وحدهم. وأن الانحرافات الكبيرة التي مارستها المصارف ومؤسسات الاستثمار لم تكن تستدعي وعياً موضوعياً مسبقاً بالكورات القادمة، من قبل أهل الاختصاص أو المحللين الإعلاميين؛ بل كان الجميع يبارك الأرقام الفلكية التي تتداولها البيانات الرسمية الممهورة عادةً بتواقيع (الخبراء). فالإعلان عن الأرباح السريعة بمئات المليارات كانت تصحبها عواصف الإبهار والانبهار الحاجبة لكل نقد أو تقييم.
هكذا اكتفى (الخبراء) بأمجاد الصفقات المتبادلة بين أسياد المال وسَحَرَته كانتصارات حاسمة لليبرالية. كانت تغنيهم عن جدل الأفكار والبراهين العقلانية التي هي سلاح المنتقدين والمعارضين المهمشين.
من جديد يحاول الليبراليون إخفاء دور المجتمع المتصاعد ما بين سلطانيْ الدولة والسوق، في المرحلة الراهنة من معاناة الأزمة والبحث المضني عن كوابحها، إن لم يكن عن حلولها الجذرية. فهم مثلما يسعون الى كبح ثقافة هذه الحلول وعودة خطاباتها الجماهيرية إلى منابر المجتمعات الغربية، كذلك يتصدون حالياً لبروز أصوات المجتمعات العالمية الأخرى، ومنها تحديداً تلك الناهضة إلى مصاف الدول الصناعية الكبرى. فمن (فضائل) الأزمة اعتراف الغرب بزمالة هذه الدول التي بلغ تعدادها العشرين، مع احتساب دول الغرب المؤسِّسة. وقد أصبحت، العربية السعودية، الممثلة الوحيدة للعالم العربي، لأغنيائه بالطبع، في هذه المجموعة النخبوية، التي أنهت بالأمس أعمال مؤتمرها الثاني في مدينة بيتسبورغ (أمريكا).
الغربيون الآتون إلى هذا المؤتمر،كانت سبقتهم موجةٌ دعاية عارمة مبشرة بانتهاء الأزمة. ذلك هو الاختراع الأخير لماكينة الوهم التقليدية التي لا حياة لليبرالية بدونها، وخاصة في أوقات الأزمات.
ورغم أن (دومينيك ستراوس كان) مدير صندوق النقد الدولي، كان له تصريح حاسم أن الأزمة مستمرة، وأن الآتي من تطوراتها ربما سيكون هو الأعظم إن لم تتحقق معجزة تلك الحلول الجذرية، فلا يزال معظم الليبراليين يقاومون مجرد النطق ببعض مصطلحاتها(الإشتراكية؟)، ذلك أن المبالغة المصطنعة حول انتهاء الأزمة، كانت ترمي إلى قطع الطريق، خلال مؤتمر العشرين الحالي أمام مشاريع القوانين التي تنتويها معظم أعضاء هذه المجموعة، حول فرض مبدأ الشفافية الكاملة على عمليات الصيرفة العالمية، انطلاقاً من رقابة كل دولة على مصارفها، بحيث تصبح الدولة نفسها هي المسؤولة الفعلية عن انحرافات اقتصادها، إزاء مجتمعها والمجتمع الدولي في آن معاً.
إدارة الرئيس أوباما كانت هي المبادِرة إلى تحقيق مشروعات القوانين الخاصة بمبدأ الشفافية في أمريكا أولاً.
لكنها تصطدم حتى الآن بصعوبات الحصول على غالبية أصوات الكونغرس، حتى من قبل حزبها الديمقراطي غير المجمع على الموافقة بين أعضائه، مقابل المعارضة التامة تقريباً من قبل الحزب الجمهوري. فكيف كان لأوباما أن يقنع مؤتمر العشرين بمشروعات الاصلاح الحقيقي، تلك التي لا يزال عاجزاً عن إجازتها في بلاده.
لكن هذا الرئيس العنيد، المكافح وراء إصلاحيته إعلامياً حتى الآن، لم يكف عن التصدي لطبقة أصحاب البنوك ومدرائها الذين يديرون من وراء الستار مجموعة اللوبيات الفاعلة في أروقة الكونغرس وكواليسه.إنه يُؤنبهم علناً عبر خطابه التاريخي حقاً، في مناسبة الاحتفال بذكرى السنة الأولى على انفجار الأزمة، مع تهاوي رابع بنك عالمي، ليمان براذرز، (14 ايلول/سبتمبر الحالي)؛ لقد اتهم هذه الطبقة بأنها لا تستوعب دروس الأزمة، مشيراّ الى فضيحة المكافآت الفاحشة بالملايين والمليارات التي يحصدها هؤلاء المدراء لجيوبهم، من وراء إنجازات صفقات الأرباح السريعة، المستهترة عادة بعواقبها البعيدة العائدة بالكوارث على المصالح العامة للأمة بكاملها، وكانت هي المسببة الأولى في انفجار الأزمة العالمية، مثلما أوضحها خطاب أوباما نفسه في تلك المناسبة.
لم يُدعَ أفرادُ هذه الطبقة للمشاركة في هذه الذكرى البائسة. في حين كان هناك ممثلون عن المجتمع المدني، جمعيات حقوق الإنسان والنقابات و(اتحاد اليسار)، وحشد من أهل الفكر والصحافة النيرة. كأنما أصبحت (الأوبامايا) تكافح من أجل إثبات هويتها الإصلاحية في قلب الإعصار الكارثي، تراهن على صوت المجتمع الغائب بين قرنيْ الاحراج الأزلي: الدولة والسوق. كأنما تعتذر الأوبامايا، أمام الملأ العالمي، وليس الوطني وحده، عن عثرات الإنجاز فيما يخص وعود التغيير. فتلجأ إلى رفع الجدار الرابع عن مسرح المعارك الضارية التي تخوضها، من أمامها ومن خلف ظهرها، مع وحوش المال الظاهرين والمتوارين. الأوبامايا تحاول مخاطبة المجتمع العالمي الذي كان انتخبها قبل أن ينتخبها مجتمعها الوطني، أنها لم تأت خادمة أمينة لمؤسسة الحكم التقليدية لكي تكون مهمتها الوحيدة تنظيف القذارة عن وجه تمثال الحرية الأمريكية، إرث الحقبة البوشية وسلالتها السابقة. ذلك ما اراد الرئيس الأسمر أن يثبته كإعلان تاريخي عن استقالة أمريكا من أحادية القيادة العالمية، في خطابه الافتتاحي لاجتماعات(الأمم المتحدة) الحالية، مستنجداً برؤساء المعمورة أجمع للنهوض بمسؤولية الإصلاح الكوني، قبل نهاية العالم!
هل تكون الرئاسة الأمريكية غير التقليدية هذه، عازمة حقا على الاستعانة بقوة التغيير العالمية للالتفاف على وحوش المال في وول ستريت. هؤلاء الذين كانوا يشكلون عَصَبَ القوة الأمريكية دائما، لكن أمست تصرفات عمالقتهم هي المهدِّدة الأولى لهذه القوة. فالأزمة الاقتصادية دخلت النفق الأخطر، وهي عوارض الأزمة الاجتماعية، الجامعة في كوارثها بين أغنياء المعمورة وفقرائها في مركب المصير الواحد.
فقد كان على المؤتمر الحالي لقمة العشرين أن يصير اجتماعياً أكثر منه اقتصادياً في هذه الدورة الحالية. هنالك مليار ونصف المليار جائع في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية. وإلى جانبهم حوالي مليارين يعيشون على حدود الفقر. والبطالة تجتاح القارتين الأوروبية والأمريكية. في هذا الوقت يتابع إعلام الليبرالية التبشير المأفون بأن الأزمة شارفت على الخروج من النفق المظلم. بينما تدل كل الوقائع، باعتراف بعض عقلاء الغرب، أن ما انتهى من الأزمة هي كل الحلول المتخبطة في معالجتها.
حضارات العالم كلها مدعوة إلى الإمساك المباشر بحصص متكافئة من مشروع إصلاحية النظام العالمي. ذلك هو الامتحان الحقيقي الذي يتحدى أسياد المال المجتمعين في قمة العشرين الراهنة كما في المؤتمرات والاجتماعات القممية الأخرى التي ازدحم بها الأسبوع الماضي. حتى لا يظل لسان حال الرأي العام الكوني المراقب لأعمال المؤتمر ونتائجه، يردد الحكمة البديهية الشائعة: الرأسمالية لن يصلحها الرأسماليون.

‘ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى