صفحات مختارة

حينما تكون الفوضى أبرز ملامح المستقبل العربي؟

غازي دحمان
قد لا يتفق الكثيرون مع مقولة إن حالة التأسلم التي شهدها المجتمع العربي في العقدين المنصرمين شكلت مرحلة استقرار مهمة، بالرغم من أثرها السلبي على عملية التطور الحداثي التي كانت في الأصل مجرد حالة جنينية، لم تجد الروافع المجتمعية والسياسية، اللازمة والكافية، لتحويلها إلى دينامية فاعلة ومؤثرة.
ما يثبت هذه الفرضية، حقيقة أن ظاهرة التدين، وما أفرزته من تطرف وتعصب ديني وفكري، كانت، بالدرجة الأولى، نتيجة تردي الوضع العربي، وعلى جميع المستويات، الأمر الذي دفع بفئات وشرائح مجتمعية واسعة، طالها قدر كبير من التهميش والإقصاء، وباتت تعيش في قلب ما يسمى القاع الاجتماعي، إلى هروب جماعي (ترحال أيديولوجي وفيزيائي)، إلى مقلب، بدا أنه نافذة خلاص، مجانية ومريحة.
واللافت في هذه الحالة، أن ثمة عوامل عدة كانت قد ساهمت في تكريسها. ومن المستغرب أن يكون العامل السلطوي في مقدمتها، حيث عملت أغلب السلطات في العالم العربي على تهيئة المناخات المناسبة لنمو هذه الظاهرة عبر تقديم البنى التحتية اللازمة لتدعيمها، وتقديم القوارب الكافية لتنفيذ حالة الهروب الجماعي تلك. وذلك بهدف تحقيق هدف مزدوج، من ناحية إبعاد المجتمعات عن العملية السياسية (الدنيوية) وترك رذائلها للنخب الحاكمة، ومن ناحية أخرى يصار إلى مصادرة أي توجهات حداثية، وضرب مكوناتها وأدواتها الفكرية والاجتماعية، سواء عبر أدوات السلطة، أو من خلال تكوين البيئة الاجتماعية غير الملائمة لتطور تلك التوجهات.
ظاهرة التعصب الراهنة، ورغم انتشارها الأفقي الواسع، تواجه اليوم مشكلة انكشاف مقولاتها واهتراء الأسس الفكرية التي قامت عليها، وبخاصة بعد محاولات التسييس الخاطئة التي طالتها، وتحويلها، تنظيمياً وحركياً، إلى بنى وتنظيمات سياسية على اتساع العالم العربي، ظهر أنها كانت نسخة رديئة ومكرورة عن الأنظمة السياسية الحاكمة. كما انكشف تهافت المشاريع والرؤى، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لهذه التنظيمات والتكوينات الإسلاموية.
من ناحية أخرى، في الواقع الاجتماعي الحاضن لهذه الظاهرة، بدا أن الحالة الإسلاموية خرجت من كونها عقيدة ووجدانيات لتنتهي إلى مجرد حالة شكلية تتجسد في المظهر الخارجي للإنسان العربي (لحية وحجاب أو حتى نقاب)، ويتم استخدامها وظيفياً كهوية ممكنة ومتاحة اجتماعياً للتعبير عن حالة السخط السياسي التي يعيشها الإنسان العربي.
وبالطبع، فإن “الفرد” العربي، وحتى وصوله إلى هذه الحالة، كان قد مر بمخاضات عدة، عاش خلالها التناقض في القيم السائدة في المجتمعات العربية بين القيم الدينية والاجتماعية الموروثة الداعية للتقشف والزهد والقناعة، وبين القيم الجديدة التي هي قيم استهلاكية من مظاهر اقتصاد السوق، وكذلك التناقض بين الأفكار والقيم والإعلام مما عمق تقبل التفاوت الطبقي والرضا بالظلم والفقر وضياع الحقوق على أنها من قضاء الله. نزيد على ذلك جملة من التغيرات الجوهرية التي جعلت المجتمعات العربية اليوم تختلف عما كانت عليه منذ سنوات، وبخاصة بتأثير العولمة التي فرضت عليهم أنظمة مختلفة اقتصادية وسياسية ومنظومة قيم وأخلاق وأفكار وثقافة وفلسفة للتربية والإعلام والتعليم، بحيث أدت هذه الأنظمة إلى تحول، وربما يكون انقلاباً ـ امتد تأثيره إلى كل شيء في حياة العربي.
هذه التغييرات الاجتماعية الاقتصادية لم تترافق مع تغييرات سياسية مهمة، وبقي النسق السياسي مغلقاً ومحمياً. وقد تمظهرت الاستجابات المجتمعية حيال هذا التناقض على شكل عنف قبلي وحروب طائفية، ربما تشكل الحالة الانتقالية بين حالة الركون الذي مثلته ظاهرة الأسلمة وبين الحالة الجديدة التي بدأت ملامحها بالتشكل.
هل يأتي زمن ونترحم فيه على المرحلة (الإسلاموية)؟، باعتبار أن التخلف وبعض الفوضى أمور يمكن التعايش معها وقبولها، في حين أن التشتت وحرب الجميع ضد الجميع هي حالة لا يمكن حتى تصورها! ربما يقول البعض إن في هذا الكلام رائحة ترويج مقولات سلطوية لطالما عملت على التخويف من الديموقراطية والشراكة السياسية، ولكن في الواقع العملي، أين صارت حركات التغيير العربية، ألم تتحول إلى أطر وهياكل فارغة، ومن الماضي، ألم يتحول أبطالها إلى مستكتبين يتعيشون بالكتابة النظرية، الممجوجة، عن الديموقراطية والحرية، في حين أن مجتمعاتهم تعيش عبودية وظلم لم تعرفهما القرون الوسطى!
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى