صفحات أخرى

حرب لبنان، من الشقاق الوطني الى النزاع الإقليمي لسمير قصير

null

مساهمة أساسية لفهم جديد للأحداث وآثارها وخلفياتها وآفاقها وارتداداتها السياسية والثقافية والوطنية

يقظان التقي

حرب لبنان من الشقاق الوطني الى النزاع الإقليمي” (1975 ـ 1982) التي دامت خمسة عشر عاماً في كتاب أعدّ في الأصل لنيل الصحافي، الكاتب والمؤرخ، سمير قصير شهادة دكتوراه من جامعة السوربون، تولّت “النهار” نشره حديثاً ونقل الكتاب عن الفرنسية سليم عنتوري.

يبيّن الشهيد سمير قصير في كتابه هذا مساراً متداخلاً بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية في حرب لبنان، ويظهر فيه واحداً من مؤرخي تاريخ لبنان المعاصرين.

هي سيرة الكاتب شبه المنجزة بحثياً ومنهجياً وأكاديمياً في كتابة تاريخ المرحلة الأولى من مراحل الحرب على لبنان، في مصنف يعتبر تاريخاً شاملاً، وبعد كتبه ومؤلفاته: “عسكر على مين”، “لبنان الجمهورية المفقودة” (2004)، “ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان”، “البحث عن ربيع دمشق” (2004)، “تأملات في شقاء العرب” (2005).

بعد هذه السلسلة يأتي كتاب “حرب لبنان”، ولا يكتفي بالتعليق على الأحداث أو تدوين الوقائع أو السجال والجدال فيها، وإنما كتابة تاريخية تتدفّق بالسياقات التاريخية والمراجع حول الحدث ومضامينه بأسلوب منهجي يعيد تشكيل صورة كبرى للأحداث اللبنانية بعناصر وأدوات جديدة بحثية وبمستويات متداخلة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية.

ثم إنه كتاب الحرب الأهلية 1975، والتي عشناها الى آن، واللبنانيون يخافون ويحدسون بها لهشاشة التوازنات الداخلية والتفتت المستمر في المشهد وأزمة أطراف المواجهة.

كيف؟

كيف دخل لبنان الحرب؟ من هم أبرز رموزها؟ كيف استولد العنف نفسه؟ ما سبب استمرار الحرب؟ هل كانت الحرب أهلية أمر حرب خارجياً على أرض لبنان، ما دور الأطراف الإقليمية، ما دور اللبنانيين أنفسهم، كيف عايش المجتمع اللبناني نفسه؟

من الصعوبة بمكان صوغ محصلة مستخرجة من أحداث لا يمكن تأريخ نهايتها إلا مع بداية الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982، لكن يحاول قصير أن يقدم أجوبة مفصلة في سياق غير تعميمي. لكن يمكن ملامسة اتجاهين إثنين في فصول الكتاب وأجزائه الممتدة على 524 صفحة من القطع الكبير.

الاتجاه المتمثل في تعميق الانقسام الداخلي والوطني: تحولات في ملامح لبنان، تقلّص صورة الدولة الى مجرد تغيير صورة الوحدة الدستورية. أما الاتجاه الثاني فهو تهميش العوامل الداخلية بفعل نتائج التدخل السوري والحل العربي الذي تقرر في الرياض، ثم اللعبة الإسرائيلية في جنوب لبنان وضعف أقطاب السياسة الداخلية.

هل كانت حرباً أهلية، أم حرباً غريبة؟

يبدو التعقيد أمراً خاصاً في لبنان، وإن كانت أصداؤه تزدد تاريخياً وبعيداً في صدر الإسلام، وفي الصراعات بين الدول وحرب “المورة” في اليونان!

ربما الصيغة الأدق هي “صيغة حرب من أجل الآخرين”. لكن الحرب كانت مسألة اختيار ولو وجدت طبقة سياسية تتحلى بآفاق أخرى لكان من الممكن تجنبها لكنها الحرب أولها كلام والنار بالودين تغذى لكنها ما أن اندلعت من الصعب وقفها. لا تعد فقط استمراراً للسياسة بوسائل أخرى بل لغة مميّزة للسياسة!

كتاب هو أكثر الكتب تفصيلية بتعدد العناوين وتشعبها، يتناول الوثائق المنظمة والمراجع في دراسة منهجية بكيفية إعدادها وتنظيم فصولها المتحركة والتصريحات.

كتاب مناسب للتحولات الجارية ويصادف نشر الكتاب بعد أكثر من سنتين على اغتيال المؤلف نفسه بحرب تطال جسم الكتاب وجسم الحرب نفسها، بحرب هي الأقصى والأكثر حقداً وضراوة بحق اللبنانيين وبطريقة أكثر عنفاً في انتشار الإرهاب بحق لبنان وأكثر.

ينقسّم الكتاب الى ثلاثة أجزاء بثمانية عشر فصلاً مع توطئة وخاتمة، من الاستشعار بالهشاشة والاضطراب والاستقطاب (الجزء الأول) الى الأحداث والحرب الى أقصى حدود، وإلى حرب بلا نهاية (الجزء الثاني)، والحرب المستقبلية، وإسرائيل في لبنان (الجزء الثالث) ثم الخاتمة في لغة السياسة المميّزة.

الداخل

جزء من المقاربة الضرورية في الدراسة هو في فهم كيف أن حرباً جرى حصر امتدادها في النهاية، اضطلعت بوظيفة أساسية ودائمة في تاريخ الشرق الأوسط ثم من الضروري إجراء تمييز بين ظواهر تتعلق بالدولة أو المجتمع في لبنان وظواهر أخرى تجد جذورها آخر الحدود، فإننا مضطرون الى الاستنتاج أن جزءاً مما هو غريب ينتمي فعلاً الى التطور الداخلي للحرب. تفيد واحدة من الأفكار الشائعة أن لبنان شهد حروباً عدة ابتداء من 1975. وإذا كانت إحدى السمات الأساسية لحلقة العنف هذه، هي التبدل (في التحالفات والرهانات والتناقضات)، فإن السمة الأخرى هي استار (بؤر الحرب والجهات والمحاربين وأشكال العنف). وهذا يحمل على الافتراض أيضاً أن وحدة المكان ليست سوى معطى طارئ، وأن المتحاربين المتعاقبين على هذه النزاعات التي يفترض أنها مستقلة الواحدة عن الأخرى، لم يأخذوها في الاعتبار. لذلك ستكون الاستمرارية الجيوسياسية نموذجاً حتى عندما تشهد الأرض اللبنانية أقصى حدود التقسيم. وستحدد الاستمرارية الجيوسياسية عمليات التواصل العملانية المطروحة، وتشجع على تأجيج الخصومات وتقود الى علاقات متعددة الأطراف. حتى لو أن هذه النزاعات الجزئية، التي تتداخل في ذلك في ما بينها على مستويات مختلفة، لا تشكل في النهاية، سوى سلسلة واحدة من الأحداث، أي مسلسل حرب لبنان (ص12).

أما الجانب الآخر القائم، فيقضي بالنظر الى الحرب في لبنان برمتها، أي من خلال التطور في الشرق الأوسط عبر فئة “الطائفة” (…) “ولا خلاف في أي حال من الأحوال، على البعد الطائفي للحرب في لبنان. فمنذ البداية أبدت النزاعات الطائفية عناصر حاسمة“.

يحدد سمير قصير الغاية من بحثه بالتطلع الى أفق متوسط الفترة، لتكوين نظرة شاملة عن الحرب في لبنان وتحديداً ما يتيح في حركتها وسيرورتها، والتحدث عنها باعتبارها وحدة.

منهجية العمل

كانت القاعدة الأولى تسلسل الأحداث التاريخية وقضت القاعدة الثانية بالمفاضلة بين الأحداث والتميز في ما بينها، الى انتظام الفصول وتجزئة السرد وإقامة التقسيمات الزمنية والاستفادة من تجربة سمير قصير الصحافية وتحديداً الصحافة اليومية. الى مناقشة دومينيك شوفالييه الدراسية ووجهات نظر اليزابيت بيكار، والميول التجريدية لدى جوزف باحوط (…).

تاريخ نشاذ

وجد الاعتقاد بهشاشة لبنان مرتكزه الأساسي في تجزؤ المجتمع اللبناني، المكوّن من مجموعات متلاحمة الى حد كبير هي الطوائف الدينية التي يفصل بها الكثير من الأفكار والمعتقدات ولا سيما التنافس الذي يحرض عليه النظام اللبناني، وانبثقت من هذا التجزؤ مشاكل ينيوية خطرة أرخت بثقلها على وحدة البلاد، وبقيت بلا حلول ناجعة على الرغم من التقدم الملحوظ. لكن انعكست الطائفية احتدام النقاش عقوداً حول تطور الكيان اللبناني، عقوداً من التعددية والهيمنة المارونية من جهة وحول شرعية كيان الدولة الجديدة التي أعلنها الجنرال غورو في الأول من أيلول/ سبتمبر 1920، ولا يتسع المجال لاستعادة ذاك الجدال، مع أن البعض يعود اليوم لإعادة محاكمة لبنان الكبير، وعلى ما يبدو لم تفقد هذه المسألة حتى اليوم معناها!

الخطر أن الطائفية انعكست على مشكلة بنيوية خطيرة جداً، هي المحسوبية التي استفاد منها عدد من كبرى العائلات، ومع ذلك شهد لبنان ازدهاراً في الستينات بلغت مساهمة الصناعة 12 ـ 13 في المئة من الناتج القومي وبلغت 20 الى 25% في 1974، وجاء الدفع الحاسم من بلدان الخليج العربي، واستفاد لبنان من الثورة النفطية الأولى ومن إغلاق قناة السويس منذ العام 1967، وارتفعت العائدات السياحية في 1968 و1974 أربع مرات حتى باتت تشكل 10% من الناتج القومي الخام وبين 1960 و1973 شهد لبنان ميلاً لزيادة حجم فئات متوسطي الدخل وحجم فئات مرتفعي الدخل وبلغت نسبة التقدم 44% في جنوب لبنان و40% في شمال لبنان، و15.6% في البقاع (إبان رئاسة فؤاد شهاب) لبنان الذي كوّنته كل هذه العوامل الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية وقد عاش لبنان ابتداء من أواخر الستينات فترة غليان سياسي كبير، تخطى بأشواط الأطر التقليدية للنظام اللبناني، وكان ممكناً تلمس هذا الغليان عبر الطابع السياسي الأكثر تميّزاً الذي استخدم الصراعات الاجتماعية.

مجتمع حيوي

كان لبنان في مستهل السبعينات بلداً تتوافر لديه كل مظاهر الحركة والحيوية ومستواه الإجمالي على صعيد التنمية الذي وضعه في مقدم البلدان العربية في الشرق الأوسط… وقد بلغ متوسط النمو بين 1950 و1974 7% سنوياً، أي 3 الى 4% للفرد الواحد.

بؤرة اضطراب

كان أحد مفاتيح التجربة الشهابية أنها أخذت في الاعتبار هذه الحساسية المفرطة للبنان حيال محيطه، بوقوفه الى جانب الجمهورية العربية المتحدة قبل الوحدة السورية ـ المصرية وبعد انتهائها. وكان اختيار سياسة خارجية منحازة الى القوة العربية المهيمنة، حتى لو تميّزت ببعض الفوارق، وسيلة في الواقع لضمان وحدة الأراضي اللبنانية، وقد تجسّد ذلك في اللقاء بين عبدالناصر والرئيس شهاب في خيمة على الحدود اللبنانية ـ السورية. كان عبدالناصر، في المقابل، يحرص على مراعاة خصوصية لبنان في “الحرب العربية الباردة”. فهذا التنافذ بين الناصرية والشهابية كما كتب إدمون رباط ينطوي على عداء مع عبدالناصر بعد انتهاء حرب الجزائر، بل كان يتجه في المقابل نحو سياسة عربية جديدة بدفع من الجنرال ديغول.

انزلاقات

لم يؤد انطلاق اليسار الى طمس الانقسامات الطائفية، بل سيعقدها كما سيتبيّن في مستهل الحرب، ويذكر سمير قصير كيف أن الصحافة الغربية التبست عليها طبيعة التحالفات المعقودة في الأشهر الأولى للحرب، صفة “الإسلامي ـ التقدمي” ثم حولتها موضوع تهكم.

ويحدد سمير قصير أن بداية النزاع اللبناني ترقى الى العام 1969، وهذا تحليل منتشر نسبياً لكنه أقل إيحاء، إن البداية الحقيقية للأزمة تعود الى أيار/ مايو 1973، ويطلق أحد الكتاب صفة “ساراييفو لبنانية” على الحدث التمهيدي لتلك الأزمة، أي نزول فرقة الكوماندوس الإسرائيلية في بيروت واغتيال ثلاثة من القادة الفلسطينيين. ذلك أن آليات الدخول في حرب لبنان لم تتحرك إلا لأن الإطار الذي تندرج فيه قد شكّلته عواقب أزمة 1973 (ص91).

التمهيد للحرب

في الفصل الرابع إشارة مهمة الى تجنب اليسار صب الزيت على النار، وهذا ما فعله كمال جنبلاط الذي دافع عن موقف الجيش اللبناني في أحداث صيدا وبأن الجيش اضطر الى الرد على الرصاص الذي انطلق من بنايات مجاورة، وبأن الأحزاب التقدمية تقترح إرسال وفد الى صيدا لتجنب التصعيد، وتحدث عن فوضى تسبب بها “بعض مجموعات اليسار المنحرف” وعملاء مفترضون لإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، وكان جنبلاط حريصاً على إنقاذ الحكومة، مع ذلك لم يكن اليسار قادراً على الامتناع عن الاحتجاج على قمع التظاهرة (ص110). ويتحدث سمير قصير عن ازدواجية الالتزام والدور الذي اضطلع به الوجود الفلسطيني المسلح من إطلاق زخم الاحتجاج المتعدد الأشكال، بكسر استئثار السلطة بالعنف في قرى الجنوب أولاً، ثم في ضواحي العاصمة (ص112).

ويستنتج قصير النهج الذي مارسته جهاراً منظمة التحرير الفلسطينية في إدارة الأحداث السياسية اللبنانية، على الرغم من ثقلها الميداني، والعناصر المحرّكة للأزمة كانت تكمن في الدرجة الأولى في التناقضات الداخلية ومعها لا يمكن بالتأكيد إلغاء العنصر الفلسطيني بشكل متناسق على جانبي المتاريس (ص113)، جاء هذا في وقت تصاعد في المعسكر المسيحي الحزم والانغلاق، دخلت حملة كمال جنبلاط لعزل حزب الكتائب من أي معنى في وقت انتشرت دينامية الدفاع الذاتي في المجتمع المسيحي (ص116).

كانت قدرة التأثير للائتلاف اليساري على الصعيد السياسي، وهنا الى حد كبير بالنفوذ الشخصي لكمال جنبلاط الذي كانت إحدى مفارقاته أن حزبه تخطى صعوبة حدود الطائفة الدرزية، وكان قادة الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي في لبنان قد تصدروا الصفوف الأمامية (…) وهذا يفسر لماذا كتب محسن ابراهيم وجورج حاوي الفقرة الأولى من بيان استقالة الصلح، حليف جنبلاط (ص122).

وقد توّج البرنامج المرحلي للحركة الوطنية تحولاً طويلاً لليسار اللبناني وعبر عن إدراك تبلور تدريجياً لدى زعمائه، مفاده أن التغيير الاجتماعي والسياسي كان يصطدم بالعقبة التي يشكلها الطائفي. وكان أيضاً ذروة مسيرة كمال جنبلاط أنه كان يرى نفسه عن جدارة على رأس حركة تصحيحية واسعة ويعتبر أن لطموحاته الشخصية أسساً راسخة دفعت به الى الموافقة على صيغة الدائرة الانتخابية الواحدة وحتى يصل الى هذه المرحلة، تنازل اليسار الماركسي الممثل بالحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي في لبنان عن القسم الأكبر من مسلماته من أجل تثبيت خط سياسي، وحتى لا يستعدي اليمين المسلم، وافق على ألا يصوغ برنامجاً اقتصادياً واجتماعياً (ص127).

اللعبة السورية

حتى نهاية العام 1975، بقي الوضع في لبنان منضبطاً في نظر المسؤولين السوريين، ولكن مخاطر الانفجار الشامل للتصعيد الذي بدأه الفريق المسيحي، حملهم على الاعتقاد بأن الوقت بات يحسب لهم.

سوريا لن تتساهل أبداً مع حالة تقسيم لبنان (…)، وكان هذا البلد جزءاً من سوريا، وسنستعيده لدى أول محاولة جادة للتقسيم”. (تصريح نشرته جمعية كويتية في 7 كانون الثاني. يناير 1975) وأما أشبه اليوم بالأمس!! بالتأكيد ثمرة هذه السياسة كانت بفعل تأييد زعماء الفريق المسيحي للمهمة السورية (ص161) وزمن كامل من المفارقات وازدياد نقاط اللاعودة وانعكاس العوامل الاقليمية، ما أدى الى فشل الوثيقة الدستورية حينها في إرساء الهدنة التي خرقتها اشتباكات عين الرمانة والشياح وعدد لا يحصى من عمليات الخطف (ص167)، واختراقات اليسار في منطقة الفنادق الكبرى والجبل. وقد اضطر كمال جنبلاط في 27 آذار/ مارس التوجه الى دمشق والاجتماع لتسع ساعات مع الرئيس الأسد، ألح على استقالة فرنجية شرطاً لوقف المعارك فعارض الأسد هذا المطلب. وبدأ الانفصال بين اليسار وسوريا، وفرض الأسد الحظر على اليسار (ص176).

هنا ساهم تعقيد شخصية جنبلاط وغموضها في الضبابية الايديولوجية والسياسية التي ميزت اليسار، هو غموض ملائم، لأن ثمن الوضوح سيكون باهظاً، ويخلص سمير قصير من هذا السياق أن كمال جنبلاط بتزعمه الحركة اليسارية برهن على ميول انتهازية. هو الذي أعطى اليسار الوزن السياسي والعكس ليس صحيحاً. هنا كمنت “المغامرة” في هذه النقطة بالتحديد. ومع ذلك لم تفشل لأنها مغامرة. بل فشلت، كما سبق القول بسبب الضغط السوري الذي لا تبرره الرهانات اللبنانية مهما قيل فيها (ص191) وعلى إشكالية السيطرة على المسعى الاستفزازي للحركة الوطنية وعلى قدر كبير من البراءة وحتى الجهل حيال سوريا، ما يسميه وليد خالدي الاستراتيجية السورية بالتقدم التدريجي السوري القائم على مبدأ: “تعال وانتصر علينا إذا كنت قادراً على ذلك” (ص196).

مع حجم الخلافات غير الضئيلة بين الحركة الوطنية وسوريا، وما كان يتوقعه الناس حصل وتدخلت سوريا رسمياً الى لبنان وسط ردود فعل تفاوتت بين الترحيب الحار والعداء، فأيد قادة الفريق المسيحي التدخل، وفيما كان ترحيب فرنجية والجميل حاراً، أعرب شمعون عن بعض التحفظات، ورحب أيضاً الزعيمان الشيعيان المتنافسان كامل الأسعد والامام موسى الصدر. وتميزت ردود فعل السنة بمزيد من التحفظ. فتجنب كرامي اتخاذ موقف. أما سلام فكان موقفه الذي لم يعلنه بالحدة نفسها، قريباً من موقف ريمون إده الذي ندد بـ”الاجتياح السوري” ودعا الى المقاومة. (ص203).

لم تكن التعبئة هي الغاية من اللجوء الى الايديولوجيا في هذا المجال. لكنها اضطلعت بوظيفة نزع فتيل المخاطر التي يمكن أن يزيد من حدتها استياء الرأي العام. وبدا الاستياء في الوقت نفسه شاهداً على قدرة النظام على الحفاظ حتى الآن على بعض الملاءمة بين الايديولوجية القومية والمعادية للامبريالية وبين ممارسة تنأى عنها. لكن من المشكوك أن تكون هذه الملاءمة قد نجحت في تل الزعتر. بسبب تزامن التواطؤ السوري في سحق تل الزعتر الذي تمثل بمنع شن أي هجوم فلسطيني تقدمي مضاد وبمشاركة خبراء إسرائيليين لسوريا في هذا الحصار (ص230).

تقلب ما بعد الحرب

ولئن كانت إشكالية الرقابة الموجه الرئيس للسياسة السورية، فلا شيء يوحي بها أفضل من غلق الصحف في بيروت الغربية: “المحرر”، و”الدستور”، و”بيروت”، ثم “السفير” و”النهار” و”الأوريان لوجور”، وأول مرسوم تصدره الحكومة في رئاسة سركيس 1977 قد أضفى الصفة الشرعية على الأمر الواقع الناجم عن وجود القوات السورية مع منع أحد البنود كتابة عناوين مانشيت على أكثر من ثلاثة أعمدة فيما تتألف الصحف اللبنانية من ثمانية أعمدة. كما أن الأمر يقضي بالضرورة التقليل من أهمية أي شيء أو نزع الصفة السياسية عن أي شيء (ص261). إنها ساحة حرب الشرق الأوسط، والبحث عن تسوية شاملة مع جولة استكشاف سايروس فانس ومقترحات بيكر واتفاقات كامب ديفيد والتمثيل الفلسطيني في مؤتمر جنيف في إعادة صوغ المفهوم الأميركي في الشرق الأوسط الذي دفع الى التدخل الإسرائيلي المباشر وتصاعد التصعيد من بيروت حد الذروة في أعمال القصف السوري للمناطق الشرقية. يسرد ويسرد سمير قصير روايات شاملة لمجمل الأحداث في سجل توثيقي لا يستثني أي تفصيل أو رواية لأعمال الخطف والاغتيالات ومعركة الأشرفية، وحرب المائة يوم وبورتريه كاملة عن بشير الجميل، والمطالب السورية لا سيما منها تلك التي حملها فؤاد بطرس أمام الرئيس سركيس الذي قبلها بعد زيارة الى دمشق في 5 تموز حول إعادة التوازن الطائفي الى الجيش ومطالبتهم بإلغاء الخطة الأمنية التي تعهد الى الجيش تسلم الأمن في المناطق الشرقية، وتمحورت الفكرة حينها حول مصداقية الجيش اللبناني (ص356)، ومن هذه النقطة كانت تنسيق الهواجس السورية في لبنان كنقطة اتصال وحيدة ممكنة بين إسرائيل وسوريا فهو المجال الذي يتجلى فيه “التوازن الاستراتيجي” المرجو، مشروعاً أو إرادة، واختبرت في لبنان القوة الإقليمية لسوريا، كما بقي لبنان مسرحاً للسياسة الفلسطينية في جبهة مع إسرائيل وفرض نفسها على نحو ما، دولة مواجهة! (ص381).

العنف اليومي

كان الوضع اللبناني يتغدى من عنف متفشٍ ينفجر من كل مكان في الشوارع المكتظة وعلى الطرق، ومن داخل الأحياء والقرى، والعنف في الصراعات السياسية والصراعات الايديولوجية وسلاح اغتيال سياسي، ومن جهة إقامة تجانس في منطقة الجبهة اللبنانية ومواجهات داخلية، والفوضى في المناطق الأكثر أسلمة الى تدهور العلاقات بين الجيش والميليشيات والى أعمال إجرامية وأبرزها سرقة السيارات وممارسة ابتزاز التجار، وانعدام السيطرة على سلوك المنظمات الفلسطينية والأخطر مواجهات الشارع في المناطق الأكثر أسلمة والمواجهات في التنظيمات الفلسطينية نفسها، الى حدث اختفاء الامام الصدر وأعمال خطف الطائرات، وتصفيات جسدية وقد تفاقم الاضطراب الأمني وزاد منه أن القادرين على حفظ الأمن، لم يفعلوا، أي القوات السورية (ص411).

والاعتداءات التي استخدمت فيها سيارات مفخخة ابتداء من العام 1999 وكانت الشخصيات المستهدفة، مشهد لا يختلف كثيراً عما يجري اليوم مع حرب خفية تتماهى فيها المخابرات السورية مع الاستخبارات الإسرائيلية وهذا ما حصل لدى اغتيال أبو حسن سلامة (1979).

الشخصيات الأخرى التي استهدفتها الاستخبارات السورية هم الرجال الثلاثة من آل الجميل وكذلك كميل شمعون وقد نجوا جميعاً العام 1979. هذا الى دب الرعب في النفوس وكما في المناطق الشرقية كذلك في “حي البسطة” (1979)، وسوق الروشة (1980)، ومطار بيروت (1980)، ومن خارج العاصمة في اعتداءات أكثر دموية بسبب الكثافة السكانية مع فارق السلوك حيال الاعتداءات خلفية حرب سورية ضد لبنان (بيروت الغربية) وحالة مواجهة مع السوريين في بيروت الشرقية (415).

مراتب أزمة مستعصية، أو نواة أزمة غير قابلة للانضباط وتشعب الانقسام الوطني وأزمات حكومية، والهجوم على الدولة، والتمرين المرتجل لبشير الجميل، مع خياراته الجديدة، وجبهة زحلة، والعودة الى التصعيد وتمدد الجبهات الى بيروت، والتجاوزات في الجنوب واختبار القوة الاقليمي مع أزمة الصواريخ السورية… كله في انتظارات تفوق الوصف (1981 ـ 1982)، لكن مع استمرار الحرب وإغلاق المعابر، وتردي الأوضاع، واختلال أمني دائم ونبذ الحركة الوطنية والإعداد للاجتياح الإسرائيلي العام 1982 وخطة “أورانيم” مع طموحات بشير الجميل.

والخلاصة تفتت مستمر في مجمل الفترة من 1977 الى 1982 مع كثير من التنويعات داخل المشهد الواحد في لعبة غير متعادلة النتائج (ص500) مع الطابع المستعصي للانقسام الذي أوضحته التحولات الطارئة على الجغرافيا المدينية (المجمع المسيحي) وإمحاء اليسار، والهوية الطائفية في اتجاه الالتحاق بالدولة “بيروت الغربية”، إلا أن فكرة الحياة الوطنية المشتركة التي تأثرت بتقسيم الأرض باتت وهماً أو في أفضل الحالات مرتجى لم يتحقق إلا مع اغتيال الشهيد رفيق الحريري 2005 اثر نداء المطارنة الموارنة الشهير من العام 2000.

لسمير قصير أسلوب في الكتابة شديد التنويعات داخل المشهد الواحد والإكثار من السلوكيات البحثية من دون حتى عاطفة أو وجدانية المؤرخ كما عرفت لدى بعض المؤرخين لتاريخ لبنان الحديث، وهذا في إشارات المؤلف المتلاحقة الى العناوين الكثيرة ومناقشاتها ومراجعها.

والأصح كتابة وافية بأبعاد الحرب المختلفة والمعادلات الاقليمية والإرهابية المعقدة بين المحلي والاقليمي والعامل الإسرائيلي لا سيما استجابة سوريا لما تريده إسرائيل بشكل نافر!.

كتاب مناسب الآن يقود الى فهم ما يجري في لبنان والمنطقة ويقود الى تضامن أوسع مع لبنان المأزوم الى هذه الدرجة أو تلك مع أمور تجري خارج الواقع.

كيف الخروج من دائرة الأزمات؟ الكتاب مساهمة كبيرة لفهم الأحداث وآثارها وآفاقها، يختلف عما كتب لمؤرخ جديد ويصادف أن لبنان ساحة الاحتلالات الكبرى، مع تقويم مهم لسمير قصير لأسباب إخفاق الحركة الوطنية ودروس الإصغاء الى الديموقراطية وثقافة المجتمع المدني.

إذاً هو كتاب مرجعي لرؤية الأمور على حقيقتها، والشهيد عاش حياة ممتلئة صاخبة مع اتساع مروحيته الثقافية وإسهامات لقاءاته مع الشخصيات على المكتب اللبناني ـ السوري ـ الفلسطيني حيث يتحدر عائلياً.

لذلك جاء السياق مترابطاً، ليس محض تاريخي، في واقع معقد من الزمن والجغرافيا والأزمات المتناسلة بمعناها الملحمي لدرجة دخول لبنان في وجود افتراضي فجاءت الكتابة من باب تاريخي وسياسي وثقافي وبطريقة أخرى. شهادة لعدم تكرار جريمة الحرب في لبنان والقناعة أن لبنان سينال استقلاله، ولكنه استقلال باهظ جداً والاستقلال لا يتحقق مجاناً وكذلك التاريخ.

المستقبل – الثلاثاء 22 كانون الثاني 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى