صفحات مختارةياسين الحاج صالح

من التحرر السياسي إلى الانبعاث الثقافي والأخلاقي

null
ياسين الحاج صالح
حاجة مجتمعاتنا المعاصرة إلى الانبعاث الثقافي والأخلاقي لا تتدنى عن حاجتها إلى التحرر السياسي والعدالة القانونية. لكن بينما يقتضي التحرر السياسي مواجهة الاستبداد الداخلي أو الخارجي وقيام نظم سياسية عادلة وتحررية، فإن الانبعاث الأخلاقي والثقافي يمر عبر مواجهة الديني أو الاشتباك معه، ونشوء نظم قيمية إنسانية وتحررية. هذا صراع مديد عسير، إلا أنه لا غنى عنه من أجل تجددنا النفسي وانفتاح آفاقنا الروحية. عبر الصراع مع المجمل الإسلامي، العقدي والتشريعي والتاريخي والثقافي، يمكن أن تتشكل سيادة إنسانية شجاعة، يؤسس افتقارنا إليها اليوم لوهن قيم الحرية والتحرر السياسي والاجتماعي. ويؤسس أكثر لتدهورنا المعنوي والثقافي الذي إن لم يفق تدهورنا المادي والسياسي، فإنه عامل تثبيت له (على رغم المنازعة السياسية المحتملة).
هذا ليس لأن الدين، الإسلام أساساً، هو اسمنا العالمي ومنبعنا الروحي وعنوان ثقافتنا، ولا لأنه من الواضح جداً أننا في أزمة دينية وروحية اليوم، وأن الإسلام في قلب هذه الأزمة، ولكن كذلك لأنه مستودع النماذج الأولية لمفاهيم أساسية في أي ثقافة كالوحدة والسيادة والعبدية والخلق والقدرة والإنسان والجماعة والعدل…، مفاهيم يتعذر تشكل ثقافة متحررة جديدة من دون صراع معها ومن دون تحويلها إنسانياً.
الإسلام دولتنا الروحية والثقافية، وتحررنا الروحي والثقافي يمر عبر «تحويل ديموقراطي» لهذه الدولة. هذا التحول وحده يمكن أن يحوز طاقة هيمنية، تؤسس لتشكل أكثريات/ أمم جديدة، الأمر الذي لا يستجيب له أي من التيارين الكبيرين اليوم في مجتمعاتنا المعاصرة، التيار الإسلامي والتيار الحداثوي. الأول ينكر الأزمة الدينية والثقافية والحاجة إلى الانبعاث الديني والأخلاقي، ويرفض بالطبع الصراع مع دولتنا الثقافية، ذلك أن «الإسلام هو الحل». أما الثاني فينكر الأزمة أيضاً، ويرفض الصراع بدوره، وهذا لأن «الحداثة هي الحل»! فلم الصراع مع «الدولة الثقافية» إن كنت متيقناً من «الحل»، إلا أن يكون صراعاً ضدها حصراً!
نتكلم على انبعاث لأن الكلمة تجمع بين الإحياء وبين التجدد، وتتضمن إقراراً بفقدان مكانة وإرادة استعادتها. لا نتصور انبعاثاً يقطع كلية مع الموروث العربي الإسلامي، لكن في المقابل لا نتصور انبعاثاً لا يكون انعتاقياً، ينزع سيادة الموروث السياسية والعقلية، فيضفي عليه الصفة النسبية والتاريخية، ويدرجه في تركيبات اجتماعية وثقافية وسياسية جديدة، مهيمنة، فيصبح ملكاً لنا بدل أن نكون مملوكين له.
نظامنا الثقافي ككل، و «الإسلام» واللغة العريية ركناه الأساسيان، في أزمة جوهرية، ليس أقل وجوهها شأناً ضعف إسهامنا في صنع معنى العالم وفي إبداعات العالمين، وليس أبرز مظاهرها تدهور علاقتنا، موصوفين عرباً أو مسلمين، بالعالم الحديث. أهم من هذا وذاك أن ثقافتنا لا توفر التغطية الفكرية والقيمية والرمزية لشروط حياتنا المعاصرة، ولا يبدو أنها تزودنا بما يلزم من أدوات لفهم هذه الحياة أو لإصلاحها أو حسن التكيف معها. من هذا الباب لا مناص من مواجهة جدية لهذا النظام والعمل على إعادة تشكيله في صورة جديدة، تاريخية وإنسانية ونسبية.
والطابع الجوهري للأزمة والانعتاقي للتحول المطلوب يفوت كلا التيارين المهيمنين في ثقافتنا اليوم. يمزج التيار المنسوب الى الحداثة بين تقرير جوهرية الأزمة (في صيغة: «الإسلام هو المشكلة» أحياناً) وبين الطابع الهزيل والإجرائي لما يقترح من حلول: تصور تبشيري وفقير للعلمانية، وقانوني شكلي للنظام الاجتماعي، ومفاهيمي شكلي أيضاً للمعرفة. ينكر الحداثيون الخلص منطق الانبعاث، وما يقتضيه من اشتباك متعدد المستويات مع الميراث التاريخي، فيجعلون الانعتاق المأمول قفزة عدمية وغير عقلانية.
أما الإسلاميون فينكرون البعد الثقافي والروحي للأزمة، ويردونها إلى أزمة سياسية، سببها نظمنا السياسية والحداثة كنظام سياسي وثقافي دولي. تصورهم للأزمة هزيل جداً، والانعتاق غير متصور على أساسه، ولا الانبعاث، اللهم إلا أن يكون هذا «تجديداً»، ينفض الغبار عن أصل إسلامي ثابت لا يكف عن مشابهة ذاته وإثبات صلاحيته العابرة للأزمنة والأمكنة.
ضد هذين معاً نحتاج إلى الإقرار بجوهرية الأزمة وجوهرية المعالجات معاً. أي إلى إدراك العمق الثقافي والديني لأزمتنا، والحاجة إلى التجدد الثقافي والديني. ونرى أن ذلك يمر عبر صراع واسع مع المجمل الإسلامي تطلعاً إلى الانعتاق التام من قيودنا الداخلية والخارجية.
هذا صراع مأسوي ومنتج للمعنى أكثر بلا شك من الصراع الضروري والواجب مع صيغ الحكم الاستبدادية. وأكثر من الصراع مع الحداثية التي هي مجرد تشكل طرفي وطفيلي للحداثة الغربية. ثم إن الصراع مع الديني ضمانة للجذرية الفكرية، وللعدالة والاستقامة. إنه لَدرس في التربية الأخلاقية لا منافس له أن نتمكن من منازعة الديني على أرضية قيم التحرر والعدالة والإنسانية. في المقابل، لا نتصور تحرراً صميمياً وثورة روحية وأخلاقية من دون خوض هذا الصراع الشاق.
وإلى ذلك كله يمكن هذا الصراع أن يكون الأقل نخبوية بين صراعاتنا والأكثر تأهيلاً من حيث المبدأ للمصالحة بين «العقل» و «الشعب»، فاتحاً الباب لتجاوز ذلك «الفصام النكد» الذي ميز حداثتنا الواقعية بين ثقافة نخبوية غير قابلة للتعميم وللهيمنة، وبين جمهور متروك للعامية والتحجر. أي بالفعل بين طائفية وطائفية. هذا في تقديرنا هو المأخذ الأكبر على الحداثية. إنها نخبوية وليست ديموقراطية، وإطلاقية وليست إنسانية، وعنيفة وليست جذرية، ومتزمتة وليست متسامحة. هذا ما يضعها على تناقض مع الحداثة الغربية التي جمعت من دون ريب بين العقلانية والشعبية، وكانت ديموقراطية لذلك بالذات.
ما يفوت حداثيتنا هو ربط الصراع مع الديني بتطلع إنساني وتحرري وديموقراطي.
مثل ذلك يفوت الإسلاميين أيضاً. إنهم يوالون مثالاً للسلطة مطلقاً، يطيح ما يحتمل وجوده من حس عدالي وتحرري عند بعضهم في صراعهم مع السلطات المحلية والدولية.
سؤال: ألا يقود نقد الحداثية إلى نسبنة نقد الإسلامية؟ وتالياً إلى تخفيف وقع هذا النقد الأخير؟
هذا محتمل. لكن لا نرى مناصاً من النقد، لكون الحداثية تشكّلاً نقدياً زائفاً، يشوش قضايا نقد الإسلامية والصراع معها، أو يسخرها لتطلعات وأجندات جزئية عاجزة عن الهيمنة. أي طائفية. من الضروري لذلك إدراج نقد الحداثية في سياق النقد الأساسي للإسلامية.
هل يكون الصراع مع المجمل الإسلامي ممراً إجبارياً لانبعاثنا الثقافي والأخلاقي؟ إلى حد كبير. بأبعاده الروحية والأخلاقية والتشريعية والسياسية والميتافزيقية، طالما كان الإسلام متن ثقافتنا ومركز ثقلها. ولذلك من شأن الاشتباك الفكري والنفسي والأخلاقي معه أن يؤسس لثقافة أغنى مما يتيحها التجنب. هذا مع ملاحظة أن تجنب الاشتباك يكاد يكون مستحيلاً.
والمسألة في النهاية هي الانبعاث والانعتاق، لا التبعية والالتحاق، ولا التحرر السياسي وحده.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى