التفاوض السوري الإسرائيلي

السياسة السورية بين المناورة والمقامرة

null

نبيل شبيب

فور الكشف عن جولة المفاوضات غير المباشرة على أرض تركيا بين حكومتي أولمرت الإسرائيلية والأسد السورية، سارع الطرف الإسرائيلي إلى المطالبة بتغيير السياسة الرسمية السورية تجاه منظمتي المقاومة الفلسطينية واللبنانية حماس وحزب الله، وتجاه إيران، وسارع الطرف السوري إلى رفض ذلك.

كما اقترن الكشف عن المفاوضات بمسارعة الطرف السوري إلى القول بحصوله على ما يقضي بانسحاب كامل من الجولان إلى حدود 4/6/1967، ومسارعة الطرف الإسرائيلي إلى إنكار ذلك.

هذا مع ملاحظة أن مجرد المضي بعيدا في هذه المفاوضات، يعني تغيير سياسة “المقاومة والممانعة” وإن جرى إنكار ذلك شكليا لترويج النهج الجديد شعبيا، وأن المسألة الحاسمة هي “السيادة” دون قيود على الجولان، وليس مجرد انسحاب عسكري إسرائيلي منها، وإن جرى تصوير ذلك تحقيقا لهدف “التحرير” مثلما كان مع سيناء.

ولكن، هل كان هذا فعلا هو الموضوع الرئيسي للمفاوضات؟ هل كان هذا فعلا هو موضوع الخلاف الرئيسي في المفاوضات؟

مرحلة على درب توطين إسرائيل

1- الأرجح أن التصريحات السريعة المتناقضة كانت لتوجيه الرأي العام إلى مسائل محددة، بغض النظر عن المجرى الحقيقي للمفاوضات، وما ستسفر عنه، لاسيما أن ما أعلن عنه يصلح لتصوير أي نتيجة بأنها حققت “نصرا سياسيا” ما، وهو ما يحتاجه الطرفان لتسويقها لاحقا.

2- الشعارات من مثل “الأرض مقابل السلام” شعارات مضللة من الأصل، فعند انطلاق هذا الشعار كان من البداية يغطي على حقيقة أنه ينطوي على مرحلة أخرى على طريق “توطين إسرائيل إقليميا، رسميا وشعبيا”، وهو المطلب الإسرائيلي القديم الجديد.

3- الاعتراف المطلق بمعنى “توطين إسرائيل إقليميا، رسميا وشعبيا”، هو محور المطالب الإسرائيلية والغربية منذ ستين عاما، وقد تم تقديمه، أي تمت تلبية هذه المطالب، من جانب الأنظمة العربية، بما فيها نظام الحكم في سوريا، درجة بعد درجة.

فكان “الاعتراف الواقعي” في مؤتمر الخرطوم بعد حرب 1967، ثم “الاعتراف الضمني” في مؤتمر فاس وتقديم مشروع الملك فهد للسلام، ثم “الاعتراف السياسي الرسمي”، من خلال مصر عبر مفاوضات كامب ديفد وما انبثق عنها، ثم على المستوى الرسمي العربي، من خلال ما شاع وصفه بالهرولة نحو “التطبيع” ومن خلال التواصل على المستويات الرسمية، وهو ما بدأ قبل مدريد، ولم ينقطع حتى الآن.

لا يظهر مغزى جولة المفاوضات السورية الإسرائيلية الجديدة دون وضعها على أرضية ما يسمى “التطبيع”، وقد كان موضع الاتفاق السياسي الرسمي عبر كامب ديفد وإفرازاته، فوُضعت من أجله تفاصيل واسعة النطاق فيما سمي معاهدة السلام الثنائية.

ولكن يلفت النظر أن طرح كلمة “التطبيع” شعارا وهدفا في قضية فلسطين عموما، جاء في وقت متأخر، أي عندما تبين أن الشعب في مصر لا ينفذ إرادة “السياسي” الذي وصل إلى السلطة والذي بقي فيها وتحرك من خلالها وأعطى توقيعه باسمها دون أن يكون وصوله للسلطة ولا تصرفه باسمها متوافقا مع إرادة الشعب، ولا معبرا عنها، ولم يتخذ خطوة قانونية للحصول عليها لاحقا.

فكان ما خطته المعاهدة في واد، وواقع التعامل الشعبي معها في واد آخر، رغم مختلف أشكال الضغوط المعيشية والاستبدادية ورغم الإغراءات المخادعة في وقت واحد.

هذا ما يشير إلى أن ابتكار شعار “التطبيع” قد استهدف فيما استهدف أن يكون “وسيلة” لتعويد الشعوب على حالة جديدة، راهن السياسيون الماضون في دروب التسويات على نشوئها من خلال مفعول “التقادم” ونشأة جيل جديد لم يعايش النكبات السابقة، وعُزل بينه وبين مجرد دراستها على حقيقتها حتى في المناهج المدرسية، وجرى ما يكفي لغسيل دماغه جماعيا عبر وسائل الإعلام.

فيسهل أو ساد الظن أنه سيسهل تمرير نكبة “تطبيعية” عليه، فتأتي مرحلة اعتراف جديدة، يمكن إعطاؤها صبغة مشروعية قانونية دولية ما، يتم توطين إسرائيل بموجبها إقليميا.

الانتفاضات أسقطت هذه الأوهام، وساعد على ذلك الرد ببطش إجرامي عليها، أعاد القضية إلى مكانتها من الوعي الشعبي والفكري، فلسطينيا وعربيا وإسلاميا، بل وأوجد بعض المرتكزات المبدئية لمثل هذا الوعي الشعبي عالميا، وساهم إسهاما كبيرا فيما تحقق من تلاقي التيار الإسلامي والقومي العربي على أرضية تعامل مشتركة.

المراوغة مرجوة ومستبعدة

السياسة الرسمية السورية تميزت عن سواها لفترة طويلة، ولأسباب عديدة لا يوجد ما يستدعي التفصيل فيها هنا، فلم تتحرك على طريق “التطبيع” والتمهيد من خلاله لخطوة اعتراف أبعد مما مضت إليه مع سواها عربيا من قبل.

والمفاوضات الحالية لا تطرح في جوهر مغزاها الأسئلة التي يجري ترويجها إعلاميا عبر تصريحات رسمية، حول تبادل أرض وسلام، وحول تبديل نوعية العلاقات مع المقاومة وإيران، بل تطرح السؤال الجوهري الحاسم: هل تقامر السياسة الرسمية السورية بتميزها في الفترة الممتدة ما بين حرب 1973 وحرب العدوان على لبنان عام 2006؟ أم تدخل من خلال مفاوضات الوساطة التركية في عملية مراوغة جديدة، دون تبديل أسس ذلك النهج؟

قد يكون بعض الأمل كامنا وراء طرح السؤال والميل إلى ترجيح احتمال أن تكون المفاوضات التي بدأت هي فعلا شكل من أشكال المراوغة التي اشتهرت بها السياسة السورية، مثلما اشتهرت بها سياسة الوسيط التركي.

ويوجد على أرض الواقع ما يعزز هذا الأمل، ومحوره أن السياسة السورية أصبحت تتحرك منذ “مؤتمر أنابوليس” على الأقل بأسلوب يوحي بالرغبة في “كسب الوقت”، أي عبر انتظار سوريا، والدول العربية عموما، للمتغيرات المحتملة بعد رحيل بوش الابن وفريقه المتطرف عن السلطة.

كثير من جوانب السياسات الرسمية العربية أصبح مربوطا بإرادة الناخب الأميركي، وليس بإرادة الشعوب محليا، ومعلقا على أمل التغيير منذ عقود عديدة، في انتخابات رئاسية بعد أخرى، دون أن يحدث تغيير حقيقي وجوهري.

ولكن ما تشهده الساحة الإقليمية والدولية يعزز الاحتمال الآخر أيضا، أي يعزز أن جولة المفاوضات التي جرت هي بداية لطريق تحول مفصلي في السياسة السورية، يمكن أن تخسر في المقامرة عليه الورقة الوحيدة التي بقيت تميزها عربيا، في الوعي العام، وعلى أرض الواقع، أي ورقة عدم المضي كليا -وقد مضت من قبل جزئيا- على طريق تؤدي إلى تصفية قضية فلسطين رسميا، وإن بقيت حية شعبيا.

تشهد الساحة الإقليمية والدولية تحولا في التعامل مع أزمة لبنان، ولا يُستبعد وجود مقايضات وراء الكواليس، شملت سوريا وموقفها من التعامل مع قضية فلسطين.

وتشهد الساحة الإقليمية والدولية جهودا خاصة للخروج من مأزق العجز عن التعامل بأسلوب الضغوط والحصار مع الملف النووي الإيراني، ولا يستبعد أن يكون المطلوب من المفاوضات إخراج سوريا من معادلة موازين القوى الإقليمية، تمهيدا لخطوة تالية تجاه إيران.

وتشهد الساحة الإقليمية والدولية رفع مستوى الضغوط داخل تركيا على حزب العدالة والتنمية بعد كل ما حققه من نجاح وبعد التغني به نموذجا لاتجاه إسلامي متساهل في إطار نظام علماني مفروض.

ولا يستبعد أن يكون ذلك من وراء تحرك الوساطة التركية ذاتيا أو مع اقترانه بإغراءات دعم غربي في مواجهة الخصوم الداخليين.

وتشهد الساحة الإقليمية والدولية اقتراب عدد من القضايا الأخرى من مواعيد تتطلب الحسم في بعض جوانبها، كقضية العراق وقضية السودان، وهو الجناح الجنوبي من مصر التي تشهد ساحتها في الوقت نفسه مرحلة انتقالية بين عهد اهترأ معظم ما اعتمد عليه حتى الآن، ولم تنجح حتى الآن جهود التمهيد لاستمراره في نهج ما، جديد بعنوانه قديم بمضمونه، فيُخشى على المستوى الرسمي غربيا وإقليميا، مما سيأتي بعده.

وليس مجهولا ما تشهده الساحة الإسرائيلية نفسها من اهتراء داخلي بعيد المدى، ليس بسبب تراكم ظلمات الفساد فوق بعضها بعضا فحسب، بل مع تراكم حصيلة العجز أيضا عن تحقيق إنجاز عسكري أو سياسي بعد فترة صناعة النكبات في المنطقة بمعدل نكبة كل عشرة أعوام، حتى ظهرت المقاومة الفلسطينية واللبنانية بدور جديد ومفعول جديد أواخر الثمانينيات من القرن الميلادي العشرين.

جميع ذلك وسواه على مستوى قضايا أخرى، هو من العوامل التي ترجح أن يكون التحرك الجديد على مستوى السياسة السورية، ليس مجرد مناورة لفترة مؤقتة.

وليس مجهولا أن كل تحرك سياسي يبدو معزولا عن سواه، هو دوما حصيلة مجموعة من المعطيات ومن الأهداف، ذات العلاقة المباشرة وغير المباشرة به، إقليميا ودوليا.

المقامرة خاسرة والمناورة غير كافية

سيان هل هي مقامرة سياسية للخروج من نفق كانت تبنيه سياسات دولية بمشاركة إقليمية حول سياسة سوريا في قضية فلسطين؟ أم كانت مناورة لكسب الزمن على أمل الخروج من النفق؟ فالحصيلة واحدة، يظهر أهم معالمها من خلال وضعها على أرضية كليات كبرى لا يحجبها الترويج لأمور فرعية توضع في الصدارة:

1- ما صنع السادات أواخر السبعينيات من القرن الميلادي العشرين غير قابل للتكرار في سوريا في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بل في حصيلة ما صنعه ما جعل حتى الآن، ويجعل كل خطوة في اتجاه مشابه خطوة مرفوضة شعبيا، غير قابلة للاستقرار دون مفعول الاستبداد، وهما العاملان الحاسمان، سلبا وإيجابا، في نهاية المطاف، وإن طال الطريق.

2- تسويق حلول صهيوأميركية عبر التمييز قديما بين “عدو إسرائيلي” و”مصالح أميركية” وبالتالي صديق أو وسيط أو علاقات قائمة على المصالح، لم يعد ممكنا بعد أن أصبحت السياسات الأميركية سياسات اندماجية علنا وبالمطلق في المشروع الصهيوأميركي، وبعد أن أسقطت كل إمكانية للتمويه على عدوانيتها عبر عسكرة الهيمنة.

3- كل تنازل عربي جديد، عبر البوابة السورية أو سواها، مرفوض شعبيا في هذه المرحلة، داخل سوريا وخارجها، أكثر من أي وقت مضى، لاسيما أن مسيرة المشروع الصهيوأميركي تمر بأضعف مراحلها التاريخية، وتتراجع رغم كل ما يبذل من مساعٍ لاستمرارها، فلا يمكن القبول بإعطائها حقنة إنعاش سورية عربية.

4- يؤمل -رغم كل المعطيات السالفة- أن يكون الساسة السوريون حاليا، أوعى بمخاطر المقامرة والمناورة على السواء، من أن يمضوا فيها أشواطا بعيدة.

ولن يمكن تصوير استعادة الجولان -وهو هدف لا يستهان إطلاقا بأهميته وضرورة العمل من أجله- وكأنه الثمن المقبول من أجل التخلي عن العنصر الذي يكاد يكون وحيدا، في إطار تميز السياسة السورية عربيا وإقليميا حتى الآن، وهو عنصر الحفاظ على رفض المشروع الصهيوأميركي في المنطقة ومقاومته ودعم من يمارسون هذه المقاومة.

فالتخلي هنا يعني سقوط أهم مرتكزات بقاء النظام السوري نفسه، فليس استقراره ممكنا عبر فرض نفسه بأي ثمن، وهذا ما يدركه الساسة السوريون، أو يرجى أن يكونوا مدركين له.

كما يؤمل أن يكون من عوامل استمساكهم بالسياسة المتميزة في قضية فلسطين، على الأقل بدافع استمساكهم في البقاء، وإن كان الأمل الأكبر هو أن يردموا الهوة القائمة بين الحاكم والمحكوم، في مختلف الميادين وليس في ميدان قضية فلسطين فقط، فذاك وحده ما يجعلهم جزءا من سوريا المستهدفة أرضا وشعبا وحضارة، وليس نظاما وسياسة إقليمية فحسب.

__________________

كاتب سوري

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى