صفحات مختارة

التغيير يبدأ بنقد الخطاب الديني السائد

null

هلا رشيد أمون

محور: ماذا يبقى من دور للإتجاهات غير الدينية في العالم العربي؟ [11]

شهد القرن الماضي طرح جملة من القضايا الفلسفية والفكرية ومناقشتها، لعل ابرزها: قضية الاصالة والمعاصرة، ومسألة النهضة، وازمة الابداع، وقضية الوحدة والتقدم والاستقلال والحرية والعدالة الاجتماعية وغيرها من المسائل والاشكاليات، وذلك بتأثير من الحضارة الغربية التي فرضت نفسها على العرب، نموذجا جديداً للحياة والفكر ورؤية العالم.

والمجتمع العربي آنذاك كان يعاني حالة اغتراب تتجلى خاصة في تبعيته السياسية والاجتماعية والثقافية والاقـتصادية، وفي عجزه عن مواجهة التحديات التاريخية. فراح المفكرون وقادة الرأي يبحثون لاهثين عن حلول لمشكلات مجتمعهم، مستقاة من الدين عند البعض، بعيدة عن الدين عند البعض الآخر. وظهرت مدارس ومذاهب دينية وفكرية وفلسفية وعلمية واجتماعية وسياسية، اخذت كل واحدة منها تطرح مواقفها المتباينة كل بحسب اجتهاداتها المذهبية وانتماءاتها الايديولوجية، فتحولت الساحة العربية منذ بداية القرن العشرين مسرحا لدعوات وايديولوجيات مختلفة، تود كل واحدة منها تغيير المجتمع بحسب مثالها الاعلى، لتقويم الاعوجاج وانجاز التغيير المنشود.

وتلك الملل والنحل على كثرتها وخصومتها وتعارضها، تعكس حيوية المجتمع العربي آنذاك، وخصوبة الحياة الفكرية وثرائها، والتعددية الايديولوجية وتنوع الوسائل والمناهج التي تتناول المجتمع وثقافته من مواقع وابعاد مختلفة، تجعل من الصعوبة بمكان، ان يستأثر تيار واحد بالرأي العام، او ان يدّعي احتكار الحقيقة.

ولا بأس من القاء نظرية سريعة على ابرز الاتجاهات التي سادت القرن العشرين:

لقد دعت السلفية المسلمين للرجوع الى الينبوع الاصل للاسلام، والى ربط عقولهم وسلوكهم برابطة الولاء للسلف، والانضباط بقواعد فهمهم للنصوص، والتقيد بكل ما اتفق عليه جميعهم او جلهم من المبادىء الاعتقادية والاحكام السلوكية، ونبذ كل ما يخالف ذلك مما ابتدعه من أتى بعدهم. فارتباط المسلمين بعصر السلف هو شرط كل سعادة وخير وقوة وتقديم.

وكذلك فقد اكد رواد الحركة الاسلامية ان الاسلام دين ودنيا وثقافة وقانون وحضارة وسياسة واخلاق، وان فيه الدواء الوحيد لجميع العلل والامراض التي تشكوها الانسانية في هذه الايام.

وبالرغم من النجاح الملحوظ للخطاب الديني السلفي، والذي يضرب بجذوره في البنية الثقافية العربية والاسلامية، الا ان هذا النجاح كان مهدداً دائما بأفكار وقيم وفدت من خارج الحدود. فقد تسربت تأثيرات ايديولوجية تقدمية في النسيج الفكري العربي، ولاسيما منذ الاربعينات من القرن الماضي، فظهرت دعوات اخرى، هي في معظمها معارضة للنظرة اللاهوتية وللفكر الديني، ومناهضة للاتجاهات الغيبية والماورائية، تفاعلت وتنافست وتصارعت لاثبات صلاحية مقولاتها وصوابية مفاهيمها ومشروعية وجودها.

وقد اقترنت هذه الاتجاهات بمشاهير من المفكرين العرب، امثال: مصطفى عبد الرازق واحمد لطفي السيد وطه حسين واحمد امين وعثمان امين وسلامة موسى واسماعيل مظهر وشبلي الشميل ويعقوب صروف وابراهيم مدكور وساطع الحصري وزكي الارسوزي ورينيه حبشي ومحمد عزيز الحبابي وعبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وحسين مروة

فقد ظهر الاتجاه القومي الذي نادى بضرورة قيام أمة واحدة تجمع بين افرادها مصالح وروابط مشتركة: كالارض واللغة والتاريخ والتراث والتقاليد والادب والمزاج او التكوين النفسي والاقتصاد، وربما الدين. من اهدافها المحافظة على الهوية القومية او الثقافية للشعب، ولاسيما اذا كانت هذه الهوية معرضة لخطر خارجي او مخاطر الاستبداد الداخلي، وتحقيق الاستقلال السياسي، وتكريس الوحدة بعد التجزئة، وانجاز التقدم السياسي والاجتماعي بقيادة القوى الوطنية والديموقراطية والثورية.

وراج التيار الماركسي الذي رفع لواء جملة من المصطلحات والاهداف ابرزها: التقدم الاجتماعي، وارساء قواعد المساواة والعدالة الاجتماعية، والثورة على الاستغلال والاستلاب والاغتراب والتمييز الطبقي والاستبداد، والتحرر الوطني والاقتصادي والعلمانية، والتطلع الى نظام لا طبقي تحل فيه جميع مشكلات الانسان. وقد دعا الى ضرورة تطبيق المنهج المادي التاريخي والديالكتيكي في دراسة التراث الاسلامي، والتخلي عن النظرات المثالية والسكونية التي تلغي الحركة التاريخية وتسعى الى تأبيد الظواهر الانسانية، وحشرها في قوالب محنطة تأبى التغيير او التبدل.

وانبثقت الفلسفة الوجودية التي دعت الى قيم الحرية والمسؤولية والاختيار والمخاطرة، واعلنتها ثورة على القوالب الجاهزة والمتحجرة، وكل ما من شأنه ان يقيد حرية الفرد، ويمنعه من الانطلاق لتحقيق ذاته وفرديته ووجوده الخاص والمتميز.

وكذلك برزت الوضعية المنطقية التي شنّت حربا على التخلف والجمود والتمسك بكل ما هو لامعقول، داعية الى استخدام العقل، والى الايمان بمنهج العلم، والى التخلص من القيود المفروضة على الانسان العربي، واهمها قيد الخرافة والجهل وقيد النص المنقول.

وشاعت أفكار تبنّت الفكر العلمي المادي المستند الى النظرية الداروينية في النشوء والارتقاء، تدعو الى إحلال العقلية العلمية مكان العقلية الغيبية. فلا قيمة لدعوة تقدس الماضي الموروث، ولا وجود لقيم ابدية، لأن كل شيء متغير، ويستحيل أن يثبت على حال واحدة، فكل شيء في الوجود من أعلاه الى أدناه في صيرورة دائمة.

وشقت طروحات المدرسة الاجتماعية طريقاً لها في أوساط بعض المفكرين العرب. ومن المعلوم أن علم الاجتماع في تفسيره للظاهر الاجتماعية – كالدين والاخلاق والقانون – يُغفل الحديث عن أي قوة غيبية ماورائية أو إلهية، وينظر الى “المجتمع” على أنه حقيقة تعلو فوق الافراد، وأنه مصدر كل ما له قيمة في نظرهم، وأن جميع القيم مجرد نتاج للحياة الاجتماعية، ولذلك فهي دائماً نسبية.

ومما لا شك فيه أن كل مفكر عربي، كان يشعر بضرورة ملحّة في أن يسخّر ثقافته للمجتمع الذي يعيش فيه، وهو مجتمع تسوده السذاجة والتعلّق بالخرافة في فهم الظواهر والاحداث، والتمسك بأهداب الماضي الغابر، تمسّكاً جعل المسلمين منقطعين عن عصرهم، ومرتبطين بحاضرهم بخيوط أوهن من خيوط العنكبوت. فماذا تبقّى في الحياة العامة العربية من كل هذه التيارات غير الدينية؟

سؤال ليس في حاجة الى كبير عناء لمعرفة الجواب عنه. لقد تراجعت كل هذه الدعوات، وفقدت مع الوقت بريقها وتأثيرها والمتحمسين لها، واندحرت أمام التيار الديني الذي ازدادت قوته وسلطته، بل تحوّل الى قوة فكرية هائلة اجتاحت كل ما يصادفها من أفكار وآراء وطروحات، جهد اصحابها يوماً ما، للمشاركة في عملية التغيير والاصلاح والنهضة، وإحداث الانقلاب في المفاهيم والعلائق والقيم.

وهناك عوامل ومعطيات سياسية واقتصادية وثقافية ومعرفية ونفسية عدة، أدت الى اندثار كل الافكار التنويرية، وأفسحت المجال أمام انتصار الخطاب الديني، نوجزها في ما يلي:

-1 تحوّل الايديولوجيات التي رفعت شعارات البعث والنهضة والاصلاح والعدالة الاجتماعية والديموقراطية، الى أحزاب قمعية ديكتاتورية، مارست السلطة، عندما استولت على الحكم، بأبشع صورها، بعد أن لوّث الفكر الابوي مقولاتها ورؤياها الاشتراكية والثورية والوحدوية والاصلاحية، وأفرغها من اي مضمون.

-2 شكّلت هزيمة العرب أمام اسرائيل عام 1967 بداية أزمة خانقة للتيارات الفكرية التي كانت سائدة: التيار القومي، التقدمي، الاشتراكي، الناصري. فلم تكن الهزيمة عسكرية فقط، بل هزيمة نفسية وايديولوجية ايضاً، أحدثت جرحاً عميقاً في وجدان الفرد العربي. وهذا ما أوجد الفرصة السانحة للتيارات الدينية المقموعة، كي تعلن من جديد فشل جميع الايديولوجيات، وتؤكد أن “الرجوع الى الاسلام” هو الطريق الوحيد الى الخلاص. وهكذا بدأت موجة التدين الاخواني السلفي العاتية في السبعينات، والتي جرفت في طريقها كل نزعة تنويرية أو اصلاحية في العالم العربي.

-3 بعد سقوط الايديولوجيات العلمانية، لم يعد هناك مَن يقوم مقام الفكر الديني في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، وفي مواجهة الغرب الطامع في العالم الاسلامي، والذي ارتبط في أذهان الكثيرين بمبدأ الغلبة وقهر الشعوب واستنزاف مواردها وثرواتها الوطنية. لذلك وجد المسلمون في مقولات الخطاب الديني وطروحاته ما يعبّر عن طموحاتهم في القوة والمنعة واسترداد ما سُلب منهم بالقوة، من طريق المقاومة والجهاد والاستشهاد واقامة الدولة الاسلامية.

-4 الانتصار الذي حقّقه المسلمون في افغانستان (أرض الجهاد) على الاحتلال الشيوعي (الملحد)، جعل الفكر الجهادي، ممثلاً بـ”القاعدة”، يتحول الى فكر عابر للقارات، ويحقق اختراقاً واسعاً في صفوف المسلمين في العالم بأسره. رغم أن أفراده قد أدركوا لاحقاً أن الولايات المتحدة قد قامت بتوظيف الحماسة الدينية لديهم، واستخدمتهم أدوات ووقوداً، كي تضرب بهم عدوها: النظام الشيوعي، ثم انقلبت عليهم وأعلنت حرباً لا هوادة فيها عليهم.

-5 إن الفكر الديني قد أوجد ارضية له في المجتمعات العربية والاسلامية، انطلاقاً من سياسة الولايات المتحدة التي كرّست زعامتها كقطب أوحد لا منازع له، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وانحازت بشكل لا لبس فيه لمصلحة الكيان الاسرائيلي الغاصب. والمسلمون يشعرون أن الغرب الذي يهدف الى فرض هيمنته وسطوته على العالم، يسعى الى إزاحة الاسلام والقضاء عليه، وذلك من طريق محاربته وجعله مساوياً لمحور الشر والارهاب وهو يصمت عن إرهاب الدولة اليهودية ومجازرها، بل ويعتبره دفاعاً عن النفس، معتمداً سياسة “ازدواجية المعايير” التي تصبّ دائما في مصلحة العدو. ما يجعل الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة، مساهماً في خلق الارهاب، في الوقت الذي يدّعي فيه محاربته.

-6 إن الشارع العربي – بعد أن انعدمت لديه البدائل والوسائل الاخرى، التي من خلالها يمكنه التعبير عن غضبه ورفضه وحلمه في مجتمع افضل – يتفق مع الحركات الاسلامية في الاهداف (مقاومة المشروع الغربي، الدفاع عن العقيدة، الحفاظ على الهوية) لا في الوسائل والاساليب (العنف المجاني، قتل الابرياء، استسهال الموت بتفجير الاجساد). وهو إن سكت احياناً عمّا وصلت اليه هذه الحركات من تطرّف وارهاب، فما ذلك الا رغبة منه في الانتقام من أعدائه، والتشفّي منهم بالحاق أكبر الاذى بهم، والثأر لضعفه وتخاذل حكامه. ولكن أي انتقام هذا، عندما يُقتل ألف من ابناء ملّتنا، كي يُقتل واحد من أعدائنا؟!

7- الهوة العميقة بين المعيوش والمأمول او المرغوب. فالشعوب الاسلامية هي من افقر شعوب الارض، وهي تنوء تحت وطأة الجهل والجوع والتخلف، رغم ان البلاد الاسلامية هي من اغنى بلاد الله، ولكن ثرواتها وخيراتها متجمعة في أيدي قلة من الناس. وربما تكون هذه هي الطبيعة البشرية التي تلجأ، وهرباً من عالم انعدم فيه الأمان والمساواة والعدالة في توزيع الثروة، الى عالم آخر، الى منظومة قيمية اخرى تعلن أنها منحازة الى جانب المستضعفين والفقراء، وأنها نقيض النموذج الرأسمالي الغربي الذي أفرز الطبقية وثقافة الاستهلاك والاحتكار والاستغلال والأرباح التي تتخطى كل حدود.

8- من الملاحظ أن الجماعات المتخلفة تلجأ عادة الى الاحتماء في حضن الحقائق المطلقة، التي سرعان ما تصبح غير مطابقة، بل ومتخلفة عن الواقع الدائم التغير والصيرورة، ومع ذلك فهي تفضل الدفاع عن المطلق والغيبي، حتى لو ادى هذا الى انتحار افرادها الثقافي والاجتماعي، بدل أن تختار انقاذ الأفراد ومصالحهم العام، حتى لو تطلب ذلك التضحية بالمطلقات. هذا هو حال جمهور المسلمين الذي يحمل حنيناً أبدياً الى ماضيه، الفردوس المفقود، والذي ينساق بسهولة وراء الدعوات الدينية، ويُهرع عند كل ازمة، الى كتبه العتيقة التي هي تعليقات على النص وشروح، أو شروح على الشروح، راجياً الحل والخلاص. لذلك يبدو أن عالمنا لا يمكن ان يتحدد إلاّ انطلاقاً من هويته الدينية، وأن نهضتنا لا يمكن ان تتحقق إلا بالعودة الى المناهج الأولى، وأن مشاكلنا وقضايانا لا تحل إلا بالطرق والمناهج التقليدية أو الموروثة. فهل هو قدر الانسان العربي ان يظل على تنافر وعداء مع العصر والعقل والعلم والنقد؟!.

إن هذا بالضبط ما عمل على تأكيده وتكريسه، ولأجيال متطاولة، اصحاب الفكر الديني، وذلك عندما نظروا الى أحد ابعاد الزمن، وهو “الماضي” نظرة ملؤها القداسة والمثالية، جعلته منبع الحق والخير والجمال والقوة، ومصدر المشروعية الوحيد لكل قول أو فعل انساني، والغاية الدنيا والقصوى للحياة الانسانية، وذلك بالحاحها الدائم على أن “النموذج” وراءنا لا أمامنا، وأن كل تقدم يجب أن يعيد ما كان، لا ان يبدع ما لم يكن. ولذلك فلا غرابة إن وجدنا هذه النظرة تستخدم القديم الموروث لتعارض به المعاصر والمستحدث، وتمجد “الماضي” لتنزع عن “الحاضر” كل قيمة.

كل هذه الأسباب مجتمعة قد صبت في مصلحة تنامي التيارات الدينية، ومكنتها من الاستئثار بالساحة العربية. ولهذا تجد ان النقاش في الحياة العامة العربية، لم يعد دائراً حول المفاهيم التي شاعت في القرن الماضي، وشغلت المفكرين وعموم الناس، كالحرية والديموقراطية والعقل والعلم والنقد والعلمنة والنهضة والانسان والابداع والوحدة والثورة على التخلف والجهل والخرافة، بل بات يتمحور حول مفاهيم اخرى، كالجهاد والمقاومة والشهادة والخلافة والايمان والكفر والتكفير والحرام والحلال، والحجاب واللحية واللباس، وسواها من المفردات التي كرست سيادة الخطاب الديني وزعامته، في كل منحى من مناحي حياة الفرد العربي. فهل علينا أن ننتظر انتفاء كل هذه الأسباب، كي تنتفي أزمتنا الثقافية، ومأزقنا الحضاري، ومشكلتنا مع الزمن بكل أبعاده، وخلافنا على السماء؟

هناك الكثير من المفكرين العرب الذين شخصوا جوهر المشكلة، فدعوا الى نقد العقل العربي، والى اعمال الفكر النقدي في تلك المرحلة التأسيسية للاسلام، لفهم كيفية تشكلها تاريخيا، وإضاءة اللامنكر فيه، وخلخلة آليات الفكر الذي ولّد الأنظمة الايمانية والمعرفية المغلقة، وذلك من اجل نزع الشرعية عما كان متصورا طوال قرون بصفته التعبير الموثوق عن الارادة الالهية المتجلية في الوحي، وما هو في الواقع سوى مجموعة العلوم والاصول والقوانين والاحكام التي صيغت من قبل القضاة والفقهاء الاسلاميين وعلماء الكلام الأول، من خلال ظروف اجتماعية وسياسية وثقافية وجغرافية خاصة، ومع ذلك تحول المنتج العقلي البشري، أو ما يسمى بالتراث، وبمرور الزمن، الى قانون مقدس ومتعال ولا بشري، حاكم ومتحكم في حياة المسلمين.

ولكن يبدو ان كل هذه الدعوات الى البحث والمراجعة والتنقيب، قد ذهبت أدراج الرياح، ليقوى على حسابها تيار ديني اكثر تشددا من أي وقت مضى. فكيف لا يضيع “المعنى” في هذا الفضاء اللامتناهي من “اللامعنى”؟ ولأنه من العبث التعويل على عامة الناس الذين يعيشون في ما يشبه الغيبوبة العقلية، في إعادة التوازن الى منهج الحياة بعد اختلال المعايير والموازين والاحكام، ولأنه من الصعب أن ننتظر من الحكومات والحكام الذين لا هم لهم سوى الحفاظ على مواقعهم، تحقيق مشاريع التنمية ونشر قيم الحرية والديموقراطية، خاصة ان المأزق الراهن ذو بعد سياسي واقتصادي واجتماعي، فلم يبقَ الا أن نطالب المفكرين العرب والنخب الثقافية أن يحولوا أقلامهم الى أداة نقد للخطاب الديني السائد – وهذا أضعف الايمان – لا أن يكتفوا بتفسير ما يحدث، لأن الفكر عندما يستسلم للأمر الواقع يعكسه ويعيد مقولاته، يتخلى عن وظيفته الأساسية، ألا وهي النقد.

إذ يبدو ان أصحاب الفكر الديني هم الذين يطرحون المسائل، ويقدمون عناصر النقاش، ويُعينون إطار البحث، ويخلقون الحدث، ثم يدفعون الباحثين الى العثور على اجابات وتحليلات وتفسيرات لما يقولونه ويفعلونه. ولهذا فقد أصبح المفكرون العرب أسرى مقولات ومفاهيم الحركات الدينية، وخطابات زعمائها المتلفزة، وما يصدرونه من بيانات ومراجعات. وهذا ما حوّل النقاش الفكري في العالم العربي الى عمل سلبي يعيد ويكرر، ولكنه لا ينتج ولا يغيّر.

فقد أصبحنا بحاجة الى انبثاق عقل نقدي تحليلي قادر ان يتناول بالعمق هذه التيارات بالدرس والبحث والنقد ليظهر تعصبها وشططها وبعدها عن الحقيقة وتهاوي مقولاتها بانها تمثل ضمير الامة، وبأنها حارسة العقيدة، والحريصة على مصالح الأمة، وبأنه يستحيل الوصول الى الخلاص والنجاة خارج أسوارها. فلا بد من بث دم جديد في شرايين الأمة، يفضي الى تهميش دور التيارات الأصولية، دون المساس بجوهر الحقيقة الدينية، أو نفي الايمان الذي يشكل حيزاً مهماً في حياة شريحة كبيرة في العالم العربي والاسلامي. والهدف من ذلك تغيير هذا الواقع القاتم الذي آلت اليه الحياة الفكرية والعامة في عالمنا، حيث اصبح اللاهوت وليس الانسان أو العقل او العلم او النقد، مركز الثقل الأساسي فيها.

لا أعرف لمن يجب تحميل المسؤولية: لرجال الدين، للساسة، للمفكرين، لعموم المسلمين، للغرب، لضعفنا ويأسنا، لخلل متأصل فينا، للقضاء والقدر… ولكني أعرف أن التغيير هو هدف صعب المنال – إن لم أقل مستحيلا – وأن انجازه يتطلب بعضاً من حرية الفكر والتعبير، وحداً ادنى من التسامح الديني الذي لا يرمي الآخر بتهمة الكفر، لمجرد انه تجرأ وفكر واختلف، بينما المطلوب ان يفكر مثل الآخرين، أو لا يفكر أبداً. فعقلنا العربي، في ظل طوفان الفكر الديني واللاهوتي، يبدو عاجزاً، او غير مسموح له، أن يحقق ولادة فكرية وأخلاقية، وثورة مفاهيمية وقيمية جديدة، تراعي ما يسود هذا العصر من أفكار ومعارف وتطورات. وكأن هناك من يمنع ويقاوم إعادة النظر في منظومتنا الثقافية، ومحاكمة مصطلحاتنا وأدواتنا المفهومية، والتعامل نقدياً مع تراثنا، خشية أن تهوي مفاهيمه وخطاباته، وتتهافت بداهاته ومسلماته، وخشية ان يتجدد عقل، ويتحرر فكر، ويتفتح وعي، وتُطلق قوى الخلق والابداع في الفرد والمجتمع، وتُصاغ أطر فكرية لإعادة فهم الذات والآخر بشكل مغاير. فهو يدرك ان هذا العمل، في حال انجازه، يعني انهيار فكره وطروحاته، وتقويض سلطته وفاعليته وهيمنته.

طبعاً، الكل يدرك أن أزمتنا الراهنة هي أكثر تعقيداً مما تبدو، لأنها تحتوي في أحشائها على عناصر وأبعاد متناقضة ومتشابكة، ففيها السياسي والاقتصادي والديني والفكري، ما يجعل حلها أو تفكيكها امراً عسيراً للغاية. ومع ذلك لا بد من القول إن صنمين او سلطتين يجب ان تتحطما وتسقطا حتى ينهض المجتمع ويُعاد بناؤه من جديد: السلطة الدنيوية ممثلة بأولئك الحكام والساسة الذين بسياساتهم الحمقاء، جروا الويلات على العالم العربي، والسلطة الدينية ممثلة بأولئك الذي أساؤوا الى الاسلام والمسلمين، أيما إساءة، فجروا المآسي على العالم العربي والاسلامي. وإن لم يحصل هذا، فاعتقد ان التغيير مستحيل، وحده الحلم بالتغيير هو الممكن


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى