صفحات ثقافية

إنها دمشق يا أولاد القحبة .

null
فادي عزام
لم أكن لأتوقع يوما أن يحدث معي ذلك، نص إنها دمشق الذي كتبته في عام 2005 . ومنشورا ألكترونيا في جريدة أكسجين،العدد 21  على هذه الوصلة
http://www.o2publishing.com/_issiues.php?issiueNo=125
ينسب تحت عنوان كبير ( مظفر النواب ينصف دمشق)
وأردف الناسب إن الشاعر الكبير هاله اتهام سلطة بغداد لدمشق في تفجيرات الأربعاء الدامي فهب ليدافع عنها. فجأة انتشر النص وتناقلته الكثير من المواقع والرسائل الالكتروني. حتى أنه وصلني من صديق عزيز ومثقف كبير رسالة معجبا بالنص والشاعر الكبير.
اتصلت تلفونيا بصديقي، فعاجلني أقرأت كم هو رائع مظفر!!
قلت له نعم، ولكن ألم تلاحظ أن النص نثري وليس شعري، وأيضا النص فيه اخطاء إملائية لايمكن لمظفر ارتكابها.
صفن الصديق قليلا، ثم حياني بهدوء عندما أخبرته عن النص أني كاتبه منذ خمس سنوات.

وأصبح أقل حماسا له.
يعني القراءة تحت سطوة الأسماء الكبيرة، واحدة من أهم ما يربك جيلنا . الذي يبحث عن الحد الأدنى من الاعتراف.
وأيضا هنا يبدو أن كل الحالة الالكترونية مشكوك بأمرها، فالسؤال الذي تبادر إلى ذهني، ماذا لو توقف موقع أكسجين أو دمر بفايرس طائش، كيف سأثبت يوما أن هذا النص لي ومنشور قبل سنوات.
والسؤال الأكبر، كيف يتجرأ ناقل حتى على تغير في النص حذفا أو تشفيرا، انقاصا أو استزادة، لأنه لا يتناسب مع ذائقته أو ثقافته، ويبقي ما يخدم موقفه السياسي أو أعتقاده الديني.

فقد تعامل الكثير من المواقع التي نقلته على حذف وتغير من سياق النص.
تعاملوا  معه وفق مزاجهم وأهدافهم وانتماءتهم . كيف تتم خيانة بهذه الطريقة  وهذا الاستخفاف المؤلم؟

كيف يتجرأ الناحل والناقل والناسب على تقويل نصوص الأخرين ما يريده هو؟ ما هذا الاستخفاف الكبير . بأرث مظفر النواب أيضا. وكيف يقولونها ما لا يريد ان يقول. فعلى كل ها أنا  أعاود نشره هنا كما هو وكما اردت  له أن يقول . وأرجوا ممن يريد أن يستعمله أو أن لا يغيير به أية كلمة. فليأخذه كلها أو يدعه كله.
وبالنهاية لا يسعني سوى الاعتذار
. من شاعرنا الكبير من هذا الخطأ الذي لم يكن لي به أي ذنب سوى أن النص ابتدأ ببغداد وانتهى بتلك الكلمة التي يستحقها الكثيرون.

( إنها دمشق يا أولاد القحبة )
شقيقة بغداد اللدودة، ومصيدة بيروت، توأم القاهرة، وحلم عمان، ضمير مكة، غيرة قرطبة، مقلة القدس، مِغْنَاجٌ المدن وعكاز تاريخ لخليفة هرم.‏‏‏‏‏
إنها دمشق امرأة بسبعة مستحيلات، وخمسة أسماء وعشر ألقاب، مثوى ألف ولي ومدرسة عشرين نبي، وفكرة خمسة عشر إله.‏‏‏‏‏
إنها دمشق الأقدم والأيتم، ملتقى الحلم ونهايته، بداية الفتح وقوافله، شرود القصيدة ومصيدة الشعراء.‏‏‏‏‏
من على شرفتها أطلّ هشام ليغازل غيمة أموية عابرة، “أنى تهطلي فخيرك لي” بعد أن فرغ من إرواء غوطتها بالدم، ومنها طار صقر قريش حالماً، ليدفن تحت بلاطة في جبال البرينيه.‏‏‏‏‏
إنها دمشق التي تحملت الجميع، قوّادين وحالمين، صغار كسبة وثوريين، عابرين ومقيمين، مدمني عضها مقلمي أظفارها وخائبين وملوثين، طهرانين وشهوانيين….
رُضِعت حتى جفّ بردى، فسارعت بدِّمها بشجرِها وظلالِها، ولمَّا نفقت الغوطة، أسلمت قاسيونها- شامتها الأثيرة- يَلعقونه يَتسلقونه، يطلّون منه على جسدِها، ويدعون كل السفلة ليأخذوا حصتهم من براءتها، حتى باتت هذه مهنة من يحبها ومن لا يقوى على ذلك..
لكنَّها دمشق تعود فتية كلما شُرِقَ نقي عظامها.‏‏‏‏‏

إنها دمشق أيّها العرب العاربة والمستعربة قِبلة سياحكم، ومحط مطيكم، تمنح لقب الشيخ لكل من لبس صندلاً واعتمر دشداشة، ولا تعترف إلا بشيخها محي الدين بن عربي، الذي صرخ منها:”إلهكم تحت قدمي”1‏‏‏‏‏
هو من لم تتسع له الأرض، حضنته دمشق تحت ثديها ألبسته حياً من أحيائها وقالت له انطلق أنت أجلُّ الأموات‏‏‏‏‏.
فغنى لها”كل ما لا يؤنث لا يعول عليه”‏‏‏‏‏
إنها دمشق لا تعبأ باثنين، الجلادين والضحايا، تؤرشفهم وتعيدهم بعد لأي ٍعلى شكل منمنمات تزين بها جدرانها أو أخباراً في صفحات كتبها، فيتململ ابن عساكر قليلا يغسل يديه ويتوضأ لوجه الله ويشرع بتغطيس الريشة في المحبرة، لا ليكتب بل ليمرر الحبر على حروف دمشق المنجمة في كتابها المحفوظ.‏‏‏‏‏
دمشق التي تتقن كل اللغات ولا أحد يفهم عليها، لا تقرأ بالكلمات بل بإحصاء ضحكات الله ومكائد الملائكة.‏‏‏‏‏
دمرَّ هولاكو بغداد وصار مسلماً في دمشق، حرَّر صلاح الدين القدس وطاب موتاً في دمشق، قدم لها الحسين ابن علي ويوحنا المعمدان وجعفر البرمكي رؤوسهم كي ترضى دمشق، وما بين قبر زينب وقبر يزيد خمسة فراسخ ودفلة على طريقة دمشق.‏‏‏‏‏
إنها دمشق لا تحب أحداً، ولا تعبأ بكارهيها، متغاوية ووقحة تركل عشاقها خارجاً بقسوة نادرة كي لا ينسفح الكثير من دمهم، وتتفرغ للغرباء الذين ظنوا أنفسهم أسيادها ليستفيقوا فجأة وإذ بهم عالقين تحت أظافرها.‏‏‏‏‏
إنها دمشق: تتقن عمل الله ومَكره حين يمهل ولا…
حين يحب الجمال، وحين يستريح طوال الأسبوع ويعيد خلق العالم على مهل دون أن يعرف أي أحد متى يكون اليوم السابع.‏‏‏‏‏
لديها من الغبار ما يكفي لتقص أثر من سرقها فتحيله متذرذراً على جسدها.‏‏‏‏‏
لديها من العشاق ما يكفي حبر العالم.‏‏‏‏‏ من الأزرق ما يكفي لتغرق القارات الخمس.
لديها من المآذن ما يكفي ليتنفس مُلحدوها عبق إبط الملائكة، ومن المداخن ما يكفي “لتشحير” وجه الكون.‏‏‏‏‏
لديها من الموت ما يكفي لينفخ إسرافيل في {الصُوْرْ} معلناً قيامتهم جميلين، ليعانقوا الموتى الآخرين  للمرة الأولى والأخيرة. ‏‏‏‏‏
ولديها من الوقت ما يكفي لترتب قبلة مع مُذنَّب عابر، ومن الشهوة ما يدعو نحل الكون لرحيقها.‏‏‏‏‏
لديها من الصبر ما يكفي لتنتشي بهزة أرضية، ومن الأحذية و”الشحاحيط” المعلقة في سوق الحميدية ما يكفي للاحتفال بخمسين دكتاتوراً.‏‏‏‏‏
لديها من الحبال ما يكفي لنشر الغسيل الوسخ للعالم أجمع، ومن الشرفات ما يكفي سكان آسيا ليحتسوا قهوتها ويدخنوا سجائرهم على مهل.‏‏‏‏‏
لديها من القبل ما يكفي كل حرمان المجذومين، ومن الصراخ ما يكفي ضحايا نكازاكي وهيروشيما الذين لم يكن لديهم وقت‏‏‏‏‏
لديها من الخمر ما يكفي كي يثمل العرب جميعاً، ومن النوم ما يكفي كل ما حلم به الأنبياء.‏‏‏‏‏
لديها من النهايات ما يكفي ثمانين إلياذة، ومن الأجنة ما يكفي لتشغيل الحروب القادمة.‏‏‏‏‏
لديها شعراء بعدد شرطة السير، وقصائد بعدد مخالفات التموين، ونساء بكل ألوان الطيف وما فوق وتحت البنفسجي والأحمر.‏‏‏‏‏
لا فضول لدمشق، لا تريد أن تعرف ولا أن تسرع الخطى، ثابتة على هيئة لغز، الكل يلهثُ يرمحُ يسبحُ، وهي تنتظرهم هناك إلى حيث سيصلون.‏‏‏‏‏

دمشق هي العاصمة الوحيدة في العالم التي لا تقبل القسمة على اثنين في أرقى أحيائها تسمع وجع “الطبالة”، وفي ظلمة “حجرها الأسود” يتسلق كشاشو الحمام كتف قاسيون ليصطادوا حمامة شاردة من”المهاجرين”.‏‏‏‏‏
دمشق لا تُقسم إلى محورين، فليست كبيروت غربية وشرقية، ولا كما القاهرة أهلي و”زملكاوي” ولا كما باريس ديغول وفيشي ولا هي مثل لندن شرق وغرب نهر التايمز ولا كمدن الخليج العربي مواطنين ووافدين ولن تكون كعمّان فدائيين وأردنيين، ولا كبغداد منطقة خضراء وأخرى بلون الدم.
دمشق مكان واحد فإذا طرقت باب توما ستنفتح نافذة لك من باب الجابي، وإذا أقفل باب مصلى فلديك مفاتيح باب السريجة‏‏‏‏‏ وإذا أضعت طريق الجامع الأموي، ستدلك عليه”كنيسة السيدة”
لا تتعب نفسك مع دمشق ولا تحتار فهي تسخر من كليهما من يدعي أنه يحميها ومن يهدد بترويضها، فتود أن تعانقها أو تهرب منها، تلتقط لها صورة أو تحمضُها كلها، تود أن تدخلها فاتحاً أم سائحاً، مدافعا أو ضحية، ماحياً أو متذكراً كل شيء دفعة واحدة.‏‏‏‏‏
فتخرج سيجارة حمرا طويلة تشعلها بخمسة أعواد كبريت ماركة “الفرس”، وتقول جملة واحدة للجميع “إنها دمشق يا أولاد القحبة”.‏‏‏‏‏
__________________‏‏‏‏‏
1) حكاية ابن عربي المشهورة في دمشق لما جمع الناس صائحا إلهكم تحت قدمي، وكان يدوس ديناراً ذهبياً
كاتب من سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى