صفحات ثقافية

دُوْر النشر السورية بين تراجع الدور الثقافي وغيابه

null
دمشق – علياء تركي الربيعو
قال أحد العقلاء قديما: «صحبت الناس فملّوني ومللتهم، وصحبت الكتاب فما مللته ولا ملّني»، وقيل «خير جليس في الزمان كتاب»، وأيضا «من خدم المحابر خدمته المنابر»، غير أن هذه الأقوال فقدت جماليتها في زماننا هذا، وتغيّرت مع انفتاح وسائل الإعلام العربية وتعددها، ومع ظهور «الإنترنت» التي سهلت الحصول على كل شيء، إضافة الى عزوف كثيرين عن القراءة، الأمر الذي جعل اقتناء كتاب أمرا نادرا وقراءته شبه مستحيلة.
وفي ظل هذه الظروف فإن المتضرر الأكبر هو دور النشر التي بدأت تعاني، في الفترة الأخيرة، تراجع الإقبال على الشراء، وهذا التراجع لا يطال الدور العربية كما الدور السورية التي عانت، ولاتزال، هذا الأمر، الذي لا يقتصر على تراجع نسبة القراءة فقط، بل أمور عديدة أخرى ساهمت في تراجع مستواها مقارنة بالدور العربية الأخرى.
وهذا ما يحدثنا عنه أصحاب دور النشر السورية، إذ يؤكد وائل كيوان، مدير دار كيوان، وهي دار نشر سورية ذلك قائلا: «نحن محبطون، فكل عام نسعى إلى تحسين ظروف عمل الدار، نجد مشاكلنا تزيد، ويساهم في ذلك مشاكل عديدة تعانيها دور النشر في سورية عموما».
يصل عدد دور النشر في سورية الى نحو250، غير أنها تختلف عن دور النشر العربية من حيث عدد طباعة الكتب، فالناشر السوري مثلا يطبع في أحسن الأحوال 1000 نسخة من الكتاب، لا تباع خلال السنوات الخمس التالية للنشر، كما أن الكتب التي يعاد طبعها نادرة جداً، وهذ هو وضع دور النشر المحظوظة، كدار قدمس المتميزة بترجماتها وكتبها النوعية مثل
(الكهانة العربية قبل الإسلام، مريم المسلمة، الاستشراق جنسيا، وغيرها)، ودار الفكر.
أما بقية دور النشر السورية، التي تشكل المعظم فتنشر 3 كتب في العام، لضمان بقاء ترخيصها، فيما الأغلبية الأخرى تنشر ما لا يزيد على 10 عناوين سنوياً، أما دور النشر المعدودة التي تستمر في نشر عشرات العناوين، فلغالبيتها طابع ديني وتراثي، أو تلك التي تنشر كتبا تجارية كالطبخ والأبراج، فيما تراجع نشاط أغلبية دور النشر التقدمية. وفعليا دور النشر التي تعمل بشكل جيد هي فقط ثلاث أو أربع دور، والتي تصدر ما يزيد على 20 عنوانا سنويا.
إحدى الدور السورية النشيطة نسبيا في سورية هي دار كيوان التي بدأت منذ سبعة أعوام، حيث تصدر هذه الدار 40 عنوانا سنويا، تتنوع مواضيعها بين الدراسات التاريخية والدينية والصحة العامة والطب والميثولوجيا، إلا ان الدار أصبحت في الفترة الأخيرة تعاني قلة الإقبال.
ويشرح صاحب الدار، وائل كيوان، هذا الأمر قائلا: «لم يعد أحد يشتري الكتاب من أجل الثقافة أو المتعة»، ويضيف: «الإقبال ضعيف، لأن المثقف النخبوي تراجع، إضافة الى أن الناس أصبحوا يلجأون الى التلفاز لأخذ معلوماتهم او الى الإنترنت، وبالتالي أصبحوا لا يحتاجون إلى الكتاب بعد الآن».
ويرى الناشرون أنهم اضطروا إلى التكيف مع انخفاض عدد القراء السوريين، عن طريق إصدار المزيد من الكتب التي تحمل توجهات معيّنة، والتي تلقى رواجا، مثل الدين والكتب الأكاديمية والصحية.
يقول كيوان: «إن الدار ركزت، في العامين الماضيين، على نشر الكتب الدراسية للمدارس والكليات، على حساب كتب الشعر والروايات من أجل التكيف مع احتياجات السوق».
ويرى صهيب الشريف المسؤول الإعلامي عن دار الفكر، التي تعد من أنشط الدور في سورية، ويغلب على إصدارتها طابع نبرة إسلامية معاصرة، منها ما صدر هذا العام (سلسلة التأصيل النظري للدراسات الحضارية، حوارات للمرحوم الدكتور عبدالوهاب المسيري، الفصام في الفكر العربي المعاصر) وكتب مختصة بالأطفال أيضا، يرى أن اللوم يجب أن يُلقى على المواطنين السوريين الذين هم برأيه يفضلون الحصول على وجبة أو شراء قميص بدلا من الحصول على الكتاب، برغم أن اسعار الكتب في سورية تعد رخيصة مقارنة مع الدور العربية، إذ تتراوح أسعار الكتب التي تصدرها دار الفكر بين 100 و500 ليرة سورية، وفق الشريف.
البعض الآخر يلقي اللوم في تراجع مستوى دور النشر السورية على غياب دور الدولة في ذلك، فصناعة الكتاب بحاجة إلى دعم من الدولة أو من المؤسسات المستقلة من أجل البقاء و الاستمرار.
يقول الشريف: «المشكلة أن المحرمات أكثر من المباحات في بلدنا، وهذا يشكل عائقا كبيرا امام تطور أي دار، كما أن غياب السياسات الثقافية تجعل العملية الثقافية تخضع للمزاج الفردي والجهد الشخصي وليس للعمل المنتظم المدعوم من الدولة، التي من الواجب أن تكون هي راعية الثقافة». ويشتكي الناشرون في سورية من غياب القوانين التي تحمي حقوق الملكية الفكرية في البلاد.
يقول عمر تراس، مالك دار النشر السورية «دار الرواد» التي أُسست منذ أربع سنوات والتي لم تستطع الى الآن سوى إصدار 40 عنوانا، اقتصرت حول تعاليم اللغة الإنكليزية والدين، لذا هي تعمل موزعة لكتب الدار العربية للعلوم في سورية، يقول: «نحن نعاني لسنوات حتى نستطيع أن نطبع كتابا ومجرد ما يصدر الكتاب نجد في اليوم الثاني أن إحدى المكتبات أخذته
وقامت بطباعته من دون موافقتنا، وهذا يسبب لنا خسارة كبيرة وإحباطا».
ويوافقه الرأي مجدي حيدر، صاحب دار ورد، المعروفة بإصداراتها للروايات الجريئة، وهو ابن الروائي حيدر حيدر، مؤلف رواية «وليمة لأعشاب البحر»
التي أثارت إشكالية كبيرة في فترة صدورها، يقول: «مشكلتنا هي تقليد الآخرين عملنا، والتزوير لعناويننا، ففي بدايتنا لم تكن الدور التي تطبع الرواية أكثر من دارين في العالم العربي، أما الآن فكثر عددهم، إلا انهم أصبحوا يعملون مندون منهجية».
وبرأي الناشرين فإن المشكلة الأكبر التي يعانونهان والتي تعيق مسيرة تطوير صناعة النشر بسورية هي الرقابة التي تُمارس عليهم ليل نهار.
يقول كيوان «المشكلة في رقابتنا أنها مزاجية، فكتاب واحد ممكن ان يسمحوا لنا بنشره هذا العام ويمنعوه في العام المقبل، وهذه مشكلة صعبة تعيقنا أثناء شحن الكتب، فأحيانا نتلقى أربعين أو خمسين طردا نعيد عشرين طردا منها».
ويؤكد ذلك «الشيء المجهول بالنسبة إلينا كناشرين، أننا لا نعرف مقياس الممنوع والمسموح بالنسبة إلى الرقابة، والمفروض أننا كناشرين يجب ان يكون لدينا علم بالخط الأحمر حتى لا نتجاوزه، فهم يمنعون أحيانا كتابا كاملا من أجل فكرة لا تتجاوز السطر، وذلك بعد أن نكون قد طبعنا الكتاب».
وعلى سبيل المثال سمحت وزارة الإعلام في سورية في هذا العام بنشر كتاب «فليُنزع الحجاب» الذي صدر عن «دار بترا» السورية الموسومة بعلمانيتها من قبل المثقفين، بعد أن مُنع في سورية منذ ثلاث سنين، حتى لا تثار حفيظة الشارع السوري آنذاك.
وقد رفض جميع أصحاب دور النشر السورية ذكر عناوين الكتب التي تم منعها أو تغيير بعض ما جاء فيها لأسباب تعنيهم.
وفي المقابل هناك فئة تلقي اللوم على دور النشر السورية ذاتها، فهي برأيهم تخلّت عن دورها الثقافي واتجهت نحو متطلبات السوق.
يقول سامي أحمد (أديب): «دور النشر تحولت الى دكاكين مغلقة على نفسها، وابتعدت عن مهمتها الأساسية وهي تثقيف الناس، كما أنها ساهمت في جعل الناس يتجهون عند شرائهم للكتب الى اسم الكاتب
وليس محتوى الكتاب، نتيجة التسويق المغلوط الذي تقوم به هذه الدور»،
ويوافقه في ذلك الشريف، الذي يرى أن دور النشر تحتاج إلى تحسين طريقة تسويق كتبها، وينبغي أن تختار العناوين والموضوعات بعناية أكبر.
أما كيوان فيعلل هذا الأمر بالقول: «اتجاهنا الى ما يطلبه السوق هو حاجتنا كي نستمر فقط، نحن نعمل على إصدارات ثقافية، ونحاول الحفاظ على الرسالة الثقافية، لكن بالنتيجة نحن بحاجة الى دعم وتمويل».
وفي ظل هذه الأمور جميعها لا يجب تجاهل مصطلح عدم المصداقية الذي أصبح مضرب المثل الذي يطلق على بعض دور النشر السورية، فعلى الرغم من شكواها المتكرر من غياب قوانين الملكية الفكرية تقوم هي أيضا بتجاهلها لهذه القوانين ايضا، إذ تقوم بترجمة الكتب وإعادة طباعة كتب من دون موافقة الكاتب أو دار النشر، وهذا ما تحدث واشتكت منه كثير من الكتاب على شاشات التلفاز العربية، مثل الروائي المغربي طاهر بن جلون الذي ما انفك يتهم دار ورد السورية بسرقة إنتاجه، الأمر الذي يرفضه صاحب الدار مجدي حيدر، ويقول: «نحن نقوم بمراسلة الدار لطباعة الكتاب غير انهم لا يردون علينا، وبالتالي نقوم بطباعته، بغض النظر عن موافقتهم، إضافة الى أن كل دور النشر تفعل ذلك، ولا يوجد قانون محاسبة لها، لذا لم لا نقوم بذلك نحن أيضا؟ وقبل عدة سنين لم يكن هناك ما يسمى حقوق نشر في العالم كله».
وبهذه المعادلة يبقى الكتاب والقارئ هما المظلومين الوحيدين، أما الخاسر الأكبر فهو المحيط الثقافي والاجتماعي والسياسي التي تمر به سورية بشكل خاص والعالم العربي بشكل عام، والذي لا سبيل الى نهضته إلا من خلال التأسيس لجيل جديد مسلّح بمعرفة ونظرة إنسانية جديدة بدلا من رؤية إيديولوجيا مازالت تعشعش في أروقة دور النشر السورية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى