صفحات ثقافية

بيان الحلم

null

سمير قصير

لا ادري مَن كان يوزّعه في الشارع. ولم اكترث له في البدء فقد ظننته منشوراً دعائياً، ثم استوقفني العنوان: “بيان الحلم”. قلت: فلنحلم، ورحت اقرأ. كان الحلم جميلاً، فقد جاء في البيان ما يأتي:

نحن المواطنين اللبنانيين الموقّعين ادناه،

وقد هالنا ما بلغته البلاد من انحطاط للاخلاقيات العامة واغراق في النزاعات الشخصية الحقيرة وتزييف لحياتها السياسية يحول دون رصد المتحولات الهائلة الحاصلة في محيطنا والتي تلقي بظلالها على مستقبلنا ومستقبل اجيالنا،

واذ نقف على عتبة استحقاقات انتخابية ننتظر منها امداء مؤسستنا بدم جديد، من البلديات الى رئاسة الجمهورية مروراً بمجلس النواب، تَنادينا لإطلاق صرخة تعلن تطلعنا الى تغيير جذري في سيرورة الدولة اللبنانية.

بعد ثلاثة عشر عاماً على نهاية الصراعات المسلحة في لبنان، صار جلياً ان اللبنانيين، كل اللبنانيين، لم يخسروا فقط حروبهم، لكنهم ضيّعوا ايضاً فرصة النهوض، سواء بمشيئتهم او رغم أنفهم، وباتوا مهددين بفقدان آخر خيط من الامل.

بعد ثلاثة عشر عاماً من ضرب متواصل لقواعد الحياة الوطنية فاقمت ما دمّرته الحرب، وواصلت افراغ البلاد من طاقتها البشرية، لم يعد يعادل التوق الى التغيير غير اليأس من امكان حصوله في ظل طبقة سياسية تتناتشها الأنانيات ويعوقها فقدان المعايير الاخلاقية والرؤى المستقبلية.

بعد ثلاثة عشر عاماً من تدمير، تارة منهجياً وطوراً عشوائياً، لفرص النهوض المتكامل بالبلاد، ومن تيئيس لنفوس المواطنين المدعوين باستمرار الى التخلي عن دورهم في سياسة شؤونهم، استحال التغيير حلماً جميلاً فحسب، بل حلم يتوافق اهل السلطات ومن يقف وراءهم على ابقائه بعيداً عن الواقع. لكن الحلم ليس بعيد المنال، وهو يبدأ بطرق ابواب الواقع منذ اللحظة التي نجرؤ على الجهر به. الحلم هو ما نبدأ بتحقيقه عندما نصرخ حاجتنا اليه.

نحن المواطنين اللبنانيين الموقّعين ادناه،

اذ ندرك تماماً ان اختلافاتنا الفكرية والسياسية والطائفية تبرّر عند البعض القنوط والسلبية، فإننا ندرك ايضاً ان حلمنا بوطن معافى يقوى باجتماع هذه الاختلافات. فما نحلم به بسيط بساطة الايمان بالغد.

ما نحلم به، بلاد تنهل من اختلافاتها لتحولها مصدر قوة وتماسك، بلاد متحررة من قيود الأنانيات الطائفية والعائلية.

ما نحلم به، دولة تكون ملك المواطنين جميعاً، والمواطنين وحدهم، محصّنة بقضاء مستقل، وبتمثيل شعبي لا يرقى اليه الشك. دولة لا تحبسها الطائفية ولا المحسوبيات.

ما نحلم به، مجتمع لا تقيّد حركته ولاءات مفروضة، ولا يحرس انقساماته عسس المخابرات. مجتمع يضمن تكافؤ الفرص حريته.

ما نحلم به، ثقافة ديموقراطية تستعيد زخمها لتساهم في تجديد الديموقراطية العربية، ثقافة تنحاز لتحرر فلسطين ولا تخشى حرية سوريا ولا العراق.

نحن المواطنين اللبنانيين الموقعين ادناه،

اذ نعي ان تحقّق التغيير ليس مرهوناً فقط بتبدّل قواعد عمل الطبقة السياسية التي تدير البلاد، نعلن ترحيبنا ببدايات التغيير، وإن خجولة، التي راحت تظهر في دمشق والتي تشير، رغم تعثّرها، الى أن وصاية الحكم السوري على لبنان شارفت نهايتها، وندعو المسؤولين عنه الى ولوج باب الحوار الوطني والمصالحة عندهم، فلا ضمان اكبر للبنان من الديموقراطية في سوريا، مثلما لا ضمان اكبر لسوريا من لبنان موحّد معافى.

لكننا ندرك ايضاً انه يقع اولاً على المواطنين اللبنانيين، اياً تكن التبعات الملقاة على الحكم في سوريا جراء الوصاية التي يمارسها منذ ثلاثة عشر عاماً على السلطة في لبنان، تحديد المسار الذي يفتح لنا باب المستقبل ويحقق الامل في التغيير. وعليه، فاننا نناشد جميع قطاعات المجتمع اللبناني التحرك من اجل اطلاق عجلة التغيير، وذلك من خلال الضغط في اتجاه تشكيل حكومة انتقالية تشرف على الانتخابات الرئاسية وعلى تنظيم نهاية نظام الوصاية، واعادة تأسيس جمهورية الطائف وتبدأ بلسمة الجروح التي خلفتها حقبات الحرب وما بعد الحرب.

ان الحكومة المرجوة يجب ان تجتمع فيها قدرة تمثيل مختلف الفئات اللبنانية، وصفات اخلاقية جمهورية لا يرقى اليها الشك، بالاضافة الى الفاعلية الادارية العصرية. فوحدها مثل هذه الحكومة ستكون قادرة على القيام بالخطوات الآيلة الى اعادة الاعتبار الى السياسة اللبنانية واستعادة توازن الجمهورية، واهم هذه الخطوات:

تحديد روزنامة انسحاب القوات السورية، بدءاً بانسحاب جهاز المخابرات السورية، وتعيين اماكن تموضع الوحدات التي قد يتأخر سحبها وفقاً للروزنامة المشار اليها.

تطبيق بند اتفاق الطائف المتعلق بالتقطيع الاداري تمهيداً لصوغ قانون الانتخاب المنصوص عليه في الوثيقة ذاتها.

توحيد اجهزة المخابرات اللبنانية وترشيد عملها بما يتوافق مع الدستور والشرعة العالمية لحقوق الانسان، واستبعاد الرموز التي كانت قيّمة على استخدامها لمآرب سياسية فئوية او شخصية.

تحرير القضاء من التدخلات السياسية والمخابراتية.

حماية الافراد والفصائل الذين عملوا في صفوف المقاومة للاحتلال الاسرائيلي، وفقاً للشروط الميثاقية الملازمة لديمومة النسيج الاجتماعي اللبناني.

استكمال حل الميليشيات المسلحة وجمع الاسلحة منها.

اعادة النظر في قانون العفو لجهة شموله كل الجرائم المتصلة بالحرب وحتى تاريخ حل الميليشيات من دون تمييز بين ضحية وضحية، وتشكيل هيئة اعتبارية لتوصيف الجرائم السياسية المرتكبة خلال الحرب وبعدها، واطلاق المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين.

تسلّم اسلحة المخيمات الفلسطينية بعد جمعها على يد منظمة التحرير الفلسطينية، والتفاوض مع الهيئات الاوروبية والدولية لتحسين شروط عيش اللاجئين في انتظار الحل الذي يتيح لهم الانضمام الى الدولة الفلسطينية الملحوظة في “خريطة الطريق“.

استئناف سياسة الترشيد المالي تأميناً لاستعادة آليات باريس – .2

اجراء كشف حساب في كل مجالات الانفاق العام منذ نهاية الحرب، وتعيين مكامن تدخل الساسيين في توزيع المغانم.

اعادة فتح الملفات القضائية المتصلة بفضائح مصرفية ومالية تم دفنها بسرعة.

اطلاق ورشة وطنية للبحث في مستقبل الجامعة اللبنانية والتعليم الرسمي.

اطلاق حوار مع الحكم في سوريا لتعيين الثغر في معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق، وصولاً الى اكبر تكامل ممكن بين اقتصاديات البلدين.

ايها المواطنون،

منذ ان انتهت الحرب، لم تكن يوماً ظروف البلاد اسوأ مما هي الآن، لكن آلية عمل المؤسسات تشاء ان تكون هذه الظروف السيئة فرصة للنهوض، ذلك اننا على ابواب انتخاب رئيس جديد للجمهورية. فليكن هذا الانتخاب على الاقل مناسبة لنقول حاجتنا الى نهضة اخلاقية جمهورية.

ايها المواطنون، قولوا كلمتكم وإلا ضاعت الفرصة“.

* * *

لم اصدق ما قرأته. هذا محال، لم يعد احد في البلاد يتجرأ حتى على الحلم. وكنت على حق. نظرت الى الشارع حولي. لا بيانات ولا من يوزّعون، بل موكب من السيارات الاميركية الفاخرة التابعة لأحد الرؤساء والسائرة وسط الزعيق، فتنبهت الى حالي وندمت على الفور انني استيقظت من الحلم.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى