صفحات ثقافية

حين تغامر سوريا… بالديموقراطية

null

سمير قصير

أهو السقوط المدوي لنظام البعث في العراق بما كشفه من جرائم لصدام حسين تتفّه فداحتها سجلات كل أنداده؟ ام هو توهّم البعث الآخر انه لا يزال يستطيع التستّر بتشاطره في اللعبة الاقليمية للايحاء أن لا شيء تغيّر؟ ام هو، على العكس، حجم الانقلاب الحاصل في الجغرافيا السياسية العربية بما يستدعيه من طي لصفحة البعث؟ اياً يكن السبب، كان لافتاً ان تمرّ الذكرى الثالثة لرحيل حافظ الاسد من دون كبير ضجة في سوريا وفي لبنان معاً. حتى وارثه في رئاسة الجمهورية العربية السورية وفي القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي نسي الاشارة الى هذه الذكرى في المقابلة الطويلة التي بثتها قناة “العربية”، مع العلم ان ذكرى موت الاب هي ايضاً ذكرى بداية عهد الابن. ولم يعرف المشاهد اذا كان مرد هذا السكوت بقاء طيف حافظ الاسد مهيمناً ام ابتعاده عن واقع السياسة السورية.

والحال انه، في غياب اي اشارة واضحة الى تلك الحادثة، اوحى الحديث التلفزيوني للرئيس بشار الاسد بالشيء ونقيضه. فبينما كان اختيار المفردات يعلن ان حافظ الاسد لا يزال يدير السياسة السورية، راحت المحاججة بما كشفته من رغبة في الحد من الخسائر امام المعطى الاميركي الجديد، الاستراتيجي والايديولوجي، تسرّ بان حافظ الاسد بات من الماضي. وقد جاءت بعض التحليلات لتؤكد هذا الانطباع وتفيد أن دمشق صارت تفتقر الى المهارات التكتيكية التي عرف بها الاب، وان يكن من الظلم محاكمة النظام الحالي دوماً في ضوء ما حفظته الذاكرة من هذه المهارات، اذ ان الجديد الاميركي ليس معهوداً في مدرسة حافظ الاسد.

يبقى انه، مع اخذ العلم بان سوريا تهيئ لانسحاب قواتها الى داخل حدودها، والاشارة اليتيمة الى ان التغيير لا يمكن ان يقتصر على الاشخاص، كان اداء الرئيس بشار الاسد يبعث على الاحباط. صحيح ان الاسد لم يساعده “غياب” محاوره الذي بدا كأنه نسي ملفه في الفندق فلم يطرح اياً من الاسئلة الاساسية لا عن مستقبل البعث ودولة المخابرات، ولا عن زج محاولة الاصلاح الاولى في المعتقل الى جانب رياض سيف وعارف دليلة ورفاقهما، ولا عن ديمومة جماليات الاصنام والصور العملاقة في دمشق بعد تهافتها في بغداد. ولم يكن وارداً في ذهن الرئيس ان يستبق الاسئلة بنفسه. فما نعرفه عن السياسة الاعلامية السورية يدفع الى الاعتقاد ان “خفر” الصحافي جزء من شروط المقابلة.

اذاً، لا جديد في سوريا؟ بلى، لكنه لا يأتي على لسان مسؤول، بل بقلم احد ابرز المثقفين السوريين. انه “الاختيار الديموقراطي في سوريا”، الكتاب الاخير لبرهان غليون.

المؤلف ليس مقيماً في سوريا، هذا صحيح، لكنه عاد يتردّد عليها منذ بضع سنوات بعد نحو عقدين من المنفى، والكتاب في اي حال صادر عن دار “بترا” السورية وعنوانها في دمشق. صحيح ان المعلومات الآتية من هناك تقول ان الكتاب غير متوافر في المكتبات السورية، لكن الرئيس بشار الاسد لن يجد صعوبة على الارجح في الاستحصال على نسخة منه. ولعله ان فعل سيجد فيه ما يخاطب اولاً هوايته في المحاججة، مسنودة هنا بثقافة سياسية صلبة، وثانياً سبيلاً لائقاً لتنظيم نهاية مرحلة يصفها غليون بـ”مذبحة السياسة” واطلاق التحول الديموقراطي السلمي والتدريجي الذي يعيد الحيوية الى مجتمعه ويتيح المصالحة الوطنية الفاعلة.

التحول الديموقراطي في سوريا” كتب قبل الحرب الاميركية في العراق. والاهم ان كاتبه لم ينتظر ان تصبح الديموقراطية العربية مطلباً اميركياً. فعندما اصدر “بيان من اجل الديموقراطية” عام ،1977 كانت الولايات المتحدة مشغولة في غض الطرف عن السياسة التوسعية والقمعية للحكم السوري. وكان برهان غليون ايضاً من الاعضاء المؤسسين للمنظمة العربية لحقوق الانسان التي ينسى معظم الناس انها جاءت كردة فعل على اجتياح اسرائيل للبنان عام .1982 وهو مذذاك يمضي معظم وقته بين التأليف في باريس والمشاركة في ندوات عربية هاجسها النهوض والديموقراطية. ولعل اجمل ما في الكتاب نجاح غليون في نقل هذه التجربة الثقافية والتجريبية التي راكمها في اوروبا وحواضر عربية مختلفة، ووضعها في تصرف المعارضة السورية، بواسطة نَفَس تربوي يجوز وصفه بالتنويري والنهضوي.

ورغم ان الكتاب، الذي جاء على شكل ردود على اسئلة الناشر لؤي حسين، يفتقر الى وصف شامل لاحوال سوريا (ولبنان معها)، الا ان ذلك لا يقلل من شجاعة الكاتب، الفكرية والسياسية على حد سواء. الشجاعة الفكرية تتجلى في قبوله الخوض في مسألة شائكة في العالم كله، وليس فقط في سوريا، هي مسألة الاشتراكية. وهو اذ ينتقد نقداً مبرحاً تجارب الاشتراكية الواقعة، يغرف من النقاش الدائر في الاوساط الاشتراكية الديموقراطية في اوروبا وفي صفوف حركة مناهضة العولمة النيوليبرالية، ولا يتردد في اعلان انحيازه الى اليسار الديموقراطي، داعياً الى استعادة المعنى الانساني والتغييري الاصلي لمفهوم اليسار. وفي ذلك، يرد غليون على اتهام كَثُر سماعه خلال “ربيع دمشق” وهو ان معظم المثقفين المعارضين ينهلون من المشارب نفسها التي غذّت حكم البعث. والاهم من ذلك انه ينجح في توصيف الوضع السوري الرسمي بين يمين محافظ متطرف ويمين معتدل. اليمين المتطرف هو الذي يمسك مقاليد الحكم ويحول دون اي تغيير. اما اليمين المعتدل، فهو في تعريفه ممثل بقيادات من الصف الثاني تريد الاصلاح الاقتصادي من دون السياسي، تأميناً لمكانٍ لها في تقاسم الغنائم. بيد ان مقاربته للاشتراكية، التي تبدو للوهلة الاولى في غير محلها قبل ان يتذكر القارئ كم ان لغة الاشتراكية لا تزال حاضرة في سوريا، لا تعني عند غليون ان الاختيار الديموقراطي حكر على مثقفي اليسار دون غيرهم.

اما الشجاعة السياسية، فهي لا تكمن فقط في التوصيف القاسي لـ”الاجتياح الديكتاتوري”، بل ايضاً وخصوصاً في اعتراف الكاتب بما قد يعترض تجربة الديموقراطية في سوريا، سواء لاسباب طائفية او اسلاموية او بسبب التدهور الاقتصادي. بل انه يذهب الى ان “لا شيء يضمن ان لا يعود البعث الى السلطة (تذكيراً، كُتب الكتاب قبل العراق) اذا خسرت القوى الديموقراطية المعركة ولم تعرف كيف تقود الصراع من اجل الديموقراطية”. الا ان اياً من هذه الاخطار لا يثني غليون عن اولويته، وهي بناء الديموقراطية. واذ يقر ان “كل نظام ديموقراطي هو مغامرة تاريخية حقيقية”، يسارع الى التأكيد: “لا تستطيع اي قوة سياسية ان تُشرط دخولها في حلبة التنافس السياسي، خاصة عندما تضع نفسها كجبهة خلاص من الديكتاتورية، بضمانات من اي نوع“.

اما الخلاص من الديكتاتورية، فيمر بانجاز عقد اجتماعي تعبّر عنه انتخابات حرّة ويترجمه دستور ديموقراطي. ولا خيار آخر الا الفوضى او الهيمنة الاجنبية. وانصاف الحلول لا تجدي، يضيف غليون الذي يحاذر تهوين الامور على السلطة من اجل استرضائها او تبسيط مهمة المعارضة. على العكس، فانه يذهب الى ان قبول المعارضة بتقاسم السلطة قبل اي انتخابات، سيشكل تعدّياً على سيادة الشعب وتعريضاً للهدف الملح. ذلك “ان المضمون العميق للبرنامج الديموقراطي في سوريا” هو “وضع حد للنظام الشمولي” ليس الا، بما يعنيه من الغاء لـ”نظام الوصاية الابوية او السياسية او الحزبية على المجتمع” وبناء لـ”دولة مواطنين لا عزبة اقطاعية، يتحكم فيها وبمصير سكانها اسياد متوجون ومخلدون لا يسألون عما يفعلون، تدعمهم ميليشيات لا ترمي الطاعة لغيرهم ولا تخضع هي نفسها لقانون غير ارادتهم واهوائهم“.

الصورة قاتمة ولا يخفف منها شيء. فبخلاف ما قد يجده مواطنون عرب من خارج الشام وبعض اللبنانيين المأخوذين بهاجس التصدي، فان سياسة سوريا الاقليمية لا تمنح النظام ظروفاً تخفيفية، فلا يغيب عن غليون ان “الاستخدام الشعاراتي المكرر للمسألة الوطنية” هو ايضاً مرفوض، ولا ان الصراع مع اسرائيل يتطلب تماماً عكس ما تفعله السلطة، اي الانفتاح على المجتمع والتسلح بتماسكه. الا ان الحكام السوريين فضلوا استغلال الانتماء العروبي القوي لمواطنيهم “من اجل اخضاع السوريين، واحياناً غيرهم من العرب (والمقصود طبعاً اللبنانيون والفلسطينيون) لأشكال من النظم وانماط من الحكم وسياسات ليس لها علاقة على الاطلاق بالقومية العربية او بالعروبة“.

ان هذا التمظهر الخارجي كان سمة عهد حافظ الاسد. وهو يبدو الآن جزءاً من النواة الصلبة لتركته، وهو جزء يبدو واضحاً ان ابنه ووارثه يتردد في التخلي عنه، بدليل مغامرته الاخيرة في العراق ولهجته التي لم تتغير في مقابلته التلفزيونية، هذه المغامرة وتلك اللهجة اللتان يبدو انهما لا تزالان تثيران حفيظة الادارة الاميركية.

ما دامت السياسة السورية قد اختبرت المغامرة، وان في غير محلها، أليس اجدى ان تجرب مغامرة اخرى، هي التي يدعو اليها برهان غليون من اجل مصالحة سوريا مع نفسها؟


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى