صفحات العالم

رسالة إلى الرئيس باراك أوباما، نحن مسلمي العالم ننتظرك في اسطنبول، عاصمة مشروع الحداثة المسلمة

جهاد الزين
لا شك ان اختيار الرئيس الاميركي باراك اوباما لتركيا كاول بلد مسلم يزوره بعد بدء ولايته لم يأتِ نتيجة قرار مفاجئ او عابر بل حصيلة درس دقيق في “فريق اوباما” للسياسة الخارجية، جرى بموجبه استبعاد اي من البلدان المسلمة الاخرى عن لائحة هذه الزيارة الاولى لباراك حسين اوباما كرئيس… الى العالم المسلم.
السيد الرئيس،
هذا القرار الذي كانت وزيرة خارجيتك هيلاري كلينتون اول من اعلنته هو قرار ذكي جدا كبداية لمحاولة تعامل جديد مع العالم المسلم. فالكثيرون في البلدان المسلمة، ولاسيما في اوساط النخب والشرائح الاجتماعية والسياسية المنخرطة في نضالات تحديث ودمقرطة مجتمعاتها ودولها، سيعتبرون مخاطبتهم من خلال تركيا، المدخل الصحيح للحوار المطلوب بين اميركا في قيادة الغرب وهذا العالم المسلم في ظل المشاكل المعقدة المطروحة ماضيا وحاضرا. فمبادرتك هذه، من حيث قيمتها الرمزية الكثيفة، تحمل استعدادا لشكل من اشكال المكافأة المعنوية للتجربة التركية التحديثية بابعادها الثقافية والسياسية والاقتصادية. انها تجربة باتت تشكل – حتى احيانا بما يتجاوز توقعات بعض النخب التركية – نموذجا آخذا باستقطاب المزيد من الاهتمام والاعجاب في كل العالم المسلم، رغم كل المشاكل البنيوية التي لا تزال تواجهها على اكثر من مستوى، فما يحدث من تطور في تركيا عميق وثابت لا يُقارن بالوقت الضائع في انتظار “اصلاح” سطحي يسمح ذات يوم للنساء بقيادة السيارات هناك، او السماح لامرأة محجبة بممارسة احدى الرياضات هنالك مع كل الاحترام للجهودات الاصلاحية التي تبذل سواء في بعض الخليج او في ايران.
السيد الرئيس،
المدينة الكبيرة اسطنبول التي تزورها، ستلاحظ انها لا تتمتع فقط بروعة الجغرافيا بل الاهم بروعة التاريخ الذي اختار هذه الجغرافيا وجعل جمالياتها العمرانية – خصوصا اذا شاهدتها من نقطة في وسط البحيرة البحرية التي تفصل اجزاءها الاوروبية عن الآسيوية – تظهر في مشهد واحد يحمل بالعين المجردة علامات مهيبة لبعض اكثر مراحل التاريخ انسجاما وتناقضا.
لا اريد ان اقول ان مستقبل حداثة العالم المسلم يتقرر ربما في هذه المدينة. فهناك في مدن كثيرة مسلمة اخرى تجارب يومية عميقة من محاولة مواجهة تحديات العالم المعاصر. ولدينا نحن ايضا في العالم العربي قصتنا المهمة في القرن المنصرم من محاولات التحديث والدمقرطة التي ساهم بزخم فيها المسيحيون العرب والتي اجهضت معظمها التجربة الشاقة المستمرة التي فرضها نشوء القضية الفلسطينية عام 1948 وجعلت العرب يخضعون لاولوية “المسألة الوطنية” على حساب “المسألة الديموقراطية”.
لكن في تركيا، وبالتحديد في اسطنبول تعيش القصة الريادية الاقدم لمحاولات التحديث. اذ ان جذورها تبعا للنموذج الاوروبي تبدأ في القرن الثامن عشر، وهو موضوع جعل مستشرقا مرموقا من الولايات المتحدة الاميركية يخصص كتابا حوله قبل سنوات قليلة هو برنار لويس بحث فيه عن الاسباب التي ادت الى تخلف الشرق الاوسط المسلم تحت عنوان ملفت: “ما الخطأ؟” (?What went wrong).
السيد الرئيس،
1 – الاتراك الذين سيستقبلونك في اوائل شهر نيسان المقبل تعلموا درسا من خطأ جوهري وقع فيه الروس ويبدو ان ايران تكرر الوقوع فيه حاليا. فقد اظهرت تجربة الاتحاد السوفياتي ان الاعتماد الوحيد الجانب على التقدم العلمي في المجال العسكري ليس كافيا لنجاح الدولة المعنية، حتى لو شكلت امبراطورية عسكرية كبرى. هكذا سقط الاتحاد السوفياتي تحت وطأة العجز في مجالات التحديث الاقتصادي والسياسي. اما الاتراك المعاصرون فقد سعوا الى تعددية مستويات التقدم وحققوا حتى الآن نتائج مهمة – قياسا الى العالم المسلم – بين قدر متصاعد وجاد من ترسيخ المؤسسات الديموقراطية واستمرار المزيد من تجاوز معوقات “دولة القانون” وبين تحديث اقتصادي يجعل تركيا اليوم الاقتصاد السابع عشر في العالم حسب تصنيفات المؤسسات البحثية الغربية الرصينة في هذا المجال.
2 – لم يظهر التاريخ التركي الحديث ان دولة “الجمهورية التركية” اهملت الاهتمام بقوة مؤسستها العسكرية، على العكس، فمن سمات هذه الجمهورية وجود هذه المؤسسة القوية. لكن تركيا الممتدة على حدود جغرافيا سياسية معظمها قلق، لاسيما في الجنوب والشرق، لم تعكس اية ميول توسعية خارج هذه الحدود، فلجأت الى الردع حيث اعتبرت أمنها القومي مهددا كما يحدث الآن مع شمال العراق.
كل قوى الشرق الاوسط، العربية وغير العربية، باتت متأكدة من ان تركيا هي قوة استقرار عميقة في المنطقة. ففي العراق يحول الردع التركي بشكل اساسي دون اية مغامرة انفصالية كردية في الشمال، وفي الصراع العربي – الاسرائيلي تظهر تركيا دورا بناء سواء بين الفلسطينيين والاسرائيليين، او بين السوريين والاسرائيليين. انه دور بناء بالقدر الذي تتاح لها فيه الفرصة لمزيد من تطويره… وهذه نقطة تتخطى تركيا وحدها. فالعالم العربي متفائل حاليا بان تكون ادارتك الجديدة عنصر دعم لحلول تضع حدا لهذا الصراع الذي ما زال فيه الفلسطينيون يدفعون الثمن الفاحش غير المقبول منذ 1948. حلول تعيد تركيز جهود المنطقة على التقدم التحديثي وحده.
3 – كشفت تجربة السنوات الاخيرة بعدا شديد الاهمية يتخطى مجرد الدور الخارجي، الى الشخصية الوطنية نفسها لتركيا. ففي المشرق العربي تعرضنا لموجة خطرة في عدد من البلدان، انطلاقا من السعير العراقي مرورا بلبنان، هي موجة الحساسية السنية – الشيعية المتفاوتة بين دولة واخرى.
في هذه التجربة التي تلقفها الوعي الجماعي العربي والمسلم كرضة داخلية نفسية – سياسية، أثبتت الدولة التركية بنضج تاريخي بارز انها “دولة الاتزان المذهبي” في المنطقة، فرغم انها وريثة للامبراطورية السنية الاعرق، بل بسبب ذلك اظهرت السياسة التركية، مدعومة، بنضج اكيد في المجتمع التركي المتعدد مذهبيا بين اكثريته السنية واقليته العلوية الكبيرة، انها تعزز دورها كقوة استقرار ليس فقط لحدود دول المنطقة بل للبنية الداخلية لكل من هذه الدول.
السيد الرئيس،
تركيا ايضا تعاني من قوى داخلية لا تتكيف مع مسار الاصلاح، كما نشاهد بين الحين والآخر، لكنه مخاض حيوي صاعد ومتقدم داخل النموذج العلماني الكلاسيكي الذي يحاول الاتراك تجديده باتجاه قدر اعلى من المصالحة بين الدولة والدين. وستجد على رأس مستقبليك الرئيس عبدالله غول المقتنع بضرورة تجاوز تركيا النموذج العلماني الفرنسي الى ما يعتبره “النموذج العلماني الاميركي” المتصالح عميقا مع الحريات الدينية بل المؤسَّس عليها. غير ان الامر المهم في هذا السياق، انك وإن كنتَ تأتي كرئيس اميركي الى تركيا في زمن حكومة “حزب العدالة والتنمية” الذي يلعب منذ 2002 دورا مهما في تطوير التجربة الديموقراطية – التحديثية التركية، الا انه سيكون من الخطأ التقويمي اعتبار المسار التركي التقدمي هذا مرتبطا فقط بهذا الحزب. فهذا المسار التغييري البنيوي بادئ منذ عقود طويلة وسيستمر بعد هذا الحزب.
نعم نريد عبر تركيا رسالتك الاولى الى العالم المسلم… خطوة سليمة جداً ولكنها محطة في سياق، خصوصا بالنسبة لنا في العالم العربي.
مع الاحترام
بيروت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى