صفحات مختارة

هل العلمانية قابلة للتطبيق في العالم العربي؟

البعض يعتبرها بديلاً من الحرب الأهلية
حسن سلمان
لا ريب أن الحديث عن العلمانية وإشكالية تطبيقها في عالمنا العربي، يُعدّ أمرا بالغ الأهمية، خاصة في ظل التخبط الكبير الذي نعيشه الآن والذي يحلو للبعض تسميته بـ “أزمة الحداثة الرثة”. ربما تنسحب هذه الأزمة على مختلف جوانب حياتنا، غير أننا لا نريد في هذا الصدد طرح فكرة العلمانية وتسويقها على أنها “أيديولوجيا خلاصية” تم تطويرها في مختبرات الغرب لتكون الدواء الشافي للداء الطائفي المتفشي لدينا، كما يؤكد بعض المفكرين، خاصة أن العلمانيين العرب فشلوا حتى الآن في إيجاد نموذج علماني قابل للتطبيق في عالمنا العربي.
ولكن مما لا شك فيه أن تراجع الدور التنويري للمثقفين العرب كرد فعل على سلسلة الهزائم التي لحقت بنا، أدى إلى صعود الحركات الأصولية التي شكّلت بديلاً وحيداً متاحاً أمام الشعوب العربية، تعويضاً عن القمع والممارسات غير الشرعية للأنظمة الشمولية. هذا الوضع أدى لظهور بعض التيارات الفكرية “القوميون الجدد”، “العلمانيون”، دعاة المجتمع المدني التي يدّعي كل منها أنه يمتلك مشروعا جديدا وحلولا ناجعة للداء الطائفي.
وإن كنا نعتقد أن أياً من هذه المشروعات لا يمتلك- وحده- القدرة على الحل، فإننا سنناقش تاليا العلمانية بوصفها إحدى أكثر المشروعات الفكرية جدلا في هذه الآونة، على أن المفكرين الذين التقيناهم يقرّون بعدم قدرة العلمانية- كمشروع منفرد- على حل جميع المشكلات التي تجتاح عالمنا، ولكنهم يرون فيها بديلا عن الحرب الأهلية التي تغذيها موجة التفكير الإلغائي الـ”قروسطية” للتيارات الأصولية.
برهان غليون:
العلمانية خسرت الرهان في الصراع الإيديولوجي العربي
يقول المفكر برهان غليون إن العلمانية التي لا تضمن الحرية الفكرية والسياسية وتحافظ عليها، تفقد شرعيتها وتتحول إلى أداة لتسويق عقيدة سائدة، مشيرا إلى أن العلمانية “لا تشكل عقيدة بحد ذاتها، ولكنها تقدم نفسها على أنها المبدأ الذي يكفل ممارسة العقائد جميعا بقدر ما هو مؤسس لمفهوم الحرية الفكرية.”
ويؤكد غليون أن العلمانية خسرت الرهان في الصراع الإيديولوجي الماضي في البلاد العربية، مشيرا إلى أن “من ربطوا أنفسهم بها، وادعوا الدفاع عنها، اتخذوا منها أساسا لتمييز أنفسهم عن باقي فئات المجتمع، وحولوها إلى هوية وعقيدة خاصة بديلة، وطالبوا بفرضها كعقيدة دولة بدل العقيدة الدينية”.
ويضيف: “العلمانية تعني ببساطة النظر إلى الدولة كمؤسسة جامعة لا تميز بين مواطنيها حسب الاعتقادات، ولكنها لا تعادي أي عقيدة دينية أو لا دينية أيضا. وقد عبر عنها آباء الاستقلال في جميع البلاد العربية بعبارة شهيرة لا تزال صالحة حتى اليوم هي: الدين لله والوطن للجميع.”
وينفي أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون تسويق البعض للعلمانية بأنها فرض الدين العقلاني على الدولة في مواجهة الدين السماوي، أو محاربة الدين باسم محاربة الجهل، مشيرا إلى أن ذلك يجعل منها “عقيدة عقلانوية خاصة تفضي إلى الاضطهاد الديني والفكري تماما كما يفضي إليه فرض العقيدة الدينية عليها.”
ويضيف: “العلمانية أبسط في نظري بكثير مما يعتقد هؤلاء وأولئك، وهذا مكمن قوتها وانتشارها وشعبيتها أيضا في موطنها الأصلي. فهي تعني باختصار أن الدولة لا تشتغل بأمور العقيدة، أي كل ما يتعلق بموضوعات الإيمان وما يشكل مسلمات إيمانية عند الناس، سواء أكانت مسلمات دينية أو عقلية لا دينية.”
ويعتقد غليون أن مهمة العلمانية تقتصر على تحسين شروط حياة أعضائها، المادية والمعنوية، من جميع المذاهب والاعتقادات، والارتقاء بثقافتهم وتكوينهم العلمي والمهني… “أما مناقشة وإقرار العقائد فهي متروكة للجماعات المدنية نفسها، تتنازع فيها على قاعدة الحرية الفكرية والاعتقادية والمساواة الكاملة والتنافس السلمي.”
ويضيف: “إن شرط القبول بحيادية الدولة الاعتقادية وتجريدها من الدين هو الإقرار بالحرية الكاملة خارجها لجميع الأديان والمذاهب والعقائد. ومن دون ذلك تصبح العلمانية بالعكس غطاء لدولة مذهبية مقلوبة، أي أنها تفرض مذهب العقل والعلم على المجتمع بأكمله، أو تكافح ضد العقائد والأديان السائدة في المجتمع وتعمل على إضعافها ومحوها.”
وحول دعوة بعض المفكرين، وأبرزهم محمد عابد الجابري، إلى سحب كلمة العلمانية من قاموس الفكر العربي والاستعاضة عنها بشعاري العقلانية والديمقراطية يقول غليون: “لست مع الجابري في إنكار أهمية مفهوم العلمانية واستبداله بمفهوم الديمقراطية، بل أعتقد أن الديمقراطية تستدعي حتما العلمانية، أي حياد الدولة تجاه الأديان جميعا حتى تضمن المساواة بين مواطنيها كافة، بصرف النظر عن اعتقاداتهم الفكرية والمذهبية، بينما لا تستدعي العلمانية الديمقراطية ولا تتضمنها بالضرورة.”
ويضيف: “أعتقد أن لمفهوم العلمانية دورا لا غنى عنه في إضاءة مفهوم الدولة الحديثة نفسه وتعيين مهماتها وآليات عملها وتمييزها عن مهمات السلطة الدينية ومسؤولياتها. ومن دون ذلك لا يستقيم معنى السياسة الحديثة ولا نصابها. كما أن لمفهوم العلمانية في نظري دورا مهما أيضا في التمييز بين المعرفة العلمية وكل أنواع العقائد والإيديولوجيات والمحاكمات المعيارية.”
من جانب آخر يرفض غليون تحويل بعض غلاة العلمانيين الذين يمثلهم جورج طرابيشي- حسب تعبيره- العلمانية إلى عقيدة دينية جديدة تنزع إلى الحلول محل العقائد الأخرى أو التعويض عنها، مشيرا إلى أن أولئك “يصنعون مفهومها ويجعلون منه محورا ثابتا تدور من حوله جميع القضايا والمسائل الاجتماعية والسياسية والوطنية الأخرى، وفي مقدمها الديمقراطية.”
ويؤكد غليون أن نزوع الأقليات في العالم العربي لتبني الفكرة العلمانية لا يعد انتقاصا من قيمة العلمانية ولا مصدرا لملامة الأقليات أو مثقفيها، “فمن الطبيعي أن تسعى الأقليات التي عانت من التمييز السياسي الماضي، إلى التشجيع على نشر فكرة ترتبط ببناء الوطنية أو القومية فوق الاختلافات الطائفية وخارجها، وهذا في إطار النزوع المشروع إلى الاندماج في الجماعة الوطنية والمشاركة على قدم المساواة داخلها في صياغة الحياة العمومية.”
ويلخّص الأسئلة التي تطرحها العلمانية على مجتمعاتنا العربية بكيفية فصل الدين عن الدولة وتحريره منها، وإجبار الدولة على “الاستناد إلى شرعية وطنية حديثة، بدل تعكزها على شرعية دينية منعتها من الانعتاق والتحول إلى دولة مواطنيها بالفعل، وجعلتها دائما ميالة وقادرة على أن تعيد إنتاج نموذج الدولة السلطانية الأتوقراطية الممسكة بجميع موارد الشرعية الدينية والزمنية.”
ويضيف: “هذا هو معنى تجديد إشكالية العلمانية كما عرضته منذ عقدين في كتاب “نقد السياسة: الدولة والدين”. فمشكلة مجتمعاتنا هي أن السلطة السياسية هي التي سيطرت على الدين ومنعته من تكوين كنيسة، أي سلطة مستقلة سيادية، وليس العكس، وحولت الدين بالمناسبة إلى مدونة فقهية في خدمة الدولة.”
ويؤكد غليون أن الارتباط بين الدولة والدين يتطلب تعزيز استقلال السلطة الدينية من أجل حرمان الدولة والقائمين عليها من فرصة المناورة بشرعية دينية مصطنعة، تعوض عن الشرعية الشعبية وتغطي على انتهاك السيادة الشعبية الدائم والشامل، داعيا إلى تجديد النظام الديني ودمقرطة الدولة وتحويلها إلى دولة سياسية.
صادق جلال العظم:
العلمانية هي البديل عن الحرب الأهلية في العالم العربي
يعرّف المفكر صادق جلال العظم العلمانية بأنها: “الحياد الإيجابي للدولة إزاء الأديان والمذاهب والإثنيات التي يتألف منها المجتمع”، مشيرا إلى أن هذا التعريف يناسب العالم العربي “وأعتقد أننا إذا لم َنسِر في هذا الاتجاه، فالبديل هو حرب أهلية.”
ويضيف: “في العراق مثلا لا تستطيع الدولة تطبيق الشرع الشيعي أو السني أو المسيحي، لذلك فالحل هو في تطبيق قانون محايد، هو القانون المدني، وإذا لم يريدوا كلمة حكومة علمانية نقول حكومة مدنية لأن البديل عنها هي حرب أهلية.”
ولا ينفي “الماركسي القديم” أن بعض الماركسيين القدامى خلعوا عباءاتهم ليرتدوا عباءات أخرى علمانية أو حتى أصولية، مشيرا إلى أن القسم الأكبر من الماركسيين، بعد فشل التجربة الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفياتي، رجعوا لخط الدفاع الثاني وهو قيم الثورة البرجوازية.
ويضيف: “ونحن كماركسيين كنا نعتبر أننا ندافع عن قيم أكثر تقدما من قيم الثورة البرجوازية الفرنسية والثورة الليبرالية، قيم مثل حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وتداول السلطة، وأرى أن قسما كبيرا من المثقفين والمنظرين الماركسيين عادوا للدفاع عن هذه القيم في وجه زحف “قُروسطي طالباني.”
ويؤكد أنه اليوم في موقع الدفاع عن علمانية الدولة وديمقراطيتها واحترام حقوق الإنسان، و”أعتبرها المعركة الأهم على المستوى السياسي. هناك معركة أخرى هي معركة التحول إلى اقتصاد إنتاجي، ونرجو من الأنظمة الحاكمة أن تقتنع بأهمية هذا المخرج الوحيد، لأننا الآن مواجهون إما بقانون الطوارىء وإعلان الأحكام العرفية أو نموذج طالبان.”
وحول لجوء بعض المفكرين الإسلاميين للقول: “إن العلمانية في العالم العربي ابتدعها نصارى الشرق لمساواتهم كأقلية مع المسلمين”، يقول العظم: “أنا مع المساواة بين المواطنين سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو غير ذلك، كما أن هذا لا يقلل من شأن العلمانية في حال ابتدعتها الأقليات المسيحية أو غيرها.”
ويضيف: ” في الهند مثلا أكبر مدافع عن علمانية الدولة الهندية هم المسلمون لأنهم أقلية. لنفترض أن الدولة الهندية أرادت أن تعامل الأقلية المسلمة في بلدها كأهل ذمة، لا يخدمون في الجيش ويدفعون الجزية، هل سيقبل العالم الإسلامي ذلك؟
لكن المسلمين في المقابل، عندما يكونون أكثرية ليسوا على استعداد ليمنحوا نفس المساواة للأقليات الدينية الأخرى، ويتهمون الغرب في نفس الوقت بأنه مزدوج المعايير، وهم لديهم معايير عدة. فمثلا المسلمون في الهند هم مع العلمانية، لكنهم في مصر يريدون دولة إسلامية، وفي إيران دولة إسلامية شيعية.”
ويعتقد العظم أنه في مجتمع متعدد الطوائف والأديان مثل سورية ولبنان والعراق ومصر، إذا لم تكن المواطنة هي الأساس فالبديل هو الخراب. “وهذا كاد أن يحدث في مصر في إحدى الفترات حين اعتبر الإخوان المسلمون أن المسيحيين هم أهل ذمة، لذلك يجب ألا يخدموا في الجيش ولا يمكن اعتبار قتلاهم شهداء، ويجب عليهم في المقابل أن يدفعوا جزية.”
ويضيف: “لذلك أعتقد أن ليس من مخرج سوى القبول بفكرة المواطنة أمام القانون، أي تطبيق الإسلام على طريقة تركيا.”
لكنه يعود للتأكيد بأنه لا يمكن تطبيق النموذج الإسلامي التركي ـ كما هو ـ في العالم العربي ، “لكن يمكن الاستفادة والتعلم منه، لأن النموذج التركي له خصوصيته.”
ويرى أن تركيا هي البلد الوحيد الذي استطاع الجمع بين أمرين: تاريخ طويل من العلمانية المتشددة، وبنفس الوقت أنتجت هذه العلمانية حزبا إسلاميا ديموقراطيا حقيقيا قادرا على استلام السلطة عبر انتخابات حرة نزيهة، لا غبار عليها. “وهو مستعد في حال خسر الانتخابات أن ينسحب ويصبح معارضة، ويعيد ترتيب نفسه ليستلم السلطة في المستقبل. وهي حالة فريدة في العالم الإسلامي، وهنا تكمن أهمية علمانية الدولة التركية، أنها سمحت لنمو وتطور الإسلام السياسي التركي لكي يتحول إلى حزب ديمقراطي. وهذا ما لم يحدث في أي بلد إسلامي آخر.”
وحول كيفية الاستفادة من التجربة التركية عربيا يقول العظم: “هناك بعض الحركات الإسلامية في العالم العربي، استفادت من التجربة التركية كحزب الاخوان المسلمين في مصر الذي وضع برنامجاً لإصلاح الدولة والاقتصاد، متأثرا إلى حد كبير بالتجربة التركية. وهناك محاولات أخرى في مصر لتشكيل أحزاب إسلامية على طريقة حزب العدالة والتنمية في تركيا وهو ما يفعله منتصر الزيات الآن. لدينا أيضا حزب الوسط المُحارب من قبل الحكومة والإخوان التقليديين. وبذلك نستطيع القول: إننا نلمس نوعا من المخاض لتيارات إسلامية سياسية تعيد النظر بنفسها بعد العنف الذي مارسته لسنوات طويلة.”
جورج طرابيشي:
العلمانية شرط ضروري لتطبيق الديمقراطية في العالم العربي
يؤكد المفكر جورج طرابيشي ضرورة المزاوجة بين الديمقراطية والعلمانية، مشيرا إلى أن “لا ديمقراطية بلا علمانية، لأنه في ظل العلمانية فحسب يمكن للمرء أن ينعتق من عقليته ـ الدينية والطائفية ـ لكي يفكر وينتخب بالتالي على أساس عقله. ولهذا أكدت في أكثر من بحث لي على أن الديمقراطية تُرتهَن ليس فقط بصندوق الاقتراع، بل أيضا وأساساً بصندوق جمجمة الرأس.”
ويضيف: “كيف نتصور أن تقوم للديمقراطية قائمة متى علمنا أن السني لن يصوت إلا لمرشح سني، وكذلك الشيعي للشيعي، والكاثوليكي والأرثوذكسي للكاثوليكي وللأرثوذكسي؟”.
ويتابع: “لنأخذ حالة خاصة مثل مصر: فرغم أن الأقباط يشكلون ما بين 8 إلى 12 بالمئة من المجتمع المصري، فإن الوضعية الطائفية السائدة في مصر اليوم لا تؤدي إلى انتخاب نائب قبطي واحد، ولذلك تضطر الدولة إلى التدخل لتعين بعض النواب الأقباط تعيينا. وخذ أيضا مثال إيران اليوم: فالسنة يشكلون نحو 20 بالمئة من سكان إيران، ومع ذلك ليس لهم في البرلمان سوى نحو 10 نواب من أصل 600 (هذا إذا لم تخن الأرقام ذاكرتي).”
ويرى طرابيشي أن “الديمقراطية المزعومة في إيران ومصر، وسائر الدول العربية” مفصومة عن العلمانية، مشيرا إلى أن لبنان “أعرق بلد ديمقراطي عربي” يُقدم لنا شاهداً أخيراً على مأزق الديمقراطية عندما تختزل إلى مجرد صندوق اقتراع، ولا يكون الاقتراع إلا على أساس طائفي. “علماً بأن صندوق الاقتراع ـ بالمعنى الديمقراطي الحقيقي للكلمة ـ لا وجود له أصلاً في معظم البلدان العربية.”
ويرفض صاحب “هرطقات 2-العلمانية كإشكالية إسلامية-إسلامية” ما يروّج له بعض المفكرين من أن العلمانية اختُرعت في مختبرات الغرب فقط كعلاج للصراع الطائفي في المسيحية، مشيرا إلى أنه لا ينكر أن العلمانية اختُرعت فعلا في مختبرات الغرب، ولكنه لا يرى ذلك حجة لعدم تطبيقها في العالم العربي.
ويضيف: “لو أخذنا بهذا المنطق لكان علينا أن نرفض تطبيق الديمقراطية في العالم العربي، لأن الديمقراطية قد اخترعت هي الأخرى في مختبرات الغرب. وعلى كل حال، لئن كانت العلمانية هي العلاج للصراع الطائفي، فحاجة العالم الإسلامي إليها لا تقل عن حاجة الغرب لأنه مُبتلى بداء طائفي أشد ضراوة ومرارة، حتى من ذاك الذي عرفته أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت في مطلع الأزمنة الحديثة.”
وحول عدم تمكن المفكرين العلمانيين العرب من تطوير نموذج للعلمانية قابل للتطبيق في العالم العربي يقول طرابيشي: “لقد أَثَرت أكثر من مرة في ما كتبت عن العلمانية، أن العلمانية في العالم العربي ليست صيغة جاهزة برسم التطبيق، بل المطلوب إعادة اكتشافها واختراعها وتطويرها لتكون متلائمة مع الواقع العربي ومتطلباته. أما العلمانية المترجمة حرفيا فلن يكون مصيرها أحسن من تلك الفلسفة العربية التي قلت سابقا إنها مستحيلة الوجود لأنها بقيت مجرد فلسفة مترجمة.”
ويضيف: “العلمانية في الغرب قامت على أساس فصل الدولة عن الدين، وُحصر مجالها بالقطاع العام دون المجتمع. ولكني أعتقد أن الاكتفاء بالفصل بين الدين والدولة غير كاف في الساحة العربية، بل لا بد للعلمانية من أن تعمل مِعولها في عمق المجتمع نفسه.”
يوسف سلامة:
العلمانية ليست مشكلة ثقافية
يميل المفكر يوسف سلامة لتقسيم العلمانية إلى أربعة أركان، يتلخص الأول بكيفية النظر إلى الإنسان وبقية الظواهر على أنها شؤون دينية، في حين يرتكز الثاني على العقلانية التي لا تزدهر إلا بوجود الحرية (الركن الثالث)، ومن ثم الديمقراطية كركن رابع.
ويشير سلامة إلى أنه لا يرفض مقولة أن العلمانية تقتضي فصل الدين عن الدولة، ولكنه يعتقد أن الأمر يتعدى ذلك إلى أبعاد أخرى، “فإذا فصلنا الدين عن الدولة دون أن يكون لدينا تصوّر عن الإنسان، فعندئذ لن يكون بوسعنا أن نقدم شيئا مهما للإنسانية، فالحرية الإنسانية مترامية الأطراف، بمعنى أن الحرية الإنسانية لا تخلق نظاما سياسيا في الديمقراطية فقط، وإنما تخلق قيما روحية في الدين. وهذا بعد آخر للكينونة الإنسانية.”
ويضيف: “طبعا أنا لا أحصر الكينونة الإنسانية بهذين البعدين ولكن ما دمنا نتحدث عن العلمانية، فلا بد من أن ننتبه إلى هذين البعدين في وقت واحد، نعم الحرية فاعلية تضع وتنتج في اتجاهات مختلفة، فإذا أبرزنا هنا هذين الجانبين (السياسي والروحي) فلأن حديثنا عن العلمانية يفترض ذلك.”
ويعتقد سلامة أن مشكلة العلمانية ليست مشكلة ثقافية، وطرْحها على أنها كذلك يزيّفها ويجعلها مشكلة وهمية لا أساس لها، مشيرا إلى أن المشكلة في العالم العربي هي مشكلة سياسية وليست مشكلة ثقافة، “هب أننا وضعنا أحسن النماذج العلمانية، من الذي سيطبقها أو سيقبلها في مجتمع غير ديمقراطي؟ إنه السياسي، فالسياسي العربي سياسي مستبد بامتياز، ولا يقبل رأيا ولا مشاركة ولا يقبل نصيحة أحد، فكيف به أن يقبل الديمقراطية.”
ويضيف: “إذا ليست المسألة مسألة نموذج ثقافي علماني، المسألة أن المجتمع العربي برمته مازال في كبوة وغير قادر على النهوض، وهو يحيا في حالة ركود من ألف عام، هذا الركود يجعله يعيد إنتاج التخلف ويعيد إنتاج الركود، ومن ثم يظل مشدودا إلى الماضي.”
ويتابع: “يتساءلون لماذا هناك أصولية؟ لأنه ليس هناك حاضر ببساطة. المجتمع العربي ليس له حاضر هو يعيش في حاضر زائف. حاضر المجتمع العربي هو ماضيه ومن هنا تأتي المشكلة الكبيرة، لذلك هذا الركود و”الاستنقاع” هو الذي يحتاج إلى كسر، ولسنا بحاجة إلى مجرد نموذج ثقافي علماني حتى يهتدي به المجتمع أو الساسة العرب، من هنا تمسّ الحاجة إلى كسر هذا الركود والخروج منه، وكسر دائرة الماضي الذي يهيمن على الحاضر بقوة شديدة.”
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى