صفحات مختارة

مدن للإصلاح والبيئة والطبقة الوسطى

إبراهيم غرايبة
لم يعد مبالغة القول أن المدن تشكل مدخل الإصلاح الشامل وبناء مجتمعات التسامح ومواجهة التطرف، وهي أيضاً مدخل تعزيز وتمكين الطبقة الوسطى، وبعد اكتساب دعوات حماية البيئة ومواجهة التلوث صدقية عليا، وتحولها إلى أولوية عالمية كما في قمة كوبنهاغن ومناسبات عالمية كثيرة، أصبحت العودة إلى أسلوب حياة الطبقة الوسطى وإتاحة المجال لها للانتشار، او على الأقل عدم تعميم أسلوب الحياة المكلف والمحتاح إلى تدخل إضافي من الطاقة والتقنيات، أولوية قصوى.
لكن، هل تصلح البيوت والمدن والبلدات والأحياء والطرق والمرافق التي تقام وتخطط في بلادنا للحياة الإنسانية المعاصرة؟ هل يمكن الحصول على عمارة أفضل من غير تكاليف إضافية؟ هل يمكن تحسينها من غير تدخلات مكلفة ومرهقة؟ وربما يكون السؤال الأكثر إيلاماً من ذلك كله هو هل تضر أم تفيد أنظمة البناء وتخطيط المدن والطرق بالبيئة والزراعة ومصادر المياه وأسلوب الحياة؟ اليوم وقد أصبحت البيئة والمياه والزراعة تحدياً رئيساً ومصيرياً يؤثر في كل قراراتنا وأسلوب حياتنا، وقد أصبح تفسير التطرف والجريمة مرتبطاً بأسلوب الحياة وتصميم المدن ومرافقها، فإننا بحاجة كبيرة إلى مراجعة أنظمة التخطيط العمراني والاجتماعي المتبعة.
ولم يعد ذلك الموضوع ترفاً تنشغل به فئة من الناس دون غيرهم، ولا موضوعاً متخصصاً يخص فئة من المهندسين والمتخصصين، لكنه وإن كان يحتاج إلى خبرة وتعلم أصبح ثقافة عامة ضرورية لكل مواطن، ولا أعني بالقول إنه ثقافة عامة أنه موضوع سهل يمكن فهمه واستيعابه وتعلمه مثل القضايا العامة والسياسية على سبيل المثال، ولكنني أعني ضرورة أن ينشغل بتعلمه وفهمه كل مواطن وألا يظل شأناً متخصصاً بفئة من الناس. لقد أصبحت غالبية القضايا المهنية والمتخصصة شأناً عاماً، مثل البيئة والعمارة والصحة والاقتصاد والغذاء والتعليم والإعلام والدين، وهذا يقتضي بالضرورة منظومة من التعلم الذاتي والمستمر على نحو مضن وممل (ربما)، ولكن لا مناص من الخروج من حالة التلقي السهلة والاعتماد على وسائل الإعلام في المعرفة والتخطيط والتفكير، ففاقد الشيء لا يعطيه!
ثمة عشوائيــــة اجتماعية وثقافية وعامة في السكن والإقامــــة والبنـــاء لا تلتفت إليــــها الأنظمـــة الفنية والتقنية في التخطيط، ولكنها في نتائجها وتبعاتها تدمر منظومة الحياة والموارد والأنظمة الاجتماعية والثقافية المشكلة لحياة أفضل والمنشئة (يفترض) للتقدم والإبداع، فيفترض أن تختار مواقع البيوت وتخطط الأحياء والبلدات والمدن على النحو الذي يحمي الموارد الطبيعية والمياه والأراضي الزراعية والأودية والسيول وأحواضها، فتجنب هذه المناطق كل أشكال البناء والطرق والاعتداء عليها والإضرار بها، وتصمم الطرق على النحو الذي يمنح الحي الهدوء والخصوصية، وتتيح للأطفال والمعوقين وراكبي الدراجات والراغبين في المشي القدرة على التحرك والمسير بأمان وسهولة، وأن تخصص لكل حي أو بلدة أسواق ونواد ومدارس وحدائق ومكتبات وساحات وملاعب يمكن الوصول إليها مشياً على الأقدام، بحيث يكون المشي على الأقدام أو بالدراجات الهوائية الوسيلة المتبعة (غالباً) في الذهاب إلى العمل والسوق وأماكن العبادة والنوادي والساحات والملاعب والحدائق، ويستطيع الأطفال والكبار المقيمون في الحي التجمع والالتقاء على نحو تلقائي ومتواصل وبسهولة في السوق والنادي والمدارس والملاعب والساحات، وبذلك فإن أسلوب الإقامة والحياة يتيح على نحو تلقائي وفراً هائلاً في الطاقة والموارد يحمي من التلوث ويقلل من الاعتماد على الطاقــة، ويصون الموارد المتاحة، ويتيح التجمع والتفكير والعمل المشترك.
ليست وحشية المدن وقسوتها قدراً حتمياً، أو أسلوباً تلقائياً للحياة فيها، بل العكس هو الصحيح، فالمدن عادة دافئة ورحيمة، وغالباً ما تكون العشوائية والوحشة والاغتراب في المدن مردها إلى عجز الناس وإدارات المدن عن توفير وتهيئة أساليب للحياة والإقامة والعلاقات ملائمة للمدينة، كيف يمكن الجمع بين الفردانية في المدن والتعاون والدفء في العلاقة؟ كيف يمكن بناء الانتماء والمشاركة وفي الوقت نفسه تشكيل الخصوصية والعزلة الإيجابية الضرورية للمدن وسكانها؟ لا بأس من مواصلة تكرار القول بأن الروابط والعادات القروية تحول حياة المدن إلى شقاء، فالروابط القرابية ترهق الأوقات والعادات والأعمال، فالأصل في العلاقة المدينية أنها تقوم على الجوار والصداقة، وأن يكون محتوى تجمع الناس ولقائهم قائماً على الثقافة والفنون أكثر من النميمة والمسلسلات التلفزيونية الخاوية، وفي غياب موارد النميمة في المدن او تعقد الحصول عليها تصبح الحياة مملة مفتعلة، ولكن النظر إلى أساليب الحياة التي ترتقي بها وتجملها أو تبادل الخبرات والمعارف يجعل من التجمعات العفوية أو لحضور الأفلام والأمسيات الفنية والثقافية مصدراً لحياة ثرية وجميلة.
وسيتيـــح التعايش التلقائي والمتواصل فرصاً للتشكل الاجتماعي والثقافي للناس والتجمع على أساس مصالحهم وأولوياتهم، من قبيل التعليم في مدرسة الحي التي يدرس فيهــــا أطفالــهم، والمباريات الرياضية والترويح في النادي، والانتخابات المحلية والنيابية التي تجري، والتنسيق والمشاركة مع السلطات والشركات لأجل رفع مستوى جودة الخدمات التي تقدمها الشركات والمؤسسات، ومواجهة المشكلات والتحديات والاحتياجات الاجتماعية والصحية، مثل رعاية الأطفال والكبار وذوي الاحتياجات الخاصة، والاستهلاك، والجرائم والإدمان، أو توفير الاحتياجات الأساسية بأفضل مستوى وأقل تكلفة مثل الماء والكهرباء، والخدمات الصحية والاجتماعية.
ويمكن بمستوى أكثر تقدماً (ولكنه ممكن) من العمل المؤسسي المجتمعي تشكيل جمعيات ومنظمات للمجتمع المدني تعنى بقضايا كثيرة جداً ومفصلة من أساليب الحياة وتطويرها، مثل حماية المستهلك، حمايته على نحو أكثر تفصيلاً من الاستهلاك العام، مثل جمعيات أكثر تخصصاً وخبرة في حماية عملاء البنوك، والمستفيدين من خدمات الكهرباء والاتصالات والتأمين، وإدارة المخلفات والنفايات وتدويرها، وتطوير العلاقة بين المواد المستخدمة في البناء والاستخدام المنزلي والصحة والراحة، وتطوير العلاقة بين تصميم المبنى وأسلوب الحياة، الذي يمنح السلام والتسامح، والهدوء، والخصوصية، والانكفاء، والجمال، والعمل والتعليم في البيت، والفردية، وهكذا فإن الناس في المدينة قادرون على التجمع وفق منظومة من المبادرات والأعمال التي تجعل لحياتهم معنى وتمنحهم أيضا الانتماء والمشاركة … والتقدم.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى