صفحات ثقافية

لا تتأخر يا عباس فنحن في انتظارك

null
بول شاؤول
كنت في لودي (فرنسا) عندما نزل عليّ الخبر كالصاعقة: صَدَمتْ عباس بيضون سيارة في بيروت، وحالته دقيقة. وما كان مني إلا أن بادرت إلى الاتصال بأصدقائي أحمد بزون واسكندر حبش وعقل العويط للاطمئنان، عدة مرات في اليوم. والكل كرّر انه يعالج في المستشفى وحالته مستقرة. وعندما عُدت إلى بيروت كررت الاتصال بأصدقائي وكان جوابهم “حالته دقيقة” كما يقول الأطباء. أف! دقيقة. ماذا تعني “دقيقة”؟ وفي الصباح عُدت عباس في مستشفى الجامعة الأميركية. وسُمح لي بالدخول إلى غرفته في العناية الفائقة بعدما أُلبست البُرنس المعقم والقفازات المعقمة. إنه عباس في السرير. قلت فلأحاول أن أكلمه “عباس” انا بول. أكيد إنك تسمعني. الكل يسلم عليك في مهرجان الشعر في لودي. الكل تأثر. الكل يتمنى لك الشفاء. الكل حملني سلاماً وتحية وقبلات. كلهم يا عباس. الشعراء. هناك. من عرب وغير عربَ”. يللا يا عباس. أنت قادر تنهض. تستطيع أن تتجاوز الأزمة”.. لم يجبني عباس. قد يكون سمعني أو أجاب بصمته. لكن عندما غادرت الغرفة شعرت بأسى وحزن وأسف، لكن في الوقت نفسه بأكثر من أمل بأن عباس سيتجاوز معاناته. ولو كنت اعتدتُ الصلاةَ لصليت من قلبي. لكن الإيمان أقوى. وتذكرت عندما أجرى عباس عملية القلب المفتوح كنت إلى جانبه. وتذكرت عندما أجريت بدوري عملية القلب المفتوح كان إلى جانبي. وها أنا بدوري مع كل الشعراء والأصدقاء والكتاب إلى جانبه. وعندما التقيت علوية صبح في صالون المستشفى بدا على وجهها تأثر بالغ: “شفت مللا قصة” ، وأردفت عندي أحساس كبير بأنه سيتجاوز المحنة. عندي أمل. والكل عنده أمل. وأمل كبير برغم القلق. فعباس الذي نعرفه قوياً سينهض وعباس الشاعر وبقوة الشعر سينهض.
فالشعراء أقوياء بشعرهم وقادرون على تجاوز أقسى الظروف. وعباس الذي عاش الحروب والمصاعب والأحداث والتجارب وخرج منها أقوى، سيفتح عينيه كنوافذ صباحية ويقف كشجرة باسقة ويتكلم بلكنته المحببة. ذلك انه يعرف الآن، وهو ممدد في سرير المستشفى أن الجميع ينتظرونه من أصدقاء وأهل وشعراء وكتاب.. وناس وزملاء. ينتظرونه. في بيروت وفي العالم العربي وأبعد. ويؤمنون بأن ما يشده إلى الحياة أقوى من كل شيء.
نعم! يا عباس. كلنا ننتظرك مهما شابَ الانتظار من لهفة، ومن قلق، فأنت معنا ونحن معك. سلالة الشعراء مهما تخاصم أفرادها هي سلالة وأكثر ووشائجها أعمق من أي وشائج أخرى.
إنها السلالة تقف كلها مع أحد كبارها، تجتمع حوله ورجاؤها كبير بشفائه. ورجاؤها كبير بأن عباس لن يخذلها وان هذه الغيبوبة ليست أكثر من نوم ثقيل سينفضه عن عينيه ويقفز من سريره ويبتسم لنا، ابتسامة العائد.
وصدقني يا عباس، إني أحمل في قلبي أكثر من توقع بشفائك وحتى أكثر من تأمل. وأكثر من رجاء. أحمل في قلبي يقيناً قاطعاً بأن ما تعرضت له ليس سوى معاناة عابرة على صعوبتها، أنا أحمل في قلبي (وأكثر من إحساس) جواباً حاسماً بأنك، لا محالة، ستقوم معافى، وأكثر، وقوياً وأكثر، وصلباً وأكثر، ومنذ الآن، ننتظرك يا عباس بعد منتصف الليل، في شارع الحمراء وأنت تمشي، وتلتقي ونتقاطع ونتبادل الحديث ثم نكمل المشي. ومنذ الآن ننتظرك في المقهى، على فنجان قهوة وعلى حديث حول الشعر، وحول البلد، وحول النساء، وحول الحياة.. ولا بأس يا عباس بشيء من “النميمة” البيضاء.
لكن رجاء يا عباس، لا تتأخر كثيراً وأنت قادر. (وأنا متيقن) على انك لن تتأخر عن الشارع والجريدة والمقهى والشعر والأهل والأصدقاء والزملاء…
لن تتأخر عنا.. ولا عن ولديك ولا عن أصدقائك.. ولا عن الشعر!
فكل شيء يتهيأ لخروجك المؤكد من هذه المحنة.
هذه المحنة العابرة!
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى