صفحات العالم

قراءة في ما يجري بخصوص مشروع المعاهدة الأمريكية العراق

null
عبد الحفيظ الحافظ
خمس سنواتٍ ونيف مضت على الاحتلال الأمريكي للعراق ، وما زالت طاحونة الدم والقتل والإرهاب والدمار والتشريد تدور ، ولم يسعف الاحتلال وحكومة المالكي انزواء الأكراد في ” كردستان ” ، بالرغم مما يعانونه من الجارين الإيراني والتركي ، ولا الصحوات العشائرية المسلحة ، التي وقفت بوجه ” القاعدة ” وأراحت جنود الاحتلال وحكومة المالكي من مهمة بسط الأمن في مناطقها ، ولا المحاولات الأمريكية الإيرانية بالخروج من حلبة الصراع بينهما فوق العراق وعلى مستقبل المنطقة بالتراضي حيناً ، وبدق طبول الحرب حيناً آخر ، مع أن احتلال العراق شجع إيران للعودة بمبدأ تصدير ” الثورة “.
لقد أخفق العراق حتى الآن بألوان الطيف الاجتماعي والسياسي والديني والمذهبي والقومي والإثني و” بمقاومته ” في صياغة مشروع سياسي لعراق ديمقراطي موحد لكل مواطنيه ، يلحظ وجود المحتل وآلية التعامل معه والتحرر منه ، كما عجز عن إقامة دولته بعد تفكيكها وتحلل المجتمع ، دولة الكل الاجتماعي بمؤسسات وطنية ، تصون استقلال العراق وسيادته .
في هذه الأزمة العامة التي تعصف بالعراق ، والمأزق الأمريكي فيه ، سُرب مشروع الاتفاقية الأمنية / المعاهدة الأمريكية العراقية ، تعبيراً عن رغبةٍ أمريكية بوقف النزيف البشري والمادي لقواتها بالخروج من المدن العراقية ، وبجني ثمار احتلالها للعراق ، بالحفاظ على أهم أهداف الحرب : تأمين السيطرة على موارد العراق النفطية – ثاني احتياطي نفطي في العالم – ، وضمان أمن إسرائيل بخروج العراق من الصراع العربي – الإسرائيلي ، كما خرجت منه مصر بمعاهد كمب ديفيد ، وإقامة قواعد عسكرية ومطارات دائمة لأهداف تتعدى العراق والمنطقة .
إن مشروع المعاهدة توسيعٌ لإعلان المبادئ الذي وقعته إدارة بوش مع حكومة المالكي في 26/11/2007 ، وهي جادة في إعلانها في 31/8/2008 قبل مغادرتها البيت الأبيض ، عسى أن تخفف من وطأة تورطها في الحرب عام 2003 على الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة القادمة ، فالحرب على العراق ومصير الجنود الأمريكيين وما تتحمله الخزينة الأمريكية ودافعو الضرائب لتمويل الحرب الذي تجاوز تريليون دولار مادةٌ رئيسة في الجدل السياسي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري وبين الناخبين ، وهذه دوافعٌ داخلية أمريكية أملت بنود الاتفاقية ..
لقد كشف مشروع الاتفاقية/المعاهدة خدعة نقل السيادة إلى العراقيين ، التي أشرفت على تمريرها الأمم المتحدة في 30/1/2004 ، ومهد لها الرئيس بوش بإعلانه في حزيران 2003  إكمال المهمة في العراق بسقوط نظام صدام .
بغض النظر عن الجدل الدائر بين حكومة المالكي وواشنطن حول ما سُرب من المعاهدة ، فقد عبرت عن رغبة الحكومة العراقية بقواعد أمريكية مؤقتة ومقيدة المهمات ، وعن رغبة أمريكية بوضع العراق تحت الوصاية البعيدة الأجل ، مع أن الطرفين تجاهلا استقلال العراق وسيادته ، فبنودها لا تتضمن جدولاً زمنياً لخروج القوات الأجنبية من العراق ، وربما قناعة الطرفين أن ليس في الإمكان خروج الأمريكيين عسكرياً قبل سنوات خشية الفوضى والتدخلات المجاورة ، بل إن الجدل بينهما يدور على التفاصيل وشكل السيطرة والعلاقة مع القواعد العسكرية ومدة بقائها ودفع الإيجارات .
لم تستطع حكومة المالكي توظيف الرفض العراقي ” السني والشيعي ” ورفض الأحزاب المشاركة في الحكومة للمعاهدة ، التي اقترحتها الإدارة الأمريكية برفض المعاهدة جملةً وتفصيلاً ، وهي لا تستطيع ذلك بتركيبتها ومرجعياتها وبنيتها والظرف الذي شُكلت فيه ، حتى أنها لم تلوِّح بحق العراق بالعودة لمجلس الأمن ، ولم تستثمر رفضٍاً إيرانياً لها ، عبر عنه المسؤولون الإيرانييون الذين التقى بهم  رئيس الحكومة المالكي في زيارته الأخيرة لطهران ، بالرغم عما صرح به وزير خارجيتها للمالكي : إن طهران تعارض توقيع المعاهدة الأمنية بين بغداد وواشنطن إذا لم تحصل على ضمانات تتيح لها المشاركة في نظام أمني إقليمي  !.. ولم يرَ السيد المالكي نفسه حتى الآن بحاجةٍ إلى زيارة بعض العواصم العربية عدا عمان لبحث المعاهدة والاستقواء ” بالنظام ” العربي ، فهناك وجودٌ عسكري أمريكي متنوع الدرجات في /14/ دولةٍ عربية ، وعذراً من فيروز ” لا تندهي ما في حدا ” .
لم يحظَ مشروع المعاهدة بالاهتمام المطلوب من وسائل الإعلام العربية ، وواجهته الأنظمة العربية بالصمت والتجاهل – فهذا شأن داخلي – وكأنها شاهدٌ ما شاف حاجة .. إن الجانبين الأمريكي والعراقي طرحا مطالب شكلت بمجملها نقاط خلافٍ عرقلت استمرار المفاوضات حالياً ، وأخرت تصديق الاتفاقية من قبل مجلس النواب العراقي ، واقتضت تسريب مشروعها الذي تضمن المطالب الأمريكية : حق السيطرة على الأجواء العراقية ، والحصول على تسهيلات وقواعد ومطارات عسكرية مفتوحة على الأرض والأجواء والمياه، وحق اعتقال أي عراقي يعتقد الجيش الأمريكي أنه يشكل تهديداً لأمنه ، والاحتفاظ بحق شن عمليات عسكرية لملاحقة الإرهاب ، والحصانة القانونية للجنود الأمريكيين والمقاولين والشركات الأمنية ، وكل هذه المطالب لا تشترط الرجوع إلى الحكومة العراقية .
أما الحكومة العراقية الرابعة في ظل الاحتلال فإنها تشترط منح التسهيلات بموافقة الحكومة العراقية ، وإقامة قواعد عسكرية أمريكية مؤقتة ، يعاد النظر بوضعها سنوياً كما هو الحال في تركيا ، وحصر الحصانة القانونية للجنود الأمريكيين خلال العمليات العسكرية ، ومطالبة القوات الأمريكية بدفع إيجارات سنوية للأراضي التي يقيمون عليها قواعدهم المؤقتة ،والتعهد بأن لا يكون العراق مصدر تهديد لدول الجوار ، ومن الملاحظ أن تصريحات المالكي أخذت في التشدد تجاه المعاهدة بعد زيارته لإيران .
نعتقد أن رفض الاتفاقية سيتنامى على الصعيد الشعبي العراقي ، ومن قبل الأطراف السياسية والاجتماعية ، و سيسقط في يد حكومة المالكي وستعود إلى مجلس الأمن للتمديد للقوات الأمريكية في العراق لستة أشهر أخرى أو سنة ، وهذا تجاوز للإدارة الأمريكية الحالية ، وإرباك للحزب الجمهوري .
صرح نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي عن وجود إجماع وطني على رفض المعاهدة ، و دعا المؤتمر القومي العربي – والمؤتمر القومي – الإسلامي والمؤتمر العام للأحزاب العربية في بيانه الى إدانة عقد الاتفاقية في 11/6/2008 مستنكراً المفاوضات الجارية بين الاحتلال والحكومة العراقية وناشد تشكيل جبهة عربية لإسقاط مؤامرة الاتفاقية ، كما رفضها التيار العربي في العراق رفضاً قاطعاً حسب بيان ” الأمانة العامة ” المؤرخ في 3/6/2008 محذراً : ” إن توقيع الاتفاق أو المعاهدة سيخرج العراق من مظلة البند السابع واستعادة سيادته ، بينما التوقيع سيخرج المحتل من سلطة الأمم المتحدة ورقابتها ، وإن كانت شكلية ومن مظلة القانون الدولي وإن كانت لفظية “.
في هذه القراءة لمشروع المعاهدة نلفت النظر إلى أن للمعاهدة قانون نفطٍ موازٍ لها ، فشلت حكومة المالكي في تمريره ، وهو يضع اليد الأمريكية على النفط ، ويلغي تأميم شركة نفط العراق الذي تم في 1/6/1972 واستعاد به العراق سيطرته على موارده النفطية .
كما أن المعاهدة بغض النظر عن نصها انتهاكٌ للقانون الدولي بعقد اتفاقية بين المحتِل والمحتَل، لأن القانون الدولي لا يسمح للمحتل أن يفرض على المحتل اتفاقات جائرة تمس سيادته الوطنية وأبسط مقومات استقلاله .
وقد تضمن تسريب المعاهدة تلاعب مقصود بالاسم ” اتفاقية / معاهدة ” رغم أن مضمونها معاهدة بامتياز ، ، الذي يرى أيضاً ان الكونغرس الأمريكي لا يصادق إلا على المعاهدات ،بينما الاتفاقية غير ملزمة للإدارة الأمريكية القادمة ..
بعد مواجهة مشروع المعاهدة بالرفض من قطاعات من الشعب العراقي قدم الأمريكيون مسودة جديدة للمعاهدة ، خفضوا خلالها سقف مطالبهم ، وألغوا الشكليات التي تعترض عليها حكومة المالكي كما أعلن ” النائب عن التحالف الكردستاني محمود عثمان ” ،
يبقى جوهر المسألة أن توقيع الحكومة العراقية على أية معاهدة مع المحتل يخرج الوجود الأمريكي من الفصل السابع من القانون الدولي، وأن توقيع معاهدة تقرُّ للمحتل ببناء قواعد عسكرية تحت أية ذريعة أو صفة هو انتقاص لسيادة العراق على أرضه ، وهو طعن لاستقلاله ، ويبقي العراق موضوعاً للولايات المتحدة ، ونقطة تجاذبات وخلافات مع دول الجوار
الموقف الديمقراطي العدد – 109

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى