صفحات ثقافية

«اسطنبول» أورهان باموك … سيرة كاتب ومدينة

null
دمشق – ابراهيم حاج عبدي
لم يرتبط اسم روائي باسم مدينة، مثلما ارتبط اسم الروائي التركي اورهان باموك بمدينة اسطنبول. معظم رواياته، إنْ لم نقل كلها، نهل من روح هذه المدينة المثقلة بإرث تاريخي، حضاري، والمنقسمة جغرافياً بين قارتي آسيا وأوروبا، والمتأرجحة، منذ مطالع القرن العشرين، بين الحداثة والتقليد. جملة من المفارقات، والتناقضات الحادة تتناغم بصمت في أزقة وشوارع وأحياء مدينة شكلت مسرحاً لأعمال باموك. ولدى منح صاحب «اسمي أحمر» نوبل الآداب لعام 2006، كانت الأكاديمية السويدية محقة حين قالت إن باموك «اكتشف رموزاً روحية جديدة للصراع والتشابك بين الثقافات، خلال بحثه عن روح مدينته الحزينة، اسطنبول».
«ولدتُ في 7 حزيران (يونيو) 1952، بعد منتصف الليل بقليل في مستشفى في مدينة اسطنبول. كانت الممرات هادئة، وكذلك العالم. لم يكن ثمة ما يهزّ كوكبنا سوى نشاط بركاني في ايطاليا، آنذاك». هكذا رأى باموك النور في حي (نيشان طاش) الراقي في مدينة اسطنبول، ولم يغادرها سوى ثلاث سنوات عندما ذهب إلى الولايات المتحدة الأميركية منتصف الثمانينات من القرن الماضي. بعد نصف قرن من العيش المتواصل فيها، أراد أن يوجه تحية، على طريقته الخاصة، إلى مدينته، فأصدر كتاب «اسطنبول» الذي صدرت ترجمته العربية عن دار المدى، بتوقيع عبدالقادر عبد اللي.
رواياته السابقة مثل: «القلعة البيضاء»، «البيت الصامت»، «الكتاب الأسود» وسواها، مستوحاة من أجواء ومناخات اسطنبول. وكذلك «جودت بك وأولاده»، الصادرة عام 1982. ترصد الرواية محطات مفصلية في تاريخ تركيا خلال القرن العشرين بدءاً من «انهيار الإمبراطورية العثمانية» في بدايات القرن الماضي، مروراً بوفاة مصطفى كمال أتاتورك في العام 1938، وصولاً إلى الفوضى والانقلابات العسكرية في سبعينات ذلك القرن، وكل ذلك من خلال عيون الشعب التركي في أجياله الثلاثة المتعاقبة التي تمثلها عائلة جودت بك. بدا أن هذا الجهد الكتابي المضني لم يشفِ غليل الكاتب، فارتأى أن يخصص لمدينته كتاباً مستقلاً، يسمي من خلاله الأشياء بمسمياتها الحقيقية، من دون مراوغة روائية، وبمعزل عن الخيال، وعن ضرورات البناء الفني للرواية، كجنس أدبي. يقول باموك: «ثمة كتّاب كتبوا بنجاح، مغيّرين لغاتهم، وثقافاتهم، وقاراتهم أمثال كونراد، نابوكوف، ونايبول. أعرف أن ارتباطي بالبيت نفسه، وبالشارع نفسه، وبالمنظر نفسه، وبالمدينة نفسها، بلورني على النحو الذي منحت فيه الهجرة أو المنفى الهوية الإبداعية والقوة لأولئك الكتاب. هذا الارتباط بإسطنبول يعني أن قدر المدينة يكوّن شخصية الإنسان».
وفق هذا الإدراك العميق بدور المدينة في صقل شخصيته وتكوينها، يمضي باموك نحو الكشف عن أسرار مدينة اسطنبول وألغازها. يقدم صورة، بالغة الثراء، عن جوامعها ومآذنها وقبابها وجسورها وشوارعها وأزقتها الخلفية. يعود تارة إلى التاريخ، وتارة أخرى يراقب حركة المدينة المعاصرة، ولا يستطيع أن ينأى بنفسه عن عقد مقارنة بين ذاك الماضي المشرق، كما تصوره المراجع، وبين حاضر غارق في الحزن والضياع. الكتاب مزيج من ذكرياته الشخصية، وذكريات عائلته المثقفة الارستقراطية، وأحوال مدينة اسطنبول الملونة والواسعة. إنه الفضاء الأكثر قرباً إلى روحه، والأكثر التصاقاً بعوالمه الداخلية التي تتفق مع ما قاله الشاعر برودسكي ذات مرة عن اسطنبول، والدهشة تعقد لسانه: «يا لطول مرور السنين على كل شيء هنا».
يكتب باموك بنبرة وجدانية، وكأن الكتاب هو، في جزء كبير منه، بمثابة رثاء لمدينته التي حاولت التخلي عن ماضيها العثماني، وسعت منذ مطالع القرن العشرين إلى التغريب والتحديث، فلا هي نجحت في هذا المسعى، ولا هي استطاعت أن تتخلى، كلياً، عن الإرث الإسلامي العثماني. يرى باموك الأمر على هذا النحو: «كان حزن هذه الثقافة الميتة، والإمبراطورية الغارقة موجوداً في كل مكان. بدا لي أن جهود التغريب هي انهماك بالتخلص من أشياء محمّلة بذكريات مؤلمة، أكثر منها رغبة بالحداثة، كما يحدث عندما تموت حبيبة، فجأة، فتُرمى ألبستها وزينتها وأغراضها وصورها من اجل التخلص من ذكراها الصادمة».
ومثلما أن هذه المدينة تميزت بطابعها المعماري الجميل وبتشابك الثقافات وتداخل الحضارات والأزمنة والوجوه والرموز، فإن كتاب باموك يأتي انعكاساً صادقاً لتحولات هذه المدينة الاجتماعية والسياسية، ولإرثها الثقافي المتنوع عرقياً ولغوياً، والذي يدافع عنه باموك، منتقداً التتريك الذي قضى على هذا الثراء: «حين انهارت الإمبراطورية العثمانية، ولم تقرر الجمهورية ما ستكونه، ولم ترَ غير تركيتها، فقدت اسطنبول تعدديتها اللغوية، وفرغت المدينة، وتحولت إلى مكان خاوٍ أحادي الصوت، وأحادي اللغة». هذه النزعة نحو التوثيق، وتسجيل المحطات النافرة في تاريخ المدينة، لا تستطيع أن تخفي ذلك الميل نحو السخرية اللاذعة، الممزوجة دائماً بمسحة حزن لا تفارق قلم الكاتب: «وأنا طفل عشت في اسطنبول بصفتها مكاناً بلونين، شبه مظلمة، ورصاصية كصور الأبيض والأسود. أحببتُ شتاءات اسطنبول أكثر من أصيافها. كنتُ أحب الفرجة على المساء الذي يحل باكراً، والأشجار العارية المرتجفة بتأثير الهواء الشمالي الشرقي، والناس العائدين إلى بيوتهم بسرعة في الأزقة شبه المظلمة… كأن ظلام الليل سيغطي على فقر الحياة والشوارع والأشياء. أحب ظلام مساءات الشتاء الباردة الذي يحل على الأحياء الهامشية لأنه يغطي فقر المدينة الذي نريد إخفاءه». وكان باموك يُفتن بمنظر الثلج للسبب ذاته: «الثلج جزء لا يتجزأ من اسطنبول طفولتي. كنت انتظر نزوله، لا من اجل اللعب، بل لأن المدينة تبدو لي أجمل تحت الثلج، إذ كان يغطي طين المدينة، وتصدعاتها، وأمكنتها المهملة».
يتحدث باموك عن منزل الأسرة الكبير في حي نيشان طاش حيث يقطن، فضلاً عن أسرته: الأعمام والعمات والجدات، ويستعيد في الكتاب بعضاً من شغب الطفولة الأولى. وهو، مذ كان صغيراً، كان يميل إلى الرسم، وعندما انتسب إلى كلية العمارة، وأراد أن يتركها كي يتفرغ للرسم، منعته والدته معتبرة الرسم امراً غير ذي شأن في واقع كالواقع التركي، على عكس أوروبا، مثلاً، التي تحترم الرسامين. ثم تحول من العمارة إلى الصحافة حيث تخرج في المعهد العالي للصحافة من دون أن يمارس هذه المهنة أبداً. في لحظة إلهام نادرة، قرر أن يكون روائياً، ولا شيء آخر: «قيل لي إنني كنت ارسم في زمن ما، وكنت طفلاً ذا عادات حسنة، وأخرى سيئة. وفي ما بعد، وأنا في الثانية والعشرين من عمري، بدأت، لسبب لا اعرفه، بكتابة الرواية»، واقتنع بعد تجربة طويلة بأن «الكتابة تعطي معنى للحياة، لأنها الحياة»، وآمن بأن كل ما في هذا العالم يستحق أن يدوَّن، إذ يقول: «كم كان مالارميه محقّاً حين قال: إن كل شيء في العالم موجود لكي يوضع في كتاب».
إن تعلقه بالرسم في السنوات الأولى يدفعه، في هذا الكتاب، إلى ذكر أسماء رسامين مثل غويا ورامبرانت ومودلياني ورينوار ومونيه… محاولاً الاقتباس منهم أو إحالة القارئ إلى لوحة من لوحاتهم عندما يتطلب سياق الحديث ذلك. لكن الأهم هو أن هذا الروائي الذي بدأ حياته رساماً، يوظف هنا خبرته في الرسم لأجل الكتابة. إنه يرسم بالكلمات عالماً مفعماً بالأشكال والألوان والخطوط والتشكيلات البصرية المدهشة… وخصوصاً لدى الحديث عن جمال مضيق البوسفور، والسفن العابرة والراسية في مياهه. منظر البوسفور الساحر، قبالة النافذة، كان يشكل له عالماً غنياً مفعماً بالأسرار، وكان شروق الشمس من الجانب الآسيوي يسحر الفتى الذي كان يهجس لنفسه: «لا يمكن الحياة أن تكون بهذا السوء. مهما يكن، يمكن الإنسان، في النهاية، أن يخرج ليمشي على شاطئ البوسفور».
وإذ يعرب باموك عن استغرابه من كتابات الكتّاب الأتراك من الجيل الذي سبقه من أمثال احمد راسم، ويحيى كمال، وعبدالحق شناسي حصار، وأحمد حمدي طانبنار الذين بالغوا في مديح المدينة الحائرة، فإنه يبدي إعجاباً بكتابات الكتّاب الغربيين مثل الشاعر الفرنسي جيرار دي نيرفال، وكذلك الشاعر والناقد تيوفيل غوتييه ولامارتين وأندريه جيد وكنوت هامسون وهانس كريستيان اندرسن… وغيرهم. هو يعدد ملاحظات كثيرة عن انطباعات هؤلاء، وينتقد نظرتهم السياحية للمدينة، لكن الفضول كان يدفع باموك للتعرف على مدينته عبر أعين الغرباء، فوجد الملاذ لدى هؤلاء الكتّاب الذين تركوا لباموك أرشيفاً ممتعاً عن ماضي المدينة الجميلة، يجهد الكاتب نفسه للعثور عليها من جديد، فلا يفلح. في هذا الكتاب، وفي غيره، أثبت باموك أنه من الكتاب المعاصرين الأكثر قدرة على أسر قرائه، نظراً لما يتمتع به من موهبة في القص، وقدرة على التقاط المشهد التركي الساخن. وهو يمزج في سرده بين أساليب الحكاية الشرقية والرواية الأوروبية، مستعيراً في بعض الأحيان ملامح الإثارة والتشويق الموجودة في الرواية البوليسية، راسماً، بتفاصيل دقيقة، مناخات تركيا المعاصرة، وخصوصاً مدينته اسطنبول التي تعتبر ثيمة حاضرة في كل أعماله.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى