صفحات سوريةعمار ديوب

العلمانية الممنوعة في سورية

null
عمّار ديّوب
تصنف سورية بلداً علمانياً، فالإرث العلماني من أحزاب شيوعية وقومية عربية وسورية والمثقفين التقدميين الذين يشغلون الثقافة العامة، عدا عن دور المرأة المييز تاريخياً في سورية، حتى شكل التديّن تجده شعبياً أكثر مما هو سياسي، كلها ظاهرات تقول لك، أنت في بلد علماني.
ونحن إذ نؤكّد ذلك، فإنّنا بالمقابل نشهد تراجعاً وارتدادات دينية لا تخطأها العين، حيث الانقسام الأفقي الطائفي والمذهبي يتصاعد، والكل يمايزون أنفسهم مذهبياً، إذا استثنينا تجمعات علمانية بالفعل، وتطورات حداثية عامة تستدعي العلمنة. هذه الوضعية، تفترض تعزيز مواقع العلمانية فكراً وسياسةً ودستوراً وقوانين، وبالتالي لماذا منعت سورية مؤتمر العلمانية من الانعقاد مع أنّها سمحت للمؤتمر الأول في 2007 بالانعقاد، ما الذي تغيّر، ما الحساسيات التي يثيرها، ما القضايا التي تخشاها سورية، أم أن الأمر متعلق بسوء في الصلاحيات الممنوحة للرقيب، وبكل الأحوال، ليس جائزاً الأمر برمته، وربما كان يجب تأمين المؤتمر على حساب الحكومة السورية.
عناوين محاضرات المؤتمر’العلمانية في المشرق: رهن بإنجاز سلطوي أم مجتمعي؟ تركيا نموذجا’، و’هل الدولة الدينية مطلب شعبي، والدولة العلمانية إلزام نخبوي؟’، و’مدى قبول الشعوب والمجتمعات المسلمة للمعيش العلماني’ ، لا تخرج عما هو متعارف عليه ومسموح به في سورية، ونجد في الكتب المرصوفة في الشوارع أو خلف زجاج المكتبات شبيها بها، ولنفس الباحثين، فلماذا المنع، ولن نتكلم عن تأخر الإخبار بالمنع، وما يجره من مشكلات على المثقفين من خارج البلاد أو من داخلها، وما يعود عليها من سمعةٍ سيئة.
العلمانية في رؤية المشاركين، مسألة فكرية، ولا تُطرح من زاوية السلطة أو السياسة بمعناها المباشر كما يطرحها أيديولوجي السياسة، وهذا ما يؤصلها بالفعل، ويسمح لها بالتجذر بدلاً من ربطها بإشكالية الديمقراطية؛ ففي التاريخ ليس من رابط بينهما بالأصل، ولكن الديمقراطية جزء من مشروع الحداثة بالتأكيد، وعدم التلازم لا ينسف أهمية وجود العلمانية ـ وقد يشير لانتقاصٍ فيها ـ ولا تحلّ محلها بحال من الأحوال، وبالتالي، العلمانية لا تعيش وتتحوّل إلى واقع، بدون دعاة لها، وتتطلب فصل الدين عن الدولة، وحريات عامة في المجتمعات. في رؤية القائمين على المؤتمر، العلمانية تطرح في مواجهة الارتدادات الدينية التي يشهدها عالمنا العربي، وهي ضرورة من أجل البدء بمشروع الحداثة العربية من جديد، ومطروحة للدراسة والبحث، أي من زاوية الفكر والتنظير والنقاش، أولاً.
لن يجدَ المحلل لأسباب المنع، حججاً ذات معنى، فسورية دولة كما نعلم، والدولة تسيّر بقوانين ومؤسسات، والقائمين عليها يمارسون وظائفهم وفق ذلك، فهل في القانون السوري ما يمنع من عقد مؤتمر فكري، سيما وأن سورية شهدت في السنوات الأخيرة كثيرا من الأسابيع الثقافية في الجامعات وغيرها، وحتى المؤتمر الأول للعلمانية يدعم وجهة نظرنا، فما الذي حدث؟ فهل يكون السبب متعلقا بدور ما قام به رجال الدين لمنع هكذا مؤتمر؟ قد نعدد كثيرا من الأسباب، ولكنها لن تكون ذات فائدة في تفسير المنع!
ولو كان المنع سياسةً، ألم يكن الأجدر منع الظواهر الدينية التي تأخذ صفة الندوات والمؤتمرات والحركات الدينية النسائية وغيرها؛ فهذا ما يشوه الدين الشعبي المتوارث، ويخلق التمييز بين أفراد الدولة، ويشغل بال السوريين في قضايا بعيدة عن روح العصر، خاصة حين يتم إعطاء تفسير ديني لقضايا علمية، وهو أمر شائع، وهناك الإذاعات التي تبشر ليل نهار بالرؤية الدينية وتقدمها وكأنها الرؤية الوحيدة السليمة والصحيحة لكل مسألة صغيرة أكانت أم كبيرة، ولا تعمد إلى الفصل بين الشأن الديني الروحي والخاص، والشأن العام، الذي يتطلب من أي إنسان إرسال دعوات دينية تنطلق من المساواة بين الأديان والمذاهب والجنس، بدلاً مما تبثه من تمايزات ماهوية دينية ومذهبية تفاضل دين ومذهب ما على بقية الأديان والمذاهب الأخرى، وهي بذلك لا تنذر سوى بعقلية وسياسة الكانتونات وتدمير بذور الحاضر والماضي والمستقبل بمعناها الإنساني والجامع للكل الوطني.
لديّ فكرة محيرة، وهي أن سورية تضع لنفسها آليات ليبرالية للتغيير نحو دولة رأسمالية، وفي هذه لا بد للدولة من العلمنة، ولا يفيد تجاهلها، فالتحوّل الليبرالي يفترضها. فهل تكرّر سورية، ما بدأت به حين جربت نظاما لديه توجهات اشتراكية بدون علمانية فتتحوّل مجدداًً إلى نظام ليبرالي بدون علمانية؟
ربما لو عُقد المؤتمر، لقدمنا انتقادات عن تقديم العلمانية بطريقة جهادية، وكأنها الحل السحري لكل القضايا، والذي يخفي القول بأن فصل الدين عن الدولة سيحل كل المشكلات وهو معكوس القول بأن الدين هو الحل، والذي أيضاً بدوره يشوه الدين والدولة والوعي العام، فالعلمانية جزء أصيل في مشروع الحداثة وكل طرح لها خارج هذا السياق هو تحويل لها إلى معتقدٍ دينيٍ جديد. بمعنى آخر، لا معنى للعلمانية في مجتمعات لم تطأها الحداثة بمعناها الصناعي أو العلمي أو السياسي، وبالتالي العلمانية لا تعامل بعجالة وبصنمية، بل بتفكير هادئ ومرن وبالتزامن مع مشاريع تطال كل البنية الاجتماعية، ومن هنا أصبحت العلمانية جزءا أصيلا في المشاريع الليبرالية أو الماركسية، أولاً وحين كانت الليبرالية ثورية، أمّا وأنّ الليبرالية تحوّلت عن تثوير العالم نحو تثبيته في هرمية استغلالية لها مراكز وأطراف، فإن القيم الليبرالية ومنها العلمانية والمواطنة والديمقراطية أصبحت جزءا أصيلا في مشروع إنساني جديد، أُطلق عليه ذات مرة المشروع الماركسي، وفشل في التجربة الاشتراكية، ولكنه نجح في القضاء على الاستغلال لزمن ما، وبالتالي، المشروع البديل لن يكون خارج المنهجية الماركسية ولكنه سيكون بالتأكيد بعيداً عما مورس من اشتراكية محققة، وفي سياق مشروع إنساني يزاوج بين القيم الليبرالية بمعناها السياسي والقيم الاشتراكية بمعناها المساواتي والعدالة الاجتماعية، وقد يسمى ماركسياً أو غير ذلك، ولكنه سيكون الوحيد القادر على تحقيق العلمانية كفصل للدين عن الدولة والسياسة وكتفعيل لدور الفرد والعقل والمساواة الفعلية بين البشر. هذا حلم كبير، نعم، ولكنه حجر الزاوية الذي لا تبنى الحركات العلمانية بدونه، فهل نتجاوز عقلية الخنادق نحو إنسانية الإنسان.
إذن، لو عُقد المؤتمر لأثيرت الكثير من الانتقادات فيه، وهناك نقد أصيل للتجربة التركية، التي أول ما تشير إليه وتؤكده قبلها الثورة الفرنسية والروسية كذلك، أن العلمانية بدأت دكتاتورية ولم تبدأ ديمقراطية، ولكنها بدأت عقلانية وأجازت للفرد القول والتفكير والعمل بإرادته، وبدون الالتفات إلى قدرةٍ كليةٍ، تقول بها الأديان.

‘ كاتب سوري
القدس العربي

علمانية منقوصة وأصولية زاحفة
عمار ديوب
تصنّف سوريا بأنّها بلدٌ علماني، فهل بمنعها المؤتمر الثاني ([) للعلمانية في المشرق، يبقى للعلمانية أرض في سوريا؟ بالتأكيد الأمر سيثير الكثير من الشكوك، وأولها لماذا سمحت الدولة السورية بعقد مؤتمر العلمانية الأول عام 2007 ومنعته اليوم، لا سيما أن عناوين المحاضرات تأتي في السياق ذاته، وليس بها إشكاليات تثير في سوريا حساسيات سياسية أو دينية، بل إنها تناقش النموذج والتجربة التركية، كنموذج علماني، وهذا في الوقت الذي تشهد سوريا وتركيا أفضل العلاقات، رغم أننا نعتقد بضرورة التمهل في الحكم الايجابي على التجربة التركية وعلى العلاقات؟
إذاً هناك ما يثير الانزعاج من المنع، فالمنع يطال تظاهرة ثقافية وحوارية يشارك بها مثقفون سوريون وعرب، بدءاً من مفكر العلمانية في سوريا صادق جلال العظم، ومن تونس رجاء ابن سلامة ومن ليبيا محمد عبد المطلب الهوني، المفكك لظاهرة الأصولية، وهناك باحثون من فرنسا والعراق وهولندا، وكان سيحضر عشرات الاختصاصيين والمهتمين بالشأن العلماني، فهل سيكون ذلك المؤتمر مهدّداً لسوريا بطريقة ما؟
أعتقد أن أسباب المنع والسماح في سوريا، تعمل بدون استراتيجية، وتحكمها الفوضى، لأنّه لا حجة يمكن أن تبرّر منعا كهذا، في الوقت الذي يُسمح فيه بعقد ندوات وأمسيات ومؤتمرات دينية وتمارس الحكايا الدينية بطريقة غاية في التدخل بما هو شخصي، فمثلاً يسمع كل السوريين الفقراء من يأخذ «التاكسي» كوسيلة للوصول إلى عمله، الشيخ راتب النابلسي من إذاعة القدس، التابعة لأحمد جبريل المهتدي يومياً، وبدون أي استئذان. فالوجبة الإسلامية الصباحية يجب أن يسمعها غير المؤمن وغير المسلم والمسلم من غير أتباع النابلسي، والصغير والكبير والعربي والكردي، وو …، وهذا لعمري أسوأ ما أبدأ به يومي، وهناك من هم أسوأ ويُستخدمون في مناطق بعيدة ونائية عن قلب المحافظات، وهذا تدخل لا يمارى بسوئه وإيغاله في حياتنا.
كنّا سنحترم النابلسي، لو منع هذا البث، وأبقى حديثه في المسجد الذي يؤم الصلاة به، أمّا أن يلاحقنا من «سرفيس» إلى «باص» إلى «سرفيس»، فهذا بالتأكيد أسوأ ضرراً من عقد مؤتمر للعلمانية، هذا إن كان هناك من ضررٍ منه، ولو كان به ضررٌ، فهو لن يتجاوز أرجاء قاعة معزولة يعمّها النشاط في داخلها، ويسود الصمت بقية أماكن جامعة دمشق.
بعد هذه الواقعة، وطرح قانونٍ للأحوال الشخصية غير مدني وديني وتمييزي ضد المرأة، رفض العلمانيون الصيغة الأولى منه فتم سحبه، فطرحت الحكومة صيغة جديدة منه، ولم يُعمل على سحبها مجدداً رغم رفضنا الجديد لها، فهل من الممكن القول إن سوريا بلد علماني؟
في هذا يختلف الكثيرون، ولكنها بالتأكيد ليست بلداً دينياً، إذاً كيف سنفسر أوضاع العلمانية في سوريا وتراجعاتها المستمرة؟ ولماذا لا تتزامن العلمانية مع الديموقراطية والحريات العامة؟ وتتعقد المشكلة في أننا كنّا سابقاً نفتقد الديموقراطية، فصرنا الآن نفتقد العلمانية والحرية كذلك، وربما الأسوأ أن السوريين يبتعدون كلية عن السياسة المدنية ويسعون حثيثاً نحو الوعي الديني والأسطوري، والتطرف، عدا التفكير الأقلوي والتعصبي الذي يطال كل السوريين، بدءاً من السلطة مروراً بالشعب ووصولاً إلى المعارضة على اختلاف تلاوينها، التي تكاد تقتصر نشاطاتها على بيانات حقوقية، وعلى أهمية الأخيرة، فإنها ليست من اختصاصها في الدولة الحديثة، بل من اختصاص منظمات حقوق الإنسان والقضاء تحديداً.
قد يكون هناك بعض الحساسيات من بعض المفكرين المشاركين في المؤتمر، ولكن ما هي وظيفة المثقف، فهل هو عضو في حزب سياسي ما؟ هل هو وزير في دولة؟ أو… إن مهمة المثقف أولاً إنتاج تصورات فكرية نقدية وتجاوزية للواقع، وليست مهمته تبرير الواقع والتذلل للسلطة وللطوائف أو الدعوة لسيادة نمط مفوّت من الوعي؛ الذي يثبّت النزعة القطيعية والدونية والتمــييزية والذكورية أو التدين بمعناه الأصولي أو السياسي. أبداً، المثقف إما أن يكون عضوياً لقضايا التطوّر وإما أن يكون مفككاً لها، ومندمجاً في أيديولوجـيا السلــطة أو الطوائف، أو المنافع الشخصية، فيكون عمله اختصاصياً، بلا طعم ولا فائدة في الشأن الثقافي والسياسي العام. وهنا أميّز بين الاختصاص في الشأن العام والاختصاص في العمل أو العلم، فهذا شرطه الأول الاختصاص، والأول صفته الأساسية الموضوعية والتجاوز والتغيير. إذا كنت أناقش هنا، بعض أبعاد منع عقد المؤتمر، فكلامي يأتي من زاوية تراجع العلمانية في سوريا، البلد الذي عُرف تاريخياً بكونه وريث حضارات سابقة، وفيه تجلت أهم الحركات القومية في الخمسينيات، والتي لعبت دوراً هاماً على مستوى العالم العربي بأكمله، فهل يعقل أن يمنع مؤتمر لبعض العلمانيين، والمرأة في سوريا ساوت الرجل في الانتخابات منذ الاستقلال.
منذ بعض الوقت منع نصر حامد أبــو زيد من دخــول الكـويت، وكان السبب في ذلك تشدّد برلمانيين أصوليين فيــه، فهل في سوريا ما يشــبه ذلك، هل تدخل بعض المشايخ بطريقة ما لمنع تحـقّق ذلك؟ لا أعــلم ذلك! وإذا ما وجد شيء من ذلك، فهو تدهور خطير في سوريا، ولا يفسر إلا بزيادة تدخل الدين السياسي في سوريا، وأن سوريا ذاهبة نحـو مزيد من الأصولية، وبالتالي ليس من مستقبل علماني فيها، وبذلك نضحي بكل تراث سوريا العلماني حاضراً وماضياً.
أخطأت الحكومة السورية بمنع المؤتمر، وعليها وضع استراتيجية للثقافة والصحافة والتعليم والسياسة والدين الشعبي، تفصل فيها بين هذه القضايا وبين الدين السياسي، والابتعاد عن التعامل الفوضوي بهذه القضايا، فسوريا ليست بمنأى عن خطورة التطرف الديني، فهل نعتبر من الجزائر والعراق ولبنان؟

([) كان سيعقد في 12 و13 قبل بضعة أيام.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى