صفحات سورية

هذه المرة” كان القتلُ عارياً وفائضاً وغير مبرّر

null


بدرخان علي

إذا فقد القانون هيبته، لن تستطيع شرطة العالم كله أن توقف الرغبة في الاعتداء والظلم والأنانية أو تحول دونها” (برهان غليون) ـ “اغتيال العقل“.

أمضى الأكراد في سوريا، هذا العام 2008م، نوروزاً موشّحاً بالحزن والسواد والحداد، وبالاحتجاج والرفض كذلك، لما اقترفته قوات الأمن من جريمة معلنة في إطلاق الرصاص الحي على ثلّة من الشباب الأكراد المحتفلين ليلة عيد نوروز 20 آذار في مدينة القامشلي شمال شرق البلاد، ذات الغالبية الكردية، فأردت ثلاثة منهم قتلى على الفور وخلفت عدداً من الجرحى. كان ذنب هؤلاء الوحيد أنهم كانوا مجتمعين في حلقة فرح ورقص دون إذن من السلطات “المعنية” الساهرة على أمن المواطنين.

يستطيع أي مراقب حيادي عاشَ أجواء العيد في هذه المناطق أن يقف على طابعها الاحتفاليّ والسلمي وطقوسها الرمزية في الدعوة للسلام والمحبة والوئام بين أبناء البلد الواحد وشعوب العالم جميعاً. فضلاً عن كونها مناسبة شعبية قديمة تعود الى أكثر من ألْفي عام وتحتفل بها شعوب عديدة في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ….، أي لا علاقة لها بالمؤامرة على سوريا والعروبة وحزب البعث والصمود والتصدي….إلخ. وفي مناطق متعددة ـ كمدينة دمشق ـ يحتفل العرب وشعوب أخرى بهذا العيد على أنه عيد الربيع. القصد أن طقوس نوروز (وتعني “اليوم الجديد” باللغات الإيرانية) بحدّ ذاتها، وفي العموم، طقوس فرح وبهجة وإن كانت قد اتخذت أشكالاً سياسية في جانب كبير منها كنتيجة طبيعية لحظر الاحتفال بالعيد من قبل السلطات الحاكمة للأكراد في شتات مناطق سكناهم المختلفة. ففي سوريا سعت السلطات لعقود عديدة، بحدّة بالغة، لثني الكورد عن الاحتفال بهذا العيد لما يشكّل من عنصر فاعل في تدعيم الخصوصية الثقافية الكردية. تلك الخصوصية التي ينبغي لها، وفق مخططاتٍ معلومة، أن تُمحى وتتلاشى أو تظلّ في حالة من الضمور والهُلاميّة، منزوعاً عنها معادلها السياسيّ ومستحقاته القانونية. وللتذكير فإن الإصرار الكرديّ على الاحتفال بهذا العيد، الذي تمخّضت عنه مسيرة شعبية كبيرة في وسط العاصمة دمشق وأمام القصر الجمهوري في نوروز 1986 وراح ضحية ذلك قتيلٌ واحد (سليمان آدي) وعدد من الجرحى، أحرجت أعلى السلطات واضطرت وقتها الحكومة السورية إلى إعلان يوم العيد عطلة رسمية، لكن لمصادفته عيد الأم، وذلك للتخفيف من الاحتقان في الوسط الكردي وخوفاً من تفاقم الاحتجاج الشعبيّ في بيئة داخلية عاشت أجواء مريبة من القمع العاري في مناخات الأزمة السياسية والاجتماعية الكبرى التي عصفت بالبلد وأهلها أعوام الثمانينيات، وما كانت تحتمل المزيد من الاحتجاج والاضطراب. وقد أوحى الإقرار المضمر ذاك للكثيرين ببداية عهدٍ من الانفراج والتسامح إزاء بعض المظاهر الثقافيّة الكرديّة وتبعاً لذلك أشيعت “نظرية” كردية تُفيد بأن النظام الحالي هو “أفضل الموجود” و البديل “أسوأ” حتماً…..

و منذ ذاك التاريخ أصبح الاحتفال بالعيد (بخروج مئات الآلاف إلى الطبيعة وإقامة المسارح الفنية والغنائية في تجمعات كثيرة في المناطق الكردية ومدينتي دمشق و حلب….) يجري تحت سمع وبصر السلطات المحلية دون عرقلة كبيرة منها في كثير من الأحيان، بل بتوجيه من السلطات العليا بعدم استفزاز الجمهور المحتفل.ساهم في ذلك إلى حد بعيد حرص الحركة السياسية الكردية على إبراز الطابع السلمي والحضاري للاحتفاليات وعدم التصادم مع السلطات المحلية و بالطبع مع المكونات الاجتماعية المختلفة للمجتمع السوري.ولطالما دعت الحركة الكردية إلى تكريس هذا اليوم لبث الوئام والمحبة بين المواطنين السوريين وإزالة عواقب السياسات الشوفينية والنظرة الضيقة التي ترتاب لأي اختلاف أو ميزة ثقافية، قد تشكّل إغناءً للثقافة الوطنيّة السوريّة بدل أن تكون عامل توتر وفُرقة.

غير أن السياسات الشمولية والاستبدادية لم تستطع يوماً استيعاب التنوع والتعددية في المجتمع حتى لو سعت إلى ذلك من منطلق صون وديمومة مصالحها الضيقة، إنما هي تفعل العكس تماماً .فهي تزرع الألغام، المتفجرة عاجلاً أم آجلاً، في جسد المجتمع، بدعوى الحرص على الوحدة الوطنية،وأمن الدولة……..وأمن المواطنين.

في بلدة قامشلي المنسيّة على أطراف خريطة “شبه الدولة” السورية، الآخذة بهاجس الأمن بمفهومه السلطويّ النفعيّ بوصلةً وحيدة لسياساتها الداخلية، حصل هذه المرة قتلٌ “غير مبرر”. إذا سلّمنا،جدلاً، بالرواية الرسمية لأحداث آذار الدامية 2004، والتي انطلقت شرارتها من البلدة نفسها وامتدت حتى العاصمة دمشق على شكل انتفاضات واحتجاجات كردية، بأنها كانت شغباً وتخريباً فكان القتل ضرورة وطنية وأمنية،ومبرّراً بالتالي. من يصدّق أن شباناً كانوا يعقدون حلقات دبكة في حي طرفي يبعد عن سوق المدينة ووسطها ابتهاجاً وفرحاً بعيدهم الشعبي والفلكلوري “نوروز” دون أن يتعرضوا لـ”هيبة الدولة ونفسية الأمة” في شيء، يمكن أن يسقطوا قتلى وجرحى لأنّ…..السلطات المحلية رأت في ذلك خطورة كبيرة جداً. سيقول بعضٌ أن نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني كان يجول في المنطقة !ومؤتمر القمة العربية سيعقد في دمشق!، وأن هناك مؤامرة كبرى تحاك ضد سورية ومواقفها الصامدة!!، وربما يقول كثيرون أن ما من سلطة في العالم تقوم بإطلاق نار على مواطنيها دون سبب أو مبررٍ! ثمّة، أيضاً، مَنْ يستغرب، ونحن السوريين لن نستغرب، لأن “السلطات السورية لم تصدر أيّ بيان رسمي عن الواقعة”! كما تساءلت منظمة “هيومان رايت ووتش”، وأردفت ناصحة بـ: “تطبيق سبل غير عنيفة قبل اللجوء إلى استخدام العنف، ثم ولدى استخدام العنف يجب أن يكون بالكم والدرجة المتناسبة مع الجرم المُرتكب. وعلى قوات الأمن ألا تستخدم القوة المميتة إلا إن كان لا سبيل آخر سواها من أجل حماية حياة الأشخاص“.

بيدَ أن المنظمة هذه، الغريبة والمشبوهة، تجهل أو تتجاهل الخصوصية السورية. فهي بلد ممانعة ودولة مواجهة يحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها. لكن أكثر الناس لا يعلمون. ثم أن هناك حقوقاً للدولة إزاء مواطنيها (كما للمواطنين حقوقاً على الدولة!) والعنف المشروع إحداها ـ حسب قولٍ مأثور للألماني ماكس فيبر ـ ولا يمكن لسوريا أن تتساهل بما يمسّ “السيادة الوطنية” و”الأمن الوطني” و”وحدة أراضيها“…

حسناً. لكن لماذا تتحسس الدولة هيبتها كلما اجتمع مواطنون دون أمرٍ منها؟ لماذا تشعر السلطات بالحنق والكراهية والريبة كلّما ساد فرحٌ لأية مناسبة دون تحريض منها!؟ لدينا في سوريا أفراح وطنية، سنّها النظام وباتت في “وجدان” شعبنا الصامد وأخرى غير وطنية توارثتها الذاكرة الشعبية والتراثية، وكلتاهما يجب أن تكونا “عفوية” (وهذه مشتقة من المَسيرات المليونية “العفوية” أي غير المُسيّرة، أي عكس حقيقتها). هل يجرؤ مواطنون على الخروج إلى الشارع في مسيرة تأييد وتمجيد للنظام الحاكم نفسه، على سبيل الدعابة المرّة أو عقاباً للضمير، دون أن تكون مرسومة من أولها إلى آخرها ومدبرة تدبيراً صارماً. إنها مغامرة مكلفة حقاً.

لكن لماذا كل هذا التحامل على سوريا: فهل يخرج الناس في أوروبا وأميركا في تظاهرات وتجمعات دون تراخيص رسمية؟. حتّى تركيا تذرعت بذلك في تبريرها لقتل مواطن كردي وجرح آخرين في المناسبة ذاتها بأنها تجمعات غير مرخصة!، فهل تستلهم سوريا الحجة نفسها من جارتها الديمقراطية العلمانية؟

ليس بعيداً عن الدفاع عن الإنسان في مواجهة القتل نقول: إن تطعيم الثقافة الشعبية في منطقتنا الطافحة بالعنف والقتل والإرهاب، وهي تنحدر إلى مستنقعات سفلية آسنة وكريهة، بمّا يذكرنا بالأصل الآدمي الواحد لبني البشر هو أحوج ما نحن إليه في هذا الزمن الطافح بشتّى صور العنصريات……….والعياذ بالله.

فمتى نحتفل بنوروز عيداً للسوريين جميعاً، وكم نوروزاً نحتاج؟!

المستقبل – الاحد 6 نيسان 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى