حسين العوداتصفحات الناس

محاكم التفتيش واجتثاث المعارضين

null
حسين العودات
أنشئت محاكم التفتيش (سيئة الذكر) في بداية القرن الثالث عشر بقرار من البابا غريغوار التاسع، وحدد مهمتها بمحاكمة (الهراطقة) المخالفين لرأي الكنيسة في تفسيرها للنص الإنجيلي أو بمواقفها من القضايا الاجتماعية والعلمية والثقافية والفلسفية بل والسياسية، وأعطى البابا للسلطات المحلية حق محاكمة المخالفين أو ما سموا (الهراطقة) والحكم عليهم بمختلف أنواع العقوبات، بدءاً من التعذيب وصولاً إلى الحرق ومروراً بقطع الأعضاء من جسمهم وخاصة الألسن والأيدي.
وقد استمرت هذه المحاكم بتأدية مهماتها (المشؤومة) من مطلع القرن الثالث عشر حتى القرن الثامن عشر، وبعضها طاول مطلع القرن التاسع عشر في بعض مدن أوروبا.
كان كهنة محاكم التفتيش مغرمين بتعذيب المتهمين بمختلف أصناف التعذيب التي يمكن أن تخطر على البال بهدف إجبار المتهم على (الاعتراف) والحال أن قسماً كبيراً من المتهمين الأبرياء كانوا يعترفون من شدة التعذيب بتهم لم يرتكبوها، ثم تجري محاكمة المتهم (المعترف) محاكمة صورية، تُطلب منه التوبة ثم يحكم عليه بعدها (حتى لو تاب)، ولم يكن للأحكام ناظم أو معيار أو مرجعية أو مقياس أو قانون أو تقليد سوى رأي الكاهن القاضي، الذي كان يرتاح أكثر ويفتخر أكثر بقدر ما تتزايد أحكامه بالحرق أو قطع الأيادي والألسن، أما الحكم بالإقامة الجبرية، فقد كان مخصصاً للعلماء وعلية القوم فقط، وكان نادراً على أية حال.
حكم على عشرات آلاف النساء بالحرق وهن كاثوليكيات، كما تعرض للتعذيب مئات آلاف البروتستانت، ومنهم من تم حرقهم، وكذلك مئات آلاف بل ملايين المسلمين فيما بعد في نهاية القرن السادس عشر الذين إما اجتثوا (استؤصلوا) وطردوا من الأندلس إلى بلدان شمال أفريقيا أو أحرقوا، أو قطعت أيديهم وأرجلهم مع أنهم تنصروا وتعمدوا هم أو آباؤهم قبل ذلك، ولكنهم اتهموا بالتنصر الكاذب وسارت عمليات اجتثاثهم واستئصالهم وتعذيبهم إلى أبعد مدى، ولاقى عشرات الألوف من اليهود الأندلسيين ما لاقاه ملايين المسلمين.
لم تقتصر مهمات محاكم التفتيش على محاسبة مخالف الرأي، بل كلفت بالرقابة على الكتب وتحريم نشر وتوزيع الكتب (الضارة) بالعقول أو (الخطرة) على العقيدة، وبقي هذا القرار معمولاً به حتى عام 1965 حيث ألغاه البابا، وفي ضوء ذلك حوكم الراهب المصلح، رئيس جامعة براغ، جان هوس في مطلع القرن الخامس عشر، وحكم عليه بقطع لسانه وتعذيبه ثم حرقه، ومثل أمام هذه المحاكم العالمان (غاليلو) الذي حكم بالإقامة الجبرية واعتذر منه البابا عام 1983 بعد عدة قرون، و (كوبرنيكوس) صاحب نظرية دوران الأرض حول الشمس (الذي اضطر لعدم نشر نظريته سوى يوم وفاته بعد أن اضطرته المحاكم للتراجع عنها).
كان الشخص يحاكم على الشبهة أو استناداً إلى وشاية من أحد الجيران أو على نياته، وإذا لم يعترف بالتحقيق العادي يتعرض للتعذيب الوحشي، وإذا أعلن التوبة قد يحكم ويعاقب، ونادراً ما يعفى من ذنبه، وإن رفض التراجع عن آرائه يحرق، وفي الخلاصة كانت محاكم التفتيش محنة على المسيحيين الكاثوليك وعلى البروتستانت وفيما بعد على المسلمين واليهود، وقد تسببت ليس فقط في قتل وحرق عشرات الألوف، بل أيضاً أشعلت حرباً بين الكاثوليك في جنوب أوروبا والبروتستانت في وسطها وشمالها دامت مئة عام. وحرباً أخرى بين الكاثوليك والأرثوذوكس البلغار خاصة بلغ ضحاياها مئات الألوف.
دامت سياسة الاجتثاث (أو الاستئصال) عدة قرون، وظهرت مرة أخرى في أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، وخاصة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية ثم في العالم الثالث، مع إعادة تقسيم العالم القديم من قبل المستعمرين الأوروبيين وترسيم حدوده، واللعب بواقعه الاجتماعي والديني وإحياء الطائفية والعشائرية، وتفتيت الأمة الواحدة، وتنامي التطرف وهيمنة العولمة وقيمها وتقاليدها ومعاييرها.
حيث تم إحياء الاجتثاث والاستئصال والقمع والعنف والقتل والتعذيب ومحاكمة النيات والشبهة والاشتباه بأي كان، حتى كأن التاريخ يعيد نفسه بعد سبعة قرون، ومع أن البابوية اعتذرت عن الجرائم التي ارتكبتها محاكم التفتيش وحكامها، ووصفت أعمالها بأنها خزي وعار، إلا أن حكام المحاكم المعاصرين لا يخجلون من كونهم يمارسون أبشع الأعمال بل يفتخرون بأعمالهم هذه، ويتناسون أننا في عصر جوهره حرية الفرد وخاصة منها حرية التعبير، والديمقراطية وتداول السلطة، وفصل السلطات، وسيادة القانون، ومن قواعده (درء الحدود بالشبهات).
صرح المسؤول المحلي في مدينة النجف الأشرف بالعراق، أن على البعثيين أن يغادروا المدينة خلال أربع وعشرين ساعة، ثم صرح مسؤول حكومي كبير في العراق (بل عدة مسؤولين ) أن لا إمكانية لاستمرار البعثيين في المجتمع أو لعودتهم إلى السلطة منفردين أو شركاء، حتى لو انتخبهم الشعب، ومهما تكن جرائم البعثيين، ومهما يكن موقفنا منهم، فينبغي أن نقول للسادة المسؤولين (المتحمسين ) في العراق، حاكموا المتهم من البعثيين محاكمة عادلة واحكموا عليه بما يستحق، أما من لم يرتكب ذنباً فما شأنكم به وبرأيه؟ ثم أين يذهب من تجتثونه والإقامة في بلده حق له.
وينبغي أن تتذكروا أن المتواجد في دولة أوروبية بشكل غير قانوني، تحتاج تلك الدولة إلى القضاء (لتجتثه أو تستأصله) من بلدها مع أن إقامته غير قانونية، فكيف إذا كان ابن البلد؟
كان بعض رجال الكنيسة يقولون لنقتل المشبوه، فإن كان بريئاً دخل الجنة وإن كان مجرماً لقي عقابه، وقد تبنى بعض المتطرفين الإرهابيين باسم الإسلام هذه الفرضية، فهل وجدت صدى لها في العراق؟
البيان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى