صفحات سورية

من رهان أميركا على تغيير سلوك النظام السوري إلى رهان دمشق على تغيير سلوك النظام الأميركي!

null
عادل مالك
خلال مقابلة تلفزيونية أجريت مع الرئيس السوري بشار الأسد قبل بضعة أسابيع، طُرح عليه السؤال: ما هي رؤيتك للمنطقة في المدى المنظور على الأقل؟ وكيف ستخرج سورية من هذه العزلة؟
أجاب: “أرى أن المنطقة مقبلة على أحداث كبيرة تنطوي على العديد من المخاطر، وفي تقديري أن الأحداث المنتظرة من شأنها أن تغيّر وجه المنطقة وحتى العالم، وذلك قبل نهاية العام الحالي”.
وها نحن في الأشهر الأخيرة في السنة، وواقع الحال يؤشر الى أن المنطقة شهدت أحداثاً بارزة لكنها ليست من النوع الذي غيّر وجه المنطقة، حتى كتابة هذه السطور على الأقل. لكن تطورات الأسابيع والأيام القليلة الماضية أعادت الدور السوري من جديد الى واجهة الأحداث بعد أن دشّن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عودة الاتصالات المباشرة بين باريس ودمشق وما تبع ذلك من خروج سورية من العزلة التي فرضت عليها من جانب الدول الأوروبية بالاضافة الى الموقف الأميركي المعروف. وعاد “اللاعب السوري” الى داخل حلبة الصراع، حتى نشر الوحدات العسكرية على الحدود اللبنانية، في الشمال واللغط الكبير الذي أحدثته – ولا تزال – هذه الخطوة. وكان من الطبيعي أن يحرك نشر “الحشود السورية” الكثير من الحساسيات لدى بعض الأطراف اللبنانية التي ساورها الاعتقاد بأن ما يجري على الحدود هو مقدمة لعودة القوات السورية الى لبنان!
وعلى رغم صدور النفي لمثل هذا الاحتمال لكن أزمة الثقة الحادة بين بيروت ودمشق جعلت بعض الأفرقاء من أركان “الاكثرية” يشكك بصدقية هذا النفي، على رغم قول رئيس الحكومة فؤاد السنيورة إن مثل هذا الأمر لا يمكن أن يحدث.
وتسارعت على الفور ردود الفعل الأميركية والدولية على الغاية الأساسية لهذا التحرك فجاءت ردود دمشق أن الأمر لا يتعدى كونه مسألة داخلية سورية، وأن حشد هذه القوات على الحدود مع لبنان الهدف الرئيسي منه وقف عمليات التهريب غير الشرعية. في حين أن دمشق ارادت من هذا التحرك توجيه أكثر من رسالة وفي أكثر من اتجاه. ومن ذلك تطمين فرنسا والدول الغربية الأخرى الى أن دور هذه الحشود سيكون رادعاً لوقف الكثيرين من المتعاطين بأعمال الإرهاب بين لبنان وسورية في الذهاب والإياب.
وفي الرد على الضجة الكبيرة التي اجتاحت لبنان منذ “اكتشاف” الحشود عبر الأقمار الاصطناعية، تولت دمشق اصدار أكثر من إيضاح لدور هذه القوات في طليعتها منع “التهريب” والتهريب على أنواعه (مال ورجال وممنوعات)، وأن هذا شأن أمني داخلي سوري لا يعني أي طرف آخر. ومع ارتفاع الحركة الاعتراضية داخل صفوف تجمع 14 آذار، قال الرئيس الأسد إن وجود هذه الحشود سبق وأن تشاور بشأنه مع الرئيس ميشال سليمان خلال زيارته الأخيرة الى دمشق. ورداً على التصريحات لأكثر من ناطق اميركي عبّر عن مخاوفه من التحرك السوري، عقب الرئيس الأسد بالقول إن وجود هذه القوات يتلاءم مع مضمون قرار مجلس الأمن 1701 أي أن دمشق ملتزمة بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية.
وفي غمرة هذه التطورات احتل نبأ “اختفاء” الصحافيين الأميركيين اللذين يعملان في صحيفة “جوردان تايمز” في عمان وحبس أكثر من طرف أنفاسه تخوفاً من تداعيات محتملة، خصوصاً خلال فترة من الزمن لم يعرف فيها أي شيء عن مصيرهما، الى أن أعلنت دمشق أن الصحافيين المذكورين هما في سورية وأنهما دخلا اليها عبر لبنان بصورة غير شرعية. وجاء الحادث ليبرر نشر القوات السورية على الحدود، واعتقال المتسللين والداخلين الى الأراضي السورية بصورة غير شرعية. ويضاف الى كل ذلك تأمين سورية للأمن بصورة غير قابلة للنقاش خصوصاً بعد انفجار دمشق.
وتزامنت كل هذه التطورات مع “هجوم” شنته الولايات المتحدة على لبنان لاظهار مدى حرصها عليه وعلى تسليح جيشه. فالتقى في وقت واحد كل من مساعدة وزير الدفاع الأميركي للأمن القومي ماري بيث لونغ مع مجموعة من كبار الضباط للبحث في احياء خطة دعم الجيش اللبناني، ليتضح أن هذه الهجمة الأميركية الودية باتجاه لبنان تترجم بتوقيع مجموعة من الاتفاقات بقيمة 63 مليون دولار على مدى ثلاث سنوات. وتساءل مراقبون محايدون حول جدوى هذه المساعدات الأميركية لتعزيز قدرات الجيش اللبناني بهذه القيمة الزهيدة بل المهينة! أما على صعيد الدعم الأميركي السياسي للبنان فقد أمضى مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد هيل أيام عدة قابل خلالها العديد من المسؤولين، والخطاب كان واضحاً ومكرراً للتأكيد على استمرار الدعم الأميركي السياسي.
لماذا هذا التوقيت؟ وهذا الاهتمام المستجد بالوضع اللبناني من جانب الولايات المتحدة؟
في السابق كان يقال ان ليس بالامكان تزويد الجيش بأسلحة ثقيلة تخوفاً من انتقالها الى “حزب الله”، ويبدو أن هذه النظرة قد تغيرت لدى الادارة الأميركية الحالية والتي تستعد للرحيل في العشرين من كانون الثاني (يناير) 2009، والذي لم تفعله خلال السنوات الثماني الماضية هل بإمكانها القيام به في الأيام الأخيرة من ادارة الرئيس جورج دبليو بوش؟
وفي الاجابة على السؤال حول توقيت هذه “الهجمة” الاميركية على لبنان، توافرت معلومات تؤكد أن تبدلاً قد حصل لدى واشنطن بعد المواجهات العنيفة التي خاضها الجيش اللبناني ضد العمليات الارهابية وأن القناعة الأميركية المستجدة تدعم تعزيز الجيش للقيام بدور أكبر في مواجهة الإرهاب. ويمكن ايجاز الموقف اللبناني والعربي والدولي من خلال تطورات الاسابيع والأيام القليلة الماضية بعناوين رئيسية هي كالتالي:
* سعت الولايات المتحدة لفترة غير قصيرة للعمل على تغيير النظام القائم في سورية، لكن هذا الرهان سقط واستبدل بالتالي: لا حاجة لتغيير النظام بل المطلوب تغيير سلوك هذا النظام. وكذلك واجه هذا الطرح العديد من الصعوبات وإذا بالرهان الأميركي على تغيير سلوك سلوك النظام في سورية يتحول الى رهان سوري على تغيير سلوك النظام الأميركي في المنطقة!
* وعلى خط آخر كشفت صحيفة “الغارديان” البريطانية عن معلومات مفادها أن مرفأ طرطوس السوري يخضع لعملية تحديث حالياً لتقديم تسهيلات دائمة للبحرية الروسية. وتتلاقى هذه المعلومات مع ما صرح به ديبلوماسي روسي يعمل في دمشق من أن “موسكو ستزيد من وجودها في البحر الأبيض المتوسط، وأن سفناً روسية ستزور سورية بشكل منتظم”.
وهذا الموقف يجب ربطه بموقف موسكو من الملف النووي الايراني، وهي تعارض بشدة توجيه أي ضربة عسكرية لايران سواء من جانب أميركا أم من اسرائيل. وهكذا نشهد ولادة حقبة جديدة من الحرب الباردة في طبعتها الجديدة ومسرحها ساحات المنطقة الرحبة.
* قال السفير الأميركي في العراق ريان كروكر ان انسحابنا من العراق سيكون مشابهاً لانسحاب القوات الأميركية من لبنان مطلع الثمانينات، الأمر الذي سمح لدول أخرى كإيران وسورية بالاعتقاد أن واشنطن تفتقر الى العزم وحذر من أن الانسحاب من العراق سيكون له “أثر بالغ وعواقب وخيمة”.
* مجموعة قرائن تلقي الأضواء الكاشفة على ما يجري في سورية: من اغتيال القيادي البارز في “حزب الله” عماد مغنية، الى الاغتيال الغامض للعميد محمد سليمان، وصولاً الى الاشتباكات الأخيرة في مخيم اليرموك، بالاضافة الى تطورات أخرى لم يكشف عنها. كلها أدلة تؤشر الى طرح الاسئلة حول “الأمن الممسوك”.
* كلما ازدادت التصريحات الأميركية التي تؤكد ثبات الموقف على ما هو عليه، وعدم عقد صفقات معاكسة لهذا الواقع، كلما تزايدت المخاوف من حدوث تغيرات في الموقف الاميركي. ألم تقل الآنسة كوندوليزا رايس أمام العقيد معمر القذافي انها لم تكن تتصور في حياتها أن تزور ليبيا، وأن هذا الأمر يؤكد أن ليست لأميركا عداوات دائمة”؟!
* المصالحات بين الافرقاء السياسيين في لبنان مطلوبة بإلحاح لأكثر من اعتبار، لكن الى أي مدى يمكن أن تخدم هذه المصالحات في وجه أعاصير قادمة الى لبنان والمنطقة؟

* كاتب وإعلامي لبناني
الحياة     – 12/10/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى