الأزمة المالية العالميةسلامة كيلةصفحات العالم

الأزمة المالية وتحولات المشهد العالمي

سلامة كيلة *
ربما كانت الأزمة المالية العالمية قد كشفت ضعف النظام الاقتصادي العالمي القائم، وأشّرت إلى عمق أزمة الرأسمالية، لكنها أشّرت كذلك إلى التحولات التي يشهدها الاقتصاد العالمي. وإذا كانت الرأسمالية قد بدأت مسيرتها منذ نهاية القرن الثامن عشر على ضوء نشوء الصناعة، وعاشت القرن التاسع عشر وهي تتشكل من دولة أوروبية إلى أخرى، وصولاً مع نهاية القرن إلى أميركا واليابان، فإن القرن العشرين كان هو القرن الذي بدأت تتوضح أزماتها فيه، بعدما أصبحت نمطاً يحكم العالم، وشهد حروبها الطاحنة. لكن نهاية القرن العشرين كانت تشهد انتصارها «النهائي» وعجزها المزمن في آن معاً، بعد انهيار النظم الاشتراكية التي شكلت الضد لها.
وإذا كانت أيديولوجية العولمة تعمم فكرة الانتصار النهائي، كانت بنى الرأسمالية تشهد كل مظاهر العجز. وكانت الحرب هي المنشط الممكن، لكن هذه المرة ليس في ما بينها، بل بين القوة المهيمنة فيها وشعوب العالم. وأيضاً لكن كشكل من أشكال الصراع فيما بينها كذلك، من أجل السيطرة على النفط والأسواق، وبالتالي تعديل شروط التنافس، عبر التنافس تحت السلاح.
لهذا أتت الأزمة التي تفجرت في أيلول (سبتمبر) عام 2008 لتوضح أن هذه السيطرة على العالم، وتحول العالم إلى الرأسمالية، لم تنه الأزمات السابقة بل عمقتها. حيث سنشد تعمقاً في الأزمة في مستويات عدة، يمكن تحديدها في الآتي:
1) توسع التراكم المالي وتركزه، وبالتالي تحوله إلى كتلة هائلة شكلت تحولاً نوعياً في التكوين الاقتصادي الرأسمالي، لأنها باتت تنشط في قطاع غير منتج هو القطاع المالي، الذي عمم الفوضى المالية وعمق احتمالات الانهيار.
2) وعلى رغم انفتاح الأسواق التي كانت مغلقة قبلاً، وأقصد أسواق المنظومة الاشتراكية، وهي أسواق هائلة الاتساع، فإن التطاحن لم يتوقف، بل تصاعد، وأصبحت المنافسة أكثر حدة. هذه الظاهرة تستحق النظر، لأن الوضع العالمي أظهر نشوء قوى اقتصادية جديدة باتت قادرة على المنافسة. فإذا كانت البلدان الرأسمالية العجوز قد اعتقدت بأن انهيار الاشتراكية سيفتح لها أسواقاً جديدة باتساع الاتحاد السوفياتي والصين وأوروبا الشرقية، فقد أصبحت الصين مشكلة كبيرة على كل الصعد، من تصدير السلع إلى الاستحواذ على رأس المال. كما أن روسيا على الأقل لم تتحول إلى سوق، ولم ينهب نفطها، وباتت تنافس في قطاعات صناعية معينة مثل السلاح. كما بات للهند دور أكبر في الاقتصاد العالمي، وربما البرازيل وجنوب أفريقيا، وحتى أوروبا الشرقية.
وإذا كانت الأزمة المالية التي تعصف بالرأسمالية وخصوصاً بالولايات المتحدة، ستضعف من قوة الرأسمالية العجوز وسيطرتها، فإن دخول البلدان الجديدة سيوجد وضعاً مختلفاً لا يسمح بالعودة إلى ما كان قبل الأزمة.
هنا سنلمس أن البلدان التي حققت التطور الصناعي هي التي باتت في موقع المنافسة والمزاحمة. وهذا ينطبق على البلدان التي تطورت «اشتراكياً»، أي تلك البلدان التي انشقت على النمط الرأسمالي، حيث سمح لها هذا الانشقاق بتحقيق التطور الاقتصادي الشامل، وخصوصاً على الصعيد الصناعي التكنولوجي. فروسيا ومعظم دول الاتحاد السوفياتي السابق كانت قد حققت تطورها الصناعي، وأنجزت حداثتها، وتشكلت كدول صناعية حديثة. وأوروبا الشرقية إما كانت صناعية أصلاً (ألمانيا الشرقية والتشيك) أو تطورت في إطار الاشتراكية في هذا السياق. وبالتالي حينما انهارت الاشتراكية لم يكن من الممكن تدمير البنى المتشكلة، عبر تدمير الصناعات أو تدمير الحداثة، على رغم كل المجهودات التي بذلت من أجل ذلك، حيث عملت الرأسمالية على تحويلها إلى أسواق لسلعها هي، وأيضاً نهب النفط الروسي. لكن هذه المحاولات ليست ممكنة التحقق. ولهذا «نهضت» رأسمالية روسية تسعى إلى أن تفرض روسيا كقوة عالمية مكافئة لأميركا، وهي تبحث عن الأسواق، وعن التحالفات التي تدعم تفوقها. وهو الأمر الذي جعلها توطد التحالف مع الصين (وإن بحذر)، وتجذب أوروبا، وربما تتفاهم مع الولايات المتحدة. وهي تقيم جملة علاقات وتحالفات مع دول طرفية مثل إيران وفنزويلا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا.
والصين تعمل على إغراق الأسواق بسلعها الرخيصة، وإذا ما استعرنا تعبير ماركس في «البيان الشيوعي» فـ «إن رخص منتجاتها هو في يدها بمثابة مدفعية ضخمة تقتحم وتخرق كل ما هنالك من أسوار صينية»، وهنا أسوار رأسمالية. وبالتالي تعمل على امتصاص الفائض العالمي ومركزته في يدها لكي تخضع حتى أشد الأمم عنجهية. وعلى رغم الفارق التكنولوجي، فإن الصين تتقدم بتسارع نحو امتلاكها. لقد أرست التجربة الاشتراكية أساس التطور الصناعي ولا يزال النظام يسير في سياق يحوّل الصين إلى «دولة عظمى»، على رغم اختلاف التحليل حول وضعها الراهن: أي هل ما زالت اشتراكية أم أصبحت رأسمالية؟ خصوصاً أن الحرية الرأسمالية لا تزال محصورة في مناطق معينة من الصين.
وبالتالي، إذا كانت روسيا لم تدخل المنافسة الحقيقية في السوق العالمي، لكن الرأسمالية فيها تعيد بناء ذاتها داخلياً، ولسوف تكون «مضطرة» إلى التوسع كيما تستطيع التطور. أما الصين فهي تغزو العالم، وقد باتت تمتلك الشركات في مختلف بقاع العالم بعيد الأزمة، وهي تمتلك احتياطياً دولارياً ضخماً (بحسب آخر الأرقام فقد بلغ 2,4 تريليون دولار).
هذا الوضع يؤشر إلى انزياح في وضع القوى الأقوى عالمياً، وبالتالي تبلور قوتين جديدتين هما روسيا والصين، مع وضوح ضعف الرأسمالية العجوز، وبالتالي انفتاح أفق لتطور بعض البلدان الأخرى (الهند التي تطورت بالتحالف مع الاتحاد السوفياتي، والبرازيل التي كانت محط تجارب الشركات الصناعية الأميركية، وربما كذلك جنوب أفريقيا، وكذلك ربما تعاود أوروبا الشرقية النهوض بعد انكشاف ضعف الولايات المتحدة).
هل تتجدد الرأسمالية عبر هذا التحول في المشهد العالمي؟ ربما توحي الصورة المرسومة بذلك، لكن يجب أن نلحظ أن الولايات المتحدة مستمرة في حربها «العالمية»، وهي مصممة على ألا تنهيها قبل تكريس سيطرتها العالمية كقوة اقتصادية مهيمنة. وهو ما يجعل التحول محفوفاً بالأخطار. وكذلك روسيا تحاول بناء مجالها العالمي عبر التلويح بالقوة، وربما استخدامها كما في جورجيا، وكذلك عبر الضغوط الاقتصادية على أوروبا وأوكرانيا وروسيا البيضاء. لكن سنلمس أن وضع أميركا الاقتصادي صعب للغاية، وكذلك فإن أوروبا غارقة في أزمتها، وفي إشكاليات تشكلها كقوة موحدة. أما الصين فهي تتقدم على صعيد السيطرة الاقتصادية لكنها ربما ليست مؤهلة إلى الآن لكي تصبح القوة المهيمنة.
لهذا ربما سنشهد وضعاً عالمياً يتسم بعدم الاستقرار وبالتوازن الهش بين كتله، في عالم يتسم بالفوضى والحروب، بالفقر والتهميش والبطالة، حيث إن الأزمة المالية ستبقى مستمرة نتيجة طابعها، لأن الكتلة المالية المسببة باتت جزءاً عضوياً في الرأسمالية. كما أن فوضى الإنتاج ستتفاقم بفعل هذا التوسع في الإنتاج الصناعي الذي جاء كنتيجة لدخول بلدان رأسمالية جديدة.
* كاتب سوري
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى