صفحات سورية

لن تستطيع معي صبرا

null


موفق نيربية

صدرت عن المجلس الوطني لإعلان دمشق وثيقة إضافية تؤكّد ضرورة التغيير، بأن يكون سلمياً ومتدرّجاً وآمناً، يحمي الاستقلال الوطني ويسترجع الجولان، ويبني مستقبلاً ديموقراطياً، لكن سبحة الاعتقالات التي أجراها النظام استمرّت، ويكون بذلك قد أخطأ كثيراً.

في العامين الأخيرين قبل وفاة الرئيس الراحل حافظ الأسد، ابتدأت سورية بالتقاط أنفاسها قليلاً، ولو على مستوى ما يُمكن أن يسمح به نظام شمولي سائد منذ عقود، مع اتخّاذ كل الإجراءات التي تضمن استمراره واستقراره، وحين تولّى الرئيس بشار الأسد السلطة في أواسط عام 2000، جنحت أحلام شرائح من الشعب السوري إلى الحلم بالتغيير مستندة إلى ما جاء في خطاب القسم آنذاك من تأكيد على حرية الرأي والاعتراف بالرأي الآخر، والخطوِ بأطراف الأصابع في فضاء الأمل بتحوّل ما في اتّجاه الإصلاح والتدرّج باتّجاه التنمية وحكم القانون وربما الديموقراطية.

ابتدأ المجتمع المدنيّ بالاستيقاظ من سباته، وانتعشت النقاشات والأبحاث والمنتديات بحثاً عن أفضل الأشكال للتغيير، ولوحظ بعض التراجع في شدّة القبضة الأمنية، وربّما شروع متردّد في تحديثها. في الوقت نفسه انتشرت أفكار الإصلاح واقتراحاته في الإعلام الرسمي وأروقة الحزب الحاكم.

رغم ذلك، بقي هنالك من يقول -بعض من حفرت ذاكرتَه جراحٌ أعمق في المعارضة والشارع- إن ذلك كلّه عبث وتقطيع للوقت، ولا يُمكن الركون إلى نوايا إصلاح معلنة تستبطن الاستمرار وحده، وببنية يتعلّق أهلها بمكاسبهم وبمخاوفهم من المجهول أكثر من حرصهم على النفاذ من الأزمة إلى أبواب التفاهم والمصالحة والمشاركة. تردّدت مفاهيم التفاؤل والتشاؤم الساذجة كثيراً في أجواء سورية آنذاك.

«ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا؟!» * *

في ربيع العام 2001 احتقن النظام، واستُنفِرت قواه القديمة والجديدة، وابتدأ حملة إعلامية تشحن الأجواء وتوتّرها، من خلال تهديد من يعمل على «جزأرة» سورية، واستُنفِرت الأجهزة الأمنية من جديد لتقف متأهبّة متوعّدة، ولم يتراجع ربيع دمشق، مصرّاً على حقوق الحدّ الأدنى من حرية الرأي والتعبير، وأغلقت منتديات وبقيت أخرى. وما بين محاضرة لرياض الترك في منتدى جمال الأتاسي، ومحاضرة لبرهان غليون في منتدى الحوار الوطني، حاولتا رسم معالم الطريق لمخرج، نفّذ النظام اعتقالات ربيع دمشق، ليسدّ الهواء على براعمه. كان المعتقلون عشرة، مازال منهم البروفيسور الكهل المريض عارف دليلة حبيس زنزانته.

ضحكت جماعة التشاؤم من جماعة التفاؤل، وبعضهم قهقه بصوت عالٍ بما يشبه الشماتة… وهو على حق، وضحك آخرون «في سرّهم»، يرون في كلّ خطوة إلى أمام امتداداً أكثر مما يجب، ولا يخرجون من النصف الأول من السبعينيات. دائماً وأبداً، الخطوة المقبولة وراء الخطوة المطلوبة… بخطوتين!

«ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا؟» * *

خرج بعضهم من السجن ابتداءً من خريف 2002، وبقي آخرون، وعادت الحالة إلى الركود «الحذِر». ثمّ اهتزّت المنطقة بالاحتلال الأميركي للعراق، الأمر الذي أثار قلقاً لدى النظام والمعارضة معاً، وحرّك مشاعر لم يكن ينبغي أن تتعارض، ما بين انبعاث الوطنية والقومية من جهة، والأمل بأن تكون هزيمة الاستبداد أمام الاجتياح نهاية لمقوّماته، ثمّ اهتزّت أيضاً حين تمّ اغتيال رفيق الحريري في لبنان، وانسحب الجيش السوري، وازداد توتّر النظام وعصبيّته، كما عاد ليطرح «الأمن» أولويّة لسياسته.

فألحّت الأخطار الخارجية إضافةً إلى تلك الداخلية، وظهر «إعلان دمشق» ليجمع المعارضة والمعارضين تحت عباءة واحدة تبحث عن الحل، ثمّ دفعت درجة القرابة ما بين سورية ولبنان مثقفين من البلدين لنشر بيان يحمل عنواناً لافتاً: «إعلان دمشق- بيروت، إعلان بيروت- دمشق» يحدّد ما يرونه أسساً صحيّةً للعلاقة بين البلدين. وقامت قيامة النظام، واعتبر البيان تدخّلاً في شؤونه الداخليّة-الخارجيّة، واعتقل عشرة -أيضاً- من موقّعيه، وصدرت ضدّهم أحكام تصل إلى الخمس سنوات في السجن.

«هذا فراق بيني وبينك…» **

أدرك معارضون ديموقراطيون أن هنالك عقبتين تعترضانهم: وحدة الرؤيا ووضوحها، والضعف المزمن في التواصل مع المجتمع وفي ما بينهم، فانعقد المجلس الوطني لإعلان دمشق وصدرت عنه وثيقة إضافية تؤكّد ضرورة التغيير، بأن يكون سلمياً ومتدرّجاً وآمناً، يحمي الاستقلال الوطني ويسترجع الجولان، ويبني مستقبلاً ديموقراطياً ودولة مدنية حديثة للجميع ومن أجل الجميع، وأن الحوار الشامل والمتكافئ هو الطريق إلى هذا المستقبل. رتّبوا البيت قليلاً.

اعتقلت السلطات عشرة أيضاً وأيضاً، ثم «زادتها» واعتقلت في الأسبوع الماضي رياض سيف، رئيس هيئة الأمانة العامة الذي يتهدد حياته سرطان يحتاج من أجله للسفر منذ أشهر ولا يسمح له بذلك! واستمرّت السبحة تكرّ بعد ذلك.

إذا كان النظام يبغي من خلال حملته الأعنف في الشكل والمضمون أن يزيد ورقةً في يده كما اعتاد، فقد أخطأ كثيراً، وأضاف إلى أوراق «الخارج» هذه المرّة. أما «الداخل» فقضيّة، لا مجرّد ورقة!

** سورة الكهف. * كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى