برهان غليونصفحات العالم

محنة العراق بين الطائفية والضحالة السياسية

برهان غليون
مضى على سقوط نظام الرئيس صدام حسين وقيام النظام الحالي، الذي وسم بالديمقراطي والتعددي والفدرالي أو شبه الفدرالي، سبع سنوات، ولا يزال بركان العنف السياسي لم يخمد أواره بعد. ولا تزال الاستحقاقات الانتخابية مناسبة لإضافة جثامين جديدة إلى قائمة ضحاياه التي لا تنتهي ولا يبدو ان هناك رغبة حقيقية في أن تنتهي. ويكاد العراقيون، والعرب معهم، يسلمون بفكرة استمرار هذا العنف لأجل غير مسمى. ومما يعزز من الاعتقاد بأنه لا توجد وصفة سحرية لوقف العنف الراهن في العراق تصويره بأنه عنفا طائفيا فحسب. وعندما ينجم العنف عن الولاءات الخاصة والمتعددة للطوائف، التي هي أيضا مختلفة بل متنازعة ومتعددة، يبدو وكأنه خارج عن السيطرة تماما، سيطرة الدولة والحكومة المركزية وسيطرة المجتمع عبر من يمثله من تنظيمات سياسية ومدنية أيضا. فلا تدخل الشرطة والجيش بالقوة المسلحة، ولا تدخل قادة الأحزاب والكتل السياسية أو رجال الدين، باسم وحدة المسلمين ومصالحهم، كافيان لإلغاء حقيقة انقسام الشعب بين سنة وشيعة، وبالتالي لضبط مشاعر الكراهية أو التنافس أو العداء التي تنبع من الولاءات المتباينة عند أبناء الطوائف المختلفة. أو هكذا يعقتد الكثيرون.
يزيد من ترسيخ هذا الاعتقاد عند العراقيين والعرب أن العلاقات بين الطائفتين السنة والشيعة لم تكن على ما يرام خلال العقود الطويلة الماضية من حكم النظام القديم الذي مارس أو اتهم بممارسة التمييز والتهميش الطائفييين. في هذه الحالة يكاد يكون من الطبيعي أن ينتشر العنف وتتعاقب المذابح والتفجيرات، تعبيرا عن الانتقام أو دفاعا عن المواقع، بانتظار أن تهدأ المشاعر الفائرة وتمحى من الذاكرة والواقع صور القهر والظلم التاريخيين.
والحال ليس لهذه الأفكار أي قيمة في تفسير العنف المتفجر الآن في العراق، على أرضية الاعداد للانتخابات التشريعية التي تعين تاريخها في السابع من مارس أذار القادم. ففي جنوب أفريقيا خضعت الأغلبية السوداء التي تعد 29 مليون نسمة لحكم أقلية بيضاء لا يتجاوز عدد أفرادها 4 ملايين نسمة خلال قرون طويلة تكرست بإقامة نظام عنصري لم يكن له مثيل في تاريخ التهميش والقهر والاحتقار والعزل. وواجه السود ممارسات لا إنسانية ولا أخلاقية ندى لها جبين الانسانية، فاضطرت الأمم المتحدة إلى فرض العقوبات على جنوب أفريقيا منذ عام 1962. وكان من المنتظر حسب هذا المنطق الذي يبرر ما يحصل في العراق باسم المظالم التاريخية أن لا يوفر السود، الذين تحولوا إلى أغلبية سياسية ساحقة بعد تفكيك النظام العنصري عام 1993، فرصة للانتقام من البيض واجتثاثهم وتهجيرهم بل أو إبادتهم. ولكن ليس هذا ما حصل وإنما العكس تماما. فقد تحولت جنوب أفريقيا إلى دولة ديمقراطية بالمعنى الحرفي للكلمة، تحترم التعددية وتكرس حرية الفرد وحقوقه بصرف النظر عن لونه وأصله وتاريخه السياسي. وهي اليوم الدولة الإفريقية الأغنى والأكثر تنمية بين دول أفريقية، تنتج ما يقارب 40% من البضائع الصناعية وحوالي 50% من المنتجات التعدينية، وحوالي 20% من الإنتاج الزراعي في القارة كلها. وتشكل الطاقة الكهربائية المستغلة نحو 50% من طاقة إفريقيا، وتمتلك حوالي 40% من عدد السيارات، ونحو 50% من عدد الهواتف في القارة.
بالتأكيد لم يكن السكان السود ملائكة خالين من مشاعر الكراهية والبغض والانتقام. وبالمثل لم يكن البيض الذين أفقدهم تفكيك النظام العنصري امتيازاتهم التاريخية وموقعهم المتميز في المجتمع والدولة راضين بما حصل لهم ومطمئنين لمصيرهم. وقد شهدت فترة المفاوضات حول الانتقال نحو نظام ديمقراطي يلغي التمييز مواجهات وتظاهرات وعمليات عنف خطيرة، حتى لو أنها لم تصل إلى واحد بالألف مما حصل في عراق ما بعد صدام. لكن وعي القيادة السياسية المنتصرة، ومانديلا بشكل خاص، قطع بسرعة الطريق على تفجر مشاعر العنف والكراهية والانتقام، وبادر بالعكس إلى فتح باب المصارحة والمصالحة الذي أدى إلى مراجعة الكثير من البيض العنصريين لأنفسهم واعترافهم بأخطائهم ودفع السود إلى التركيز على المستقبل وتكريس المصالح العامة على الإرضاء الغريزي والسلبي لمشاعر الحقد والانتقام.
وخلال أقل من سنتين مسحت جنوب افريقيا تاريخا طويلا من العنصرية وعبرت بنجاح نحو العصر الجديد، حتى أن نيلسون منديلا شعر أن بإمكانه الانسحاب من الرئاسة عام 1999 وترك الشعب يختار رئيسه الجديد. وأصل هذا النجاح الذي حول منديلا إلى رمز تاريخي لرجل السياسة الحكيم والقدير معا أمر واحد، عبر عنه حارسه في السجن خريستو براند عندما قال: لم يحصر مانديلا همه بالسود ومعاناتهم، بل كأنت مخاوف البيض في هذه البلاد نصب عينيه كذلك” “لهذا السبب توصل مانديلا الى حل جيد لجنوب افريقيا”
وكما أن نشاط لجنة الحقيقة والمصالحة التي فتحت باب التوبة لجميع الذين شاركوا في جرائم ضد الانسانية لم يقتصر على البيض، ولكنه استقبل ايضا أشخاصا مارسوا عمليات عنف لا قانونية من معسكر السود المناهضين للعنصرية، حرص مانديلا أيضا على أن لا يشعر البيض بأن سلطة الأغلبية السوداء في جنوب أفريقيا الجديدة لا تعني تهميش البيض ولا استبعادهم من الحياة الوطنية.
هكذا بالرغم من حصوله على الأكثرية (62,65 بالمئة) في أول انتخابات ديمقراطية، شكل نيلسون منديلا عشية أدائه اليمين الدستورية، في 10 مايو 1994، حكومة وحدة وطنية تألفت من اثني عشر من ممثلي حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وستة من الحزب الوطني العنصري، وثلاثة من حزب انكاثا للحرية. وعين ثابو مبيكي وفريديريك ويليم ديكليرك نائبين للرئيس، كما عين بوتا، الرئيس الأسبق لجنوب أفريقيا العنصرية الذي عانى السود وحزب المؤتمر الوطني لجنوب |أفريقيا الويلات في عهده، وزيرا للداخلية.
سياسة التسامح والمصالحة هذه جنبت جنوب أفريقيا حقبة الانتقام والعنف والتدمير الذاتي وسمحت للجميع بإعادة اكتشاف إنسانيتهم التي غيبتها المواجهة الطويلة. وراجع أشخاص دافعوا عن النظام العنصري لعقود مواقفهم أمام الملأ فاعتذر الرئيس السابق ديكليرك عما سببه من معاناة لملايين البشر جراء عمليات الترحيل القسري والسجن والاهانة والإذلال خلال عقود. أما أديان فلوك فقد غسل قدمي ضحية سياسته العنصرية فرانك تشيكان، بينما صرح ليون فيسيلز، وجميعهم من غلاة العنصريين : “أنا الآن أكثر اقتناعا من أي وقت مضى بأن الفصل العنصري كان خطأ فادحا أشقى أرضنا. لم يستطع الجنوب أفريقيون الاستماع إلى ضحك وبكاء بعضهم البعض. وأنا آسف لأنني لم أحاول الاستماع لفترة طويلة “.
ليس العنف المستمر في العراق إذن، منذ انهيار الحكم البعثي، والذي لا يتجدد بالصدفة في كل انتخابات، بذريعة اجتثاث البعث أو غيرها، التعبير الطبيعي عن حقد الطوائف بعضها على البعض الآخر، ولا حتى عن عدم السيطرة عليها. إنه بالعكس الثمرة المرة لتلاعب النخبة الجديدة بمشاعر الانتقام والكراهية والحقد وتغذيتها لها في نزاعها على تقاسم السلطة والثروة. إنه عنف سياسي صرف، منظم ومرتب وخاضع للسيطرة تماما من قبل زعماء لم يبلغوا مستوى الرؤية الوطنية ولا تحركهم كما هو واضح أي حوافز أخلاقية.
قد يقال، عن حق، إن هذا التنازع ليس هو ذاته سوى انعكاس للمواجهة الايرانية الأمريكية المتصاعدة في العراق، بموازاة ملف التخصيب النووي وإعادة الهيكلة الجيوسياسية للمنطقة. وهذا صحيح، لكن بقدر ما يفسر شقاء العراق الطويل يؤكد، أكثر مما ينفي، ضحالة هذه النخب وافتقارها لروح السيادة والصدقية الوطنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى