صفحات سوريةعبد الرزاق عيد

المثقف العربي وسؤال: من الأولى بالمواجهة الامبريالية أم الديكتاتورية؟ -الحلقة الأولى والثانية-

null
د. عبد الرزاق عيد

الحلقة الأولى

لعل أبرز تمثيل لمعنى ودلالة هذا السؤال يتمثل في الانشقاق الذي قام بين فيلسوفي الوجودية اليساريين جان بول سارتر، والبير كامي اللذين أسهما بعد الحرب العالمية الثانية بتأسيس تجمع ثقافي يساري تحت اسم ” التجمع الثوري”.
لكن سرعان ما تباعد الصديقان اللذان قاربت بينهما ظروف الحرب في وحدة الموقف ضد الفاشية ليفترقا مع انقسام العالم إلى معسكرين: شرقي وغربي، حيث طرح هذا الصراع حالة استقطاب خلافي بين الديموقراطيات الغربية الموصوفة يساريا بـ(الامبريالية) من جهة، وبين اشتراكيات أوربا الشرقية (المعسكر الاشتراكي) الذي راح يوصف من قبل الديموقراطيات غربيا بـ(الدكتاتوريات الشمولية) بوصفها وجها من وجوه الشموليات الفاشية، وذلك مع قيام الحرب الباردة بعد الحرب الثانية وقيام معسكرين متواجهين، حيث حدة الاستقطاب السياسي والايديولوجي بين المعسكرين راح يدفع لوصف الستالينية بمثابتها وجها آخر للفاشيات المهزومة في الحرب، في مقابل الاستقطاب اليساري على المستوى العالمي الذي راح يصف الديموقراطيات الغربية بالإمبريالية والاستعمار ونهب الشعوب .
لقد كانت المفارقة اقتراب سارتر من مواقع الحزب الشيوعي الفرنسي، في حين أن كامي غادر صفوف الحزب معلنا موقفا راديكاليا حاسما من ظاهرة الستالينية بوصفها إحدى تظاهرات الشمولية التي انهارت مع هزيمة “المحور” . لقد كان المفكران في موقع واحد في مواجهة الفاشية والنازية خلال فترة الحرب، لكنهما ما لبثا أن تباعدا ليدخلا في سجالات ومناقشات واختلافات لم يحسمها سوى الوفاة المفاجئة لكامي عام 1960 .
وقد توج هذا الخلاف في دلالته الرمزية من حيث موقف الكاتبين الكبيرين من قبول جائزة نوبل، إذ سيرفض سارتر هذه الجائزة انطلاقا من موقف يولي الأولوية لمناهضة الامبريالية التي تتهم بأنها وراء جائزة نوبل، وإدانة الاستعمار الفرنسي في الجزائر، بينما قبل ألبير كامي جائزة نوبل من موقع أولوية مناهضة الشموليات والأنظمة الطغيانية الديكتاتورية…حيث سيعلن موقفه المضاد للتدخل السوفيتي في المجر 1956، وبالتوازي سيكون له موقف ملتبس من موضوع استقلال الجزائر، فقد كان موقفه متأثرا بتجربته العائلية كمستوطن في الجزائر، حيث إصرار أمه على العيش في الجزائر ورفضها التحاقها به في فرنسا، الأمر الذي دفعه إلى رؤية تأملية شاسعة حول مفهوم الوطن والوطنية والهوية إذ يحاول فهم وتفسير هذا الارتباط المصيري بين أمه والجزائر ورفضها العودة إلى فرنسا الوطن . .. فأيهما هو الوطن إذن …!؟، إذ ما الذي يجعل هذه الأم الفرنسية أكثر سعادة في التشبث في البقاء في وسط بيئة جزائرية مختلفة حتى تموت فيها ..؟!
لسنا في وارد تفسير وتحليل وتأويل موقف التضاد والخصومة بين الفيلسوفين والأديبين المعروفين (سارتر وكامي) إذ ما يعنينا منها هو تمثيلهما بل ونمذجتهما لخيارين يسيطران اليوم أكثر من أي وقت مضى على المشهد الفكري والثقافي والسياسي العربي والسوري بخاصة نظرا للسمسرة الإيديولوجية بالمسألة القومية والوطنية التي تمارسها عصبة الطغم المتسلطة في سوريا، في مناخ ثقافي وفكري عربي لا يزال يراوح شعاريا في المكان منذ الستينات ، إذ لا يزال يردد غيبا وغيبوبة صيغة أن الأولوية المطروحة أمامنا كشعوب تحرر وطني هو الموقف المناهض للإمبريالية الذي يفترض تأجيل مشكلات التنمية وبناء دولة القانون والعدالة والحريات السياسية والفكرية إلى ما بعد الانتصار على الإمبريالية، حيث الذروة الدرامية لهذا المشهد التاريخي تتعيّن في شعار أنه “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” ، حيث الموقف القومي والهوية الوطنية تتحدد بدلالة هذا الشعار.
هذه الإشكالية تعود جذورها إلى لحظة التقاطع التاريخي بين الشرق والغرب، إذ أن تاريخ هذا التقاطع تعود لحظة بدايته –عادة ما يشار – إلى أنها كانت مع حملة نابليون بونابرت على المنطقة واحتلاله لمصر التي ربما سيبدأ التاريخ العربي الحديث بهذه الحملة: إن أسميناها استعمارا أم يقظة للعقل العربي من سباته القروسطي، وفق صيغة ما تتداوله كتب التاريخ المدرسي بأن العرب استيقظوا على واقع تأخرهم عن الغرب على أصوات مدافع نابليون، نقول: أيا كان موقفنا من هذه الحملة، لكنها عبرت موضوعيا عن اتجاه العالم إلى مزيد من التوحد والتعولم مع تطور الحداثة الرأسمالية وامتداد رقعتها على مستوى كوني، حيث السلعة اقتضت تشارك أو تعاون أو سيطرة منتج السلعة –مع أو على- من يملك مادتها الخام، في إطار توحيد السوق العالمي ما بين المنتج والمستهلك حول “وثنية السلعة” في عالم رأسمالي لا يزال قادرا على تجديد أدوات استمراريته وقيادته للعالم…
هذه الظاهرة الموضوعية لواقعة هذا اللقاء التاريخي التعولمي، كان لا بد أن يتولد عنها شبكة اشتقاقات ومفردات دلالية مكتظة بالالتباسات الايديولوجية والصراعات السياسية والشحنات الوجدانية ..حيث ستتولد عنها ثنائيات لا متناهية: عن التقدم والتأخر، الأصالة والمعاصرة، الاستعمار والتحرير، الحداثة والقدامة، الديموقراطية والاستبدال، العدالة والظلم…إلخ
وسيتولد عن هذه الثنائيات حزمة من المفردات والصيغ التي ستدخل الحقل التداولي للفكر العربي، حيث منذ لحظة الإنقداح التاريخي لشرارة الاحتكاك الحضاري هذه، لم تتوقف آلية إنتاج الاشتقاقات الاصطلاحية، ومن ثم تجدد قاموسها بدرجة تعمق سيرورة العولمة القائمة منذ تلك الفترة حتى الآن، وهي تتلون بلونيات التحولات الفكرية والإيديولوجية والسياسية التي تترك تأثيرها وصبغتها على استراتيجيات التسمية التي تطلق على علاقة التوتر الحضاري لهذه العلاقة (تقاطع –تفاعل –احتكاك –تماس- توتر: لوصف هذه العلاقة بين الشرق والغرب، ثم ولادة صيغ : صدام الحضارات، حرب الحضارات، الغزوات الاستعمارية) والمعادل الثقافي سيتمثل في ( الغزو الثقافي –الاستلاب الثقافي ضياع الهوية- اللوذ بالتراث وتنصيبه كأب للاحتماء به وأخيرا الحرب على الإسلام ….يناظرها النهضة التنوير، العقلانية، التقدم ،المعاصرة ، التحديث، الحداثة وما بعد الحداثة – العلمانية- التعددية- الديموقراطية …الخ
إن أول استجابة لهذا التقاطع كانت استجابة الاستبداد الشرقي للتحديث والحداثة الغربية من خلال قبولها كسلعة أي كتقنية، لكن عبر الحفاظ على موروثه الاستبدادي، من خلال تجربة سلطة محمد علي التي كان تسعى لتحديث الجيش تقنيا مع رفض تحديث المجتمع عقليا، لكن التجربة مع ذلك أثمرت المثقف المضاد في صورة الليبرالي الدستوري رفاعة الطهطاوي… الذي سينتج منظومة المصالحة بين (التراث والعصر) عبر صيغة الخضوع لولي الأمر، لكن عبر نصيحته بنظام الشورى ( المشروطة/ الدستورية)…
هذه الثنائية ستتمخض عن نموذج المثقف الليبرالي الإسلامي في صورة محمد عبده في ما أطلقنا عليه عناوينا لكتب لنا عنه تحت عنوان: ” محمد عبده” إمام الحداثة والدستور –وكتيب: الإسلام والحداثة :(تجربة محمد عبده) الذي تتلخص إشكاليته المعرفية في صيغة عدم التعارض بين الإسلام والديموقراطية الغربية الرأسمالية التي تجسد القيم المثلى للإسلام، رغم أنها ليست بلدانا مسلمة، بينما بلدان الإسلام فيها مسلمون لكن ليس فيها إسلام…إلخ
هذه المدرسة الإصلاحية الإسلامية سيتولد عنها تياران ليبراليان دستوريان: ليبرالي راديكالي مثاله الغرب الأوربي في نموذج طه حسين ومدرسته، وتيار ليبرالي إسلامي في نموذج علي عبد الرازق، حيث هذا التمازج بين التيارين المتولدين من مصفوفة (الإمام محمد عبده) سينتج ما يسميه هابرماس بـ” الوطنية الدستورية” التي حكمت مصر، بل ويمكن القول أيضا سوريا وربما الشرق العربي وبعض مغربه حتى الانقلابات العسكرية التي بدأت في اوائل الخمسينات في مصر، حيث (الجزمة الثورية) في مواجهة الوطنية الدستورية، منذ أن ضرب بها رمز الدستورية العربية الدكتور عبد الرزاق السنهوري تحت شعار (القانون هو ما يقوله الرئيس) وليس الدستور، وحتى خطاب الرئيس ذاته في سوريا وهو يهدد خصومه السوريين بـ (الجزمة) مرورا بسلسلة من نظام الجزمات البعثية (الأسدية- الصدامية- القذافية..إلخ) وصولا إلى تتويج هذا الخط بالجزمة التي عاقبت بوش على احتلال العراق…
لم تكن اللحظة العربية ما بعد الحرب العالمية الثانية تتيح هذا الحوار الفكري والثقافي السياسي بين خطي أولوية مناهضة الامبريالية أو الفاشية، فقد تداخلا في مصفوفة الخطاب الشعبوي القوموي العسكريتاري الشمولي (البعث والناصرية) في مواجهة الليبرالية الإصلاحية الإسلامية المدنية ذات الأفق الثقافي ذي المرجعية الغربية ، لكنه المناهض للإمبريالية (سياسيا) -وليس حضاريا وثقافيا- في صورة الاستعمار من خلال نموذج الكتلة الوطنية ومن ثم تفرعاتها اللاحقة في صورتي (الحزب الوطني وحزب الشعب) التي أسست لـ”الوطنية الدستورية” الليبرالية الإسلامية المدينية والمدنية في سوريا، وكما مثلتها القيم الليبرالية لثورة 1919 في مصر كاستمرار لتقاليد التنوير الليبرالي الإصلاحي الإسلامي المدني الفكري لترسيمة الإمام محمد عبده عبر تلميذه سعد زغلول، حيث سيشكل مرجعية نظرية للإسلام الأزهري المعتدل المتصالح مع العصر والحداثة وأوربا، وذلك قبل إلحاق الأزهر شموليا بالسلطة الشمولية غبّ انقلاب الضباط الأحرار عام 1952 .
الشعبوية الشمولية في مصر وسوريا التي بدأت الانحياز والتكامل مع معسكر الشمولية العالمية التي سيشكل ستالين مخيالها السياسي والثقافي والنموذج القيادي، ستتلقى أشنع هزيمة في التاريخ : ليس في التاريخ العربي بل والعالمي، من حيث مفارقة حجم القوى بين دويلة صغيرة (اسرائيل) يسميها العرب (كيانا مصطنعا) تهزم ثلاثة دول أصلية وأصيلة، وهي من الأعرق إنغراسا في التاريخ والجغرافيا في العالم…!
لم يتمخض عن هذه الهزيمة (5 حزيران 1967 ) استعادة وعي دستوري ديموقراطي ليبرالي إلا عبر التماعات نيزكية مثلتها نخبة من هراطقة اليسار في مقدمتهم (ياسين الحافظ في الهزيمة والايديولوجيا المهزومة، وصادق جلال العظم في النقد الذاتي بعد الهزيمة) وبعض التفجعات الشعرية لنزار قباني وريث عروبة “الوطنية الدستورية” المدنية الليبرالية، في مقابل المزيد من الإنغماد الايديولوجي والنكوص النفسي، والانجراح النرجسي، والرض الحضاري المتفتح عن موروث أبوي ثأري لا يعول عليه إلا في المزيد من اندفاع شحنات الثأر والمزيد من الهزائم، حيث الشمولية العسكريتارية تزداد اعتمادا في انحيازاتها إلى معسكرها (الشرقي) ليعوضها عسكريا عن خساراتها عبر مزيد من الاندماج في منظومته (الشمولية الديكتاتورية المتوحدة) في العداوة للامبريالية التي مؤداها المزيد من العداء للغرب أي العداء للديموقرتاطية، ليس كاستعمار فحسب، بل وكعداء حضاري وكره ثقافي سيضطلع به الإسلام السياسي في صورة ما سمي بالصحوة الإسلامية التي ما كان لها أن تتطور باتجاه صياغة مشروع (الهوية الثقافية)، كما كان يحدث وحدث في الإسلام السياسي التركي، وذلك لأن الشعبويات الشمولية العسكرية قطعت عليها طريق المنافسة على مسالة الهوية، بعد أن ملأت فضاءنا ضجيجا اعلاميا وصخبا شعاريا وضوضاء عروبية ماضوية : تكرز بملفوظات تلتصق بالأسنان عن الأخ العربي الذي ينبغي أن يرفع رأسه دائما ضد عدو خارج الحدود، حتى ولو كان مطأطئ الرأس أمام جزمة حاكمه الوطني والقومي والثوري أيضا وفي آن واحد …! حيث لم يكن ممكنا أبدا لصوت (كامي) المناهض للفاشية أن يجد له حيزا في فضاء عربي ملتاث بالهزيمة والنكوص والثأر وعجاج حروب الكلمات الكبيرة التي كان يمكن لها أن تتقاطع مع موقف سارتر المناهض للإمبريالية، لكنه المناهض –في الوقت ذاته- للعقل والحداثة والتنوير والحريات المدنية والثقافية والتعبيرية …!
الجدير ذكره في هذا السياق أن تيارات الراديكالية القومية المعارضة (حركة القوميين العرب ) بدلا من أن تستخلص الدرس الذي خلص له ياسين الحافظ والذي جمعته الزنزانة يوما في معتقلات البعث بالحكيم جورج حبش، وهو درس استحالة تحرير الشعوب والأوطان والأرض بالنيابة عن الشعوب والأوطان ، وأن تحرير الأرض يبدأ من تحرير الفرد، عقلا وروحا وإرادة ، وأنه بدون استعادة ولاية الفرد على نفسه من خلال الديمقراطية لا قيمة لكل الجعجعات الثورجية … نقول بدلا من استيعاء هذا الدرس أوغلت حركة القوميين العرب في العناد الشمولي باتجاه الجمع بين الشمولية القوموية والشمولية اليساروية الأممية .. غير أن ما ميز مصير هذه الحركة في صورتها الجديدة (الجبهة الشعبية )، عن مآلات اليباس والتخشب الذهني وتصلب الشرايين العقلي ، هو توفرها على قائد مثال في الطهرانية والصفاء والنزاهة والتواضع (الحكيم جورج حبش) ،إذ هو القائد الأول إن لم نقل الوحيد –لأن رياض الترك فعلها أيضا بعده – في حركات اليسار العربي – بل والعالمي – من ترك كرسي قيادة تنظيمه طوعا وبإرادته …لقد كان يكفي لياسين الحافظ هزيمة واحدة ليكتشف حقيقة الأيديولوجيا المهزومة التي لا تزال تحتفي بها المؤتمرات القومية والإسلامية العربية بقيادة التحالف الطائفي بين فارسية ملالي طهران وعروبة رفاق البعث الأسدي …أما عن الفيقوقة المتأخرة بعد سلسلة الهزائم المتتالية التي عشناها متوجة باحتلال بغداد فستكون موضوع الحلقة القادمة …

الحلقة الثانية
لعل أبرز تمثيل لمعنى ودلالة هذا السؤال، يتمثل في الانشقاق الذي قام بين فيلسوفي الوجودية اليساريين جان بول سارتر، والبير كامو حول مسألتي أولوية مناهضة الإمبريالية (سارتر)، أو مناهضة الفاشية (كامو) كما أسلفنا في الحلقة الأولى من هذا المقال، إذ سرعان ما تباعد الصديقان اللذان قاربت بينهما ظروف الحرب العالمية الثانية في وحدة الموقف ضد الفاشية ليفترقا مع انقسام العالم إلى معسكرين: غربي وشرقي ، حيث طرح هذا الصراع حالة استقطاب خلافي بين (الغرب) حيث الديموقراطيات الغربية الموصوفة يساريا بـ(الامبريالية) من جهة، وبين (لشرق) اشتراكيات أوربا الشرقية (المعسكر الاشتراكي) الذي راح يوصف من قبل الديموقراطيات الغربية بـ(الدكتاتوريات الشمولية) بوصفها وجها من وجوه الشموليات الفاشية، وذلك مع قيام الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية وقيام معسكرين متواجهين، حيث حدة الاستقطاب السياسي والايديولوجي بين المعسكرين راح يدفع لوصف (الستالينية) بمثابتها وجها آخر للفاشيات المهزومة في الحرب، في مقابل الاستقطاب اليساري على المستوى العالمي الذي راح يصف الديموقراطيات الغربية بالإمبريالية والاستعمار ونهب الشعوب .

لقد توج هذا الخلاف في دلالته الرمزية من خلال موقف الكاتبين الكبيرين من قبول جائزة نوبل، إذ سيرفض سارتر هذه الجائزة انطلاقا من موقف يولي الأولوية لمناهضة الامبريالية التي تتهم بأنها وراء جائزة نوبل باعتبارها جائزة غربية، ومن ثم إدانة سارتر للاستعمار الفرنسي في الجزائر، بينما قبل ألبير كامو جائزة نوبل من موقع أولوية مناهضة الشموليات والأنظمة الطغيانية الديكتاتورية…منذ اعلانه موقفه المضاد للتدخل السوفيتي في المجر1956 وانسحابه من الحزب الشيوعي الفرنسي…

لقد أشرنا في الجزء الأول من مقالنا إلى أن ما يعنينا في موضوع موقف الفيلسوفين هو تمثيلهما بل ونمذجتهما لخيارين يسيطران اليوم أكثر من أي وقت مضى على المشهد الفكري والثقافي والسياسي العربي، والسوري بخاصة نظرا للسمسرة الإيديولوجية بالمسألة القومية والمقاولات البازارية بالمسائل الوطنية التي تمارسها عصبة الطغم الطائفية المتسلطة في سوريا، في مناخ ثقافي وفكري عربي لا يزال يراوح شعاريا في المكان منذ الستينات حول منظومة من الشعارات المهزومة، عن أولوية الموقف المناهض للإمبريالية الذي يفترض تأجيل مشكلات التنمية وبناء دولة القانون والعدالة والحريات السياسية والفكرية إلى ما بعد الانتصار على الإمبريالية، حيث الذروة الدرامية لهذا المشهد التاريخي تتعيّن في شعار أنه “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” …

إن أول انعطافة باتجاه الانتقال من نص الشعار إلى “منطق الواقع” وفق تعبير الياس مرقص كانت مع كامب ديفيد، التي كان ينبغي لها –افتراضا- أن تشكل حالة تحول استراتيجي باتجاه العقلانية اللافظة للجملة الثورية وضجيج الكلمات الشعبوية الثأرية الكبرى الكامنة وراء هزيمة حرب ،1967 ومن ثم يفترض أنها شكلت انقلابا على وعي رغبوي زائف وتفكيك لاصطفافات جوهرانية ماهوية ضد الآخر العالم (الامبريالي)، حيث توضع المسألة الوطنية والقومية بالتعارض والتناقض مع الديموقراطية والحداثة ووحدة العالم، ومن ثم كان يفترض بكامب ديفيد بوصفها انقلابا على العسكريتارية الشمولية، ودعوة للعودة إلى لمصالحة مع العالم، كان يفترض أن تشكل عودة إلى الانتظام في ما اصطلح عليه هابرماس بـ “الدستورية الوطنية ” بموروثها الليبرالي التنويري النهضوي العربي متوجا بالثورة الشعبية الديموقرطية 1919 في مصر، ومن وجهة سورية:استعادة الدولة “الوطنية الدستورية” السورية الوليدة سنة 1920 ما بعد الاستقلال عن السلطنة العثمانية …

لكن كامب ديفيد ظلت محكومة بسيرورة عقل العسكر، فتكشفت عقلانية الاعتراف “بمنطق الواقع” عن “عقلانية يمينية ” تعترف بموازين قوى الأمر الواقع ( كل ما هو عقلاني واقعي) لكن دون فتح أي أفق لعقلانية تغييرية (ارتقاء الواقع إلى مستوى العقل ، حيث كل ما عقلاني واقعي)) وفق مبدأ الوعي المطابق ، أي عقلانية البراكسيس (الغرامشي) المفتوحة على مستقبل استعادة المجتمع المدني لدوره وفعاليته الديموقراطية … ومما سيعزز ويساعد على هذه (العقلانية اليمينية) إستراتيجية إسرائيلية قائمة على فلسفة الحيلولة دون العرب وامتلاك سر تفوقها في الحداثة السياسية، ممثلة بالديموقراطية التي تريد إسرائيل أن تنفرد ببهائها وسط ظلامية الاستبداد والطغيان القروسطي العربي، فبدت كامب ديفيد التي لم تترافق مع موقف انفتاحي جديد على غرب :الليبرالية الثقافية والحداثة والديموقراطية، مما أدى لجعل كامب ديفيد كموقف سياسي تابع وعميل للولايات المتحدة واسرائيل التي كانت تريد من مصر تطبيعا إرغاميا الحاقيا (وليس اندماجا عالميا سياديا)،لهذا كان لابد أن يرفض المجتمع المصري ونخبه الثقافية الوطنية هذا التطبيع ، ومن ثم استثمار الفاشية (كل الشموليات) لهذه المثالب للانقضاض على الديموقراطية والحداثة والتنوير باسم مناهضة الامبريالية ورفض الغزو الثقافي الاستعماري لصالح شمولياتها في الصمود والتصدي والبقاء على صدر شعوبها، مما عمق الجرح الوطني للكرامة المصرية، فكان لابد للسادات من دفع ضريبة عقلانيته “اليمينية ” هذه ذات الجذور الشعبوية العسكريتارية ، وذلك على يد قوى أكثر تطرفا في اللعب على رمزية (الهويات القاتلة ) التي حاول السادات أن يراهن عليها ضمن اللعبة المألوفة للاستبداد في استعداء أطراف المجتمع على بعضها، وذلك للالتفاف على قوى المجتمع المدني وتفكيكها وتفتيتها، لتجنب استحقاقات الديموقراطية والحرية والحداثة، فقتل السادات باليد التي أطلقها ..

ولعل هذا ما يفسر لنا الدلالة الثقافية لحدث كامب ديفيد، إذ لقي تأييد يوسف السباعي متوسط الموهبة والقيمة الثقافية، في حين أنها لقيت موقفا متلجلجا من كاتب عملاق بحجم نجيب محفوظ الذي ربما رحب بعقلانية ميزان القوى في الاتفاقية من جهة ، ومن ثم المصالحة مع القيم الديموقراطية للعالم الغربي (الامبريالي)، وذلك من موقع نجيب محفوظ النقدي المعادي للشمولية العسكرية المحلية والعالمية، فكان أكثر تقاطعا مع خط كامو، لكن تلجلجه تأتى على الأرجح من كون كامب ديفيد كانت تمثل عقلانية أمر واقع، دون أن تنطوي على آفاق عقلانية التغيير الذي يستلهم وينتظم في تاريخ التقاليد الديموقراطية لثورة 1919 الشعبية الديموقراطية الليبرالية، في حين أن تيار السباعي رحب بكامب ديفيد من موقعه السلطوي على أرضية الحفاظ على تقاليد الشمولية التي أنتجتها الانقلابية العسكرية 1952 ،وليس من موقع الانفتاح على الديموقراطيات الغربية ومن ثم مناهضة الفاشية، حيث بدا موقفه استمرارا للروح التوتاليتارية العسكريتارية لهذا الانقلاب ، دون استدعاء المعادل السياسي والثقافي لهذا التحول عن مسار الشمولية التي تقع في الخط الفاشي، بل إن مرحلة صناعة وإنتاج كامب ديفيد كانت أشد اللحظات فظاظة وترديا ثقافيا في مواجهة الثقافة الليبرالية التي كانت أقل تعبيراتها اعتدالا في تنوره مدعاة لتهمة الشيوعية بابتذال يميني عامي كشف عن أحط ما تختزنه الشعبويات من سطحية وابتذال وغوغائية دهماوية، ولهذا تبدت مصالحة كامب ديفيد وكأنها انصياع للجانب السياسي الامبريالي للغرب وليس تجاوبا مع الديموقراطية المناهضة للفاشية، بل كانت اللحظة النموذجية لما سمي بالصحوة الإسلامية سياسيا لكنها ذروة الغفوة والنكوص والانغماد بالقياس للإسلام الإصلاحي الدستوري لمدرسة الإمام محمد عبده .

وعلى هذا ظلت إشكالات العالم العربي –بعد إسقاط المرحلة الليبرالية الدستورية- دون الارتقاء بمستوى الصراع السياسي ليكون صراعا بين الامبريالية والفاشية ، أي بين السارترية والكاموية .. اذ ظل سؤال الحرية هو سؤال التحرر من الآخر الأجنبي ما بعد الحدود، وليس سؤال الحرية كإشكالية بناء للذات الفردية والوطنية الدستورية في مواجهة استبداد أكثر ظلامية وقمعا ووحشية وبربرية من أي استعمار خارجي، سيما بعد أن استفحل فجور الطغيان (العربوي الثورجي ) من خلال نماذج من عيار (حافظ أسد –صدام حسين إلى القذافي ..الخ” .

ولعل الغطاء النظري الأبرز لتعميق نزعة العداء للإمبريالية معرفيا وثقافيا –وليس سياسيا فحسب- ومن موقع حداثي ليبرالي هو كتاب الاستشراق لادوارد سعيد الصادر في السنة ذاتها لكامب ديفيد ، إذ يعود بالصراع ضد الهيمنة الامبريالية إلى مستوى يتجاوز الصراع الطبقي وما يترتب عليه ويشتق منه في الخطاب اليساري الشيوعي السائد عن الصراع بين الاستعمار وحركات التحرر الوطني، بل دفع به إلى مستوى كينوني (أنتولوجي) بين شرق وغرب، يقوم فيه الغرب بصناعة الشرق صناعة ايديولوجية ليس عبر اختراع الوهم الأوربي الغربي للآخر الشرقي فحسب، بل عبر تصور أنتولوجي يجعل من الشرق كيانا له وجوده النظري والعملي ، فقد أنشأه الغرب إنشاء استثماريا، إذ استثمر فيه استثمارات مادية كبرى على مدى أجيال .. إلى أن أصبح الاستشراق كيانا ثقافيا متكاملا بمثابته مذهبا معرفيا عن الشرق يشكل شبكة تسمح منافذها بتسريب صورة الشرق المخترعة والمصنوعة هذه إلى وعي الغربيين، شبكة توسع في نسجها عمقا، امتدادا إلى العصر اليوناني الذي اخترعه الغرب بوصفه جزءا من تاريخه الغربي، حيث إحداث سلسلة تاريخية نسقية تصل الحداثة الغربية بالفلسفة اليونانية بوصفها جذر عقلانية الغرب الذي تمت صناعته واختراعه -أيضا كالشرق- إيديولوجيا لبناء مركزيته الثقافية .

لقد تشكلت –حسب سعيد- امبريالية سياسية وثقافية تحكم مجالا كاملا من الدراسات والبحوث وليست، ظاهرة اقتصادية كأعلى مرحلة من مراحل الرأسمالية وفق الصياغة اللينينية المعتمدة في الخطاب اليساري العالمي .

أي أن التمايز عن الغرب لم يعد سياسيا (وطنيا تحرريا ) من الاستعمار، بل غدا تمايزا منظوميا (ابستيميا ) يصاغ عبر ثنائيات متجاورة غير متفاعلة أو متجادلة : حيث اللاعقلانية الشرقية تواجه بالعقلانية الغربية ، وكذلك البدائية واللاأخلاقية الشرقية التي يوسم بها الشرق مقابل التقدم والفضيلة

وعلى هذا يغدو الاستشراق :”هو أسلوب غربي للسيطرة على الشرق وإعادة بنائه وتحقيق السيادة عليه” حسب تعبير صاحب كتاب الاستشراق .

لاشك أن كتاب ادوارد عن الاستشراق بما ينطوي عليه من قيمة أكاديمية رفيعة وعمق نظري معرفي وطيد من جهة ، ومن جهة أخرى كونه ثمرة انتاج كاتب هو أستاذ عريق في الجامعات الأمريكية ذاتها كمركز جديد كاسح للاستشراق، بالإضافة إلى أن ادواردأقلرب إلى المثقف الليبرالي الذي ليس له تاريخ فكري وثقافي قومي يساري مضاد للامبريالية، كل ذلك جعل الكتاب انجيلا نخبويا في الوسط الثقافي والسياسي العربي، مدعما وجهة نظر أولوية التضاد مع الامبريالية ومن موقع ليس قوميا ولا يساريا ولا اسلاميا ، بل من موقع ليبرالي حداثي وديموقراطي، رغم اعلانات سعيد المتكررة من أنه لم يكن يسعى في كتابه إلى عداء الغرب والدفاع عن الإسلام والعروبة ،بل كان يسعى الى تخطي الهوة بين الشرق والغرب من خلال إثارة قضية التعددية الثقافية وفق إعلانات ادوارد سعيد عن خياراته الفكرية ومقاصده الايديولوجية في سياق تفسيره لكتابته عن الاستشراق، إذ يحاول وضع نفسه في موقع رفض الامبريالية والفاشية معا، أي المصالحة بين السارترية والكاموية .

لكن انكباب سعيد على فضح وظيفة السيطرة الغربية على الشرق من خلال الاستشراق، أدى إلى ما يشبه السكوت عن الفاشية وتجلياتها في تاريخ الاستبداد الشرقي الذي كان على سعيد أن لا يتوقف عنده مادام هو يندد بالاختراع التخييلي لصورة الشرق عبر الاستشراق هذا من جهة ..ومن جهة أخرى فإن انخراط سعيد في الشأن السياسي اليومي لمنظمة التحرير بعد أن انضم إلى المجلس الوطني الفلسطيني في نهاية الثمانينات، ومن ثم معارضته لاتفاق أوسلو، إذ أصدر كتابين لاحقا يندد فيهما بهذه الاتفاقية ، كل ذلك كان من شأنه أن يعزز صورة سعيد المعارض للامبريالية على حساب معارضته الفاشية الديكتاتورية التي كانت تتصدر قيادة معارضة أوسلو، من خلال تزعم النظام السوري الأسدي لمحور ما سيسمى الصمود والتصدي والممانعة المزعومة، ومن ثم تبلور هذا الخط الفاشي في اندراج النظام الثيوقراطي لولي الفقيه في إيران لتزعم هذا المحور الذي يزعم خط مناهضة الامبريالية بعد سقوط قوى المواجهة الكبرى مع الامبريالية لما سمي بالقوى الثلاث : المنظومة الاشتراكية واليسار الأوربي ، ومن ثم حركات التحرر الوطني .

لم تفد دفوعات ادوار سعيد عن موقفه الذي فسره بأنه دعوة لتجاوز الامبريالية والفاشية ،أن يذهب باحث باكستاني – هندي يدرس في أمريكا هو المكنى بابن الوراق ،أن يتهم سعيد بالإرهاب الفكري إذ يرى أن سعيد “علم جيلا من العرب فن الشفقة على الذات ، إذ يقول إنه لولا الاستعمار والعنصرية والصهيونية كنا صرنا كبارا من جديد …مما شجع الإسلاميين الأصوليين من جيل الثمانينات، وأسكت أي نقد معرفي للإسلام ،حتى أنه أوقف أبحاث الاختصاصيين في الإسلام عن نشر أوراقهم خوفا من الإساءة إلى مشاعر المسلمين وبالتالي إلصاق التهمة بأنهم مستشرقون “.

وهذه القراءة لابن الوراق الهندي، ستتقاطع معها اتفاقا قراءة ليبرالية عربية لحازم صاغية ترى في نظرية الاستشراق تغذية لثقافة الكراهية والحقد ضد الغرب التي راحت توحد المواقف القومية واليسارية والإسلامية ،وذلك في كتابه عن “ثقافات الخمينية ” معبرا عن موقف ليبرالي كان في صدد مراجعة تاريخه اليساري الشمولي، لكن مهدي عامل من الموقع اليساري الشيوعي، سيدافع عن تاريخية ماركس في موقفه من المسألة الهندية والاستعمار والثورة رافضا فكرة ادوار سعيد عن استشراق ماركس .

غير أن قراءة مضادة تقف على يسار قراءة ادوارد المضادة للامبريالية باتهام كتاب الاستشراق بأنه محكوم بانحياز مضمر للإمبريالية، يقوم بها صادق جلال العظم، متهما صديقه ادوار بأنه ينتقد الاستشراق الغربي وجهل هذا الغرب بالشرق ، من موقع من يريد أن يقدم فهما أصح وأدق لترشيد الوعي الغربي بالاستعمار وتصحيح أساليبه لتمكينه،عبر نصح الامبريالية بالوسائل الأنجع على الفهم الأصوب للشرق ليمكن التسلط عليه بشكل أعمق وأضمن …

وهكذا فمعظم القراءات التي أثارها الاستشراق مؤيدة أو ناقدة، كانت تنظر إلى إشكالية الكتاب بوصفها إشكالية سارترية مشغولة بمناهضة الامبريالية وليس بمناهضة الفاشية الأولوية الكاموية، رغم إلحاح ادوارد على أن هدفه كان تجاوز الامبريالية والفاشية معا، قد تكون نواياه صحيحة كليبرالي رفيع التكوين الفكري والثقافي، لكن نصه المتحقق فعلا كتابيا لم يخدم إلا دعاوى الفاشيات الشعبوية التوتاليتارية العسكرية العربية، وخاصة رعاع العصابات الطائفية المافيوية في سوريا إذ تسحق المجتمع السوري باسم المعركة ضد الإمبريالية …

يتبع
موقع النداء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى