بدر الدين شننصفحات سورية

لاحزب للفقراء في سوريا

null
بدر الدين شنن
جرت العادة عند الحديث عن الفقر ، أن ’يقدم الوجه الاقتصادي على غيره من أوجه الفقر الأخرى . ويجري التركيز على تموضع ونسبية الفقر ، وعلى اقتراحات وبرامج لمحاربته . لكن الفقر يتسع ويلف مئات الآلاف الجديدة كل عام ، ويزداد كارثية . ومرد ذلك يعود لأسباب عدة ، أولها ، أن من يزعم أنه عبقري الحلول الناجعة للفقر ، هو من أركان النظام الاقتصادي الظالم الذي ينتج الفقر ، وهو لأنه كذلك يتجاوز عمداً الحلول العلمية المتعارضة مع أسس النظام السائد في البلاد ، تلك الأسس القائمة على معايير ومصالح الفئات الرأ سمالية الداخلية والخارجية ، والتي تستلزم ( الحلول العلمية ) ا ستبدال هذا النظام بنظام اقتصادي مغاير يقوم على معايير ومصالح كل أبناء المجتمع وفي مقدمتهم الفقراء . بل إن كل الخطط الاقتصادية ، التي طرحها النظام بما فيها الخطة العاشرة العتيدة ، تنتج وأنتجت المزيد من البطالة والآلام الاجتماعية .. المزيد من الفقر . وهذا ينطبق أيضاً على المشاريع الاستثمارية المحلية والوافدة ، التي رافقتها دعايات واسعة مشيرة إلى دورها التنموي الفاتح في المجال لخلق فرص عمل جديدة وا سعة ، وانتاج فائض قيمة سوف يخلق نهوضاً اقتصاداً غير مسبوق في تاريخ البلد ..
بيد أن توجهات هذه المشاريع في الحقيقة قد تركزت على بناء الفنادق الفاخرة ، ومقرات لإدارة الشركات ، والمنتجعات السياحية ، وهي جميعها لاتؤمن سوى مصالح أصحابها .. ولاتقدم القيمة المضافة الموعودة .. وهي بالإجمال لاتسهم جدياً في معالجة أزمة البطالة المتزايدة ، وفي الحلول لكارثية الفقر ..
وثاني الأسباب في تفاقم الفقر ، أن الطبقة السياسية داخل السلطة وخارجها اعتادت ، وخاصة مؤخراً ، أن تغمض عيونها عن البعد السياسي للفقر ، الذي بات يتغلغل في عمق حراك الفقراء عند الجري وراء الرغيف ، والدواء ، وإيجار السكن ، والدفء ، والأمان ، والحرية ، حيث بات هذا البعد يعطي للفقر دلالة المفهوم السياسي أكثر مماهو اقتصادي . بل واندمجت هذه الطبقة السياسية في عقلية ومفاهيم اقتصاد السوق وتأبيد بؤس الفقراء ، مزينة ذلك بعناوين ، مثل تحسين مستوى المعيشة ، ومكافحة البطالة ، ومكافحة الفساد . فجميع أحزاب ” الجبهة الوطنية التقدمية ” العشرة الحاكمة ، هي بأ سمائها وأيديولوجياتها ” الاشتراكية ” و” الديمقراطية ” و ” القومية ” هي التي قررت أو وافقت على النهج الاقتصادي السائد ، ومعظم أحزاب المعارضة ” لاسيما الاشتراكية راهناً أو سابقاً لاتعارض جذرياً هذا النهج ، وإنما تعارض ” الفساد ” فيه ، بل وتحبذ تجذيره شرط أن تفتح بوابة للديمقراطية تتيح لها ” بالمحصلة ، من خلال مشاركتها في السلطة ، المشاركة ببنائه وبنيته ، مؤكدة على ذلك فيما تطرحه في برامجها السياسية الحالية أو في مشاريع برامجها السياسية المستقبلية . وذلك ضمن إطار الديمقراطية ” المنشودة ” داخلياً ، المرتبطة بالحلم الليبرالي الاقتصادي المنتج للفقر ، وضمن توجهاتها الانخرا ط في العولمة الرأ سمالية خارجياً .. دون الأخذ بالاعتبار أن هذه العولمة إنما تزيد من قاعدة البؤس عالمياً .. التي يعبر عنها الآن مليار جائع .. وأربع مليارات من المهمشين الذين يكابدون الفقر والأوبئة .
إذن ما العمل إزاء جريمة الإفقار المتصاعد طرداً عدداً وبؤساً لملايين المواطنين ؟ ..
على أن من الأهمية بمكان قبل الإجابة على هذا السؤال الإجابة على سؤال من هم الفقراء في سوريا .. ؟ وإن جاز القول أن الفقر مفهوم سيا سي .. فماذا يترتب على ذلك من مبادرات وأنشطة ؟ ..
الفقراء في سوريا هم كل العاملين بأجر في القطاعين العام والخاص إن في مجال الإنتاج أو الخدمات ، وهم المليون عامل العاطلون عن العمل ، وهم الذين يعيشون على الدخل الضئيل في المدن والريف في مختلف المحافظات . و برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في سوريا ، يشير إلى أن حدة الفقر منتشرة في المنطقة الشمالية الشرقية ، في ادلب ، حلب ، الرقة ، دير الزور ، الحسكة . التي تضم ( 8 , 44 % ) من مجموع السكان البالغ ( 23 مليون ) . أي مايعادل ( 4 0 3 , 0 1 مليون ) .. وفي الوسط والجنوب ينتشر الفقر بمستويات متوسطة .. يضاف إلى ذلك انضمام الشريحة الوسطى إلى جحيم الفقر .. بمعنى أن الأغلبية الساحقة من المواطنين يكابدون العيش تحت خط الفقر الأدنى أو خط الفقر المتوسط .. ما أدى إلى الاعتقاد الواهم أنه ليس هناك من مخرج ضمن النظام الاقتصادي الراهن للإفلات من هذا الجحيم سوى الهجرة في الداخل وإلى الخارج ..
في منتصف الستينات ، عندما بدأ توسيع القطاع العام الانتاجي والخدمي في عهد ( 23 شباط ) حدثت هجرة كثيفة من العمال الفنيين من القطاع الخاص إلى مؤسسات هي قيد الإنشاء في القطاع العام ، مثل سد الفرات ، السكك الحديدية ، معمل السماد الآزوتي ، المصفاة ، وكثير من المشاريع الإنشائية والسكنية .
في منتصف السبعينات ، لما بدأ القطاع العام بالضعف من خلال ا ستنزافه وا ستخدامه ، من قبل أهل الحكم ، كوسيلة مسحتدثة لإعادة تشكيل البورجوازية تحت هيمنة بورجوازية السلطة الجديدة ، التي كان من إفرازاتها ، تجميد الرواتب والأجور ، والافتراق الهائل بين الأجور والأسعار ، والتمايز الطبقي المتوحش ، بدأت هجرة العمال الفنيين وغير الفنيين من القطاع العام إلى القطاع الخاص ، وبدأت الهجرة العمالية وغير العمالية الواسعة إلى الخارج .. إلى دول الخليج وأوربا .. وكان رد فعل النظام إصدار قانون يعاقب الذين يتركون عملهم بمؤسسات الدولة بالسجن والغرامات المالية .
مع نهاية القرن الماضي ، لم يعد تحت ضغط البطالة المتزايدة والفقر المدقع الوا سع ، لم يعد من مجال لتغيير التموضع العمالي بين القطاعين في الداخل ، وتقلصت لأسباب عديدة فرص الهجرة إلى الخارج . حيث صارت الهجرة أحادية المسار تقريباً ، وهي الهجرة الداخلية من الريف إلى المدينة ومن المدن الصغرى إلى المدن الكبرى .. وانتشرت الأحياء العشوائية حول المدن الكبرى التي تضم الملايين .. والملايين من البؤساء ..
هذه المجاميع المليونية الفقرية .. العمالية والفلاحية والمدينية ، المشحونة بالبؤس وبالذل الاجتماعي ، وبالغضب ، لاتنظيم نقابي ولاجمعيات مدنية .. ولا أحزاب سياسية ، توليها الاهتمام وتدافع ، بجذرية وشرف ، عن حقوقها الاجتماعية والإنسانية . فالنقابات العمالية واتحاداتها ومنظمات المجتمع المدني القائمة ، محتكرة من قبل حزب النظام وحلفائه ، وهي لاتتحرك إلاّ بما يخدم توجهات ومصالح النظام صانع الفقر . وجل الأحزاب خارج النظام كما ذكرنا آنفاً ليست معنية بالفقر والفقراء كطبقة اجتماعية سياسية لها الصدارة في الأولويات ، وبعضها فقط يتناول مسألة الفقر في آخر سلم أولوياته .
وهكذا لم يعد الفقر في سوريا مجرد ظاهرة اجتماعية موزعة في أحياء المدن القديمة الفقيرة أو في أوساط الفلاحين غير المالكين للأرض في الريف وحسب ، وإنما أصبح محيطاً بشرياً كبيراً ، يتوق إلى اللقمة بلا ذل ، وإلى الكرامة والاعتبار الإنساني والحرية .
لا أحد قادر الآن على تقديم النصح للفقراء من بعيد .. من خارجهم .. كيف يعبرون عن غضبهم وحرماناتهم .. كيف ينتزعون حقهم بالمساواة .. بالحقوق .. بالعمل .. بالغذاء .. بالمواطنة . بل لابد أن تنبثق المبادرات والأنشطة المتمردة من داخلهم .. من أعماق جراحهم ومذلاتهم وغضبهم ..
بيد أن كل قادر الآن أن يقول بأسف شديد .. أن لا حزب للفقراء في سوريا ..
الفقراء وحدهم هم سيقولون كلمتهم .. وهم سيعبرون عن إرادتهم .. وهم سيبدعون آليات خلاصهمالاجتماعي السياسي .. وهم سيحاسبون كل من سرق قوتهم اليومي .. ودفئهم .. ونور تعليمهم .. ودمر أحلامهم .. وهم وحدهم الذين سيوجدون النظام الاجتماعي الاقتصادي السياسي ، الذي يضمن حقوقهم الإنسانية المشروعة .
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى