صفحات العالم

الانقلاب العالمي: هنا والآن

سعد محيو
تساءلنا بالأمس: هل “مانيفستو ستيغليتز” لنقل قمرة قيادة العالم من أمريكا إلى مجلس دولي جديد بقيادة مجموعة “البريك” (البرازيل، روسيا، الهند، والصين)، يملك فرص نجاح ما؟
الجواب يعتمد برمته على طبيعة رد الفعل الأمريكي على هذا الانقلاب التاريخي: هل ستقبل الولايات المتحدة بهدوء انحسار دورها العالمي (كما فعل قبلها الاتحاد السوفييتي)، فتتعامل معه ببرود وواقعية وتقبل أن تكون الأولى بين متساويين بدل أن تكون الثانية للا شيء، أم أنها ستلجأ إلى شن الحروب وإثارة النزاعات لتمديد عمر امبراطوريتها المأزومة؟
خلال عهد بوش، كان الخيار الأمريكي في غاية الوضوح: إطلاق سلسلة حروب لا نهاية لها، تحت شعار مكافحة الإرهاب العالمي، بهدف السيطرة على الموارد الطبيعية والرساميل والسلع الاستهلاكية. وبالطبع، من يمسك بصنابير النفط ومفاتيح رؤوس الأموال، قادر على إمساك العالم من خناقه.
بيد أن ثماني سنوات من عهد بوش، أثبتت أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على الحفاظ على زعامتها العالمية المنفردة، لأنها تفتقد أهم عناصر بناء الامبراطوريات: القدرات المالية والاقتصادية الكافية لتمويل التوسع الامبراطوري.
إدارة أوباما أوحت (حتى الآن على الأقل) بأنها استوعبت هذا الدرس، فانتقلت من وضعية إملاء الشروط إلى مرحلة الاستماع إلى آراء الآخرين ومطالبهم، فغازلت العالم الإسلامي ومعه إيران، وخطبت ود الصين ومعها الاتحاد الأوروبي، ورفعت توقعات العرب والفلسطينيين بتسوية عادلة، وأسقطت محرمات الرأسماليين الأمريكيين عن الحديث عن كارثة احترار كوكب الأرض.
بيد أن هذه الخطوات، على أهميتها، لم ترق إلى درجة إقناع العالم بأن أمريكا تغيرت بالفعل، وبالتالي باتت مستعدة لتغيير النظام العالمي. فالحلول التي طرحتها إدارة أوباما للأزمة لن تؤدي في الواقع إلى حل الأزمة بل ربما إلى تعقيدها. إذ هي رصدت تريليون دولار لدعم عمالقة المصارف والمال على حساب قطاعات الاقتصاد المُنتجة، ما أوحى بأنها تنوي مواصلة نهج تبعية أمريكا لكلٍ من الرساميل والسلع الاستهلاكية الأجنبية، وبالتالي محاولة إيجاد حلول خارجية لمعضلاتها الداخلية، عبر متابعة امتصاص ثروات الاقتصاد العالمي.
كيف؟
عبر القتال الشرس للحفاظ على هيمنتها بصفتها قوة لا يمكن الاستغناء عنها في العالم. وهذا لن يتم على الصعد العسكرية والسياسية وحسب، بل أيضاً على الصعيد النقدي، حيث ستقاوم أمريكا حتى الرمق الأخير كل المحاولات لإنزال الدولار الأمريكي عن عرشه.
أجل. إدارة أوباما واقعية وبراغماتية وترغب حقاً في التوصل إلى مخارج واقعية وبراغماتية للأزمة الأمريكية، لكن النوايا شيء والوقائع شيء آخر مختلف تماماً. وهذه الأخيرة تشي بأن الولايات المتحدة لم تعد معتمدة على غيرها اقتصادياً فقط، بل لم يعد لها أيضاً فائدة سياسياً.
لا بل أكثر: حلفاء أمريكا الأوروبيون يشكّون الآن بأن واشنطن تتعمد شن الحروب المحدودة ولكن الدائمة، والإبقاء على بؤر توتر في العالم، وعرقلة أي تطوير لهيكلية النظام العالمي.
هل يعني ذلك أن “مانيفستو ستيغليتز” لن يرى النور؟ ليس بالضرورة. لكن ذلك لن يتم بهدوء وسكينة، بل على إيقاع هدير زلزالي يصم الآذان، سواء داخل أمريكا (عبر كساد كبير جديد على نمط 1929) أو خارجها (عبر تحالف البريك مع الاتحاد الأوروبي ضدها).
متى يمكن أن يحدث ذلك؟ ربما هو يحدث هنا، والآن.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى