صفحات أخرى

عراق محمد شرارة كما روته بلقيس شرارة

كاظم حبيب
كان “جدار بين ظلمتين” أول كتاب قرأته للسيدة بلقيس شرارة. هذا الكتاب القيم الذي أنجز مناصفة بينها وبين زوجها المعماري الكبير والفنان المبدع رفعة الجادرجي، إضافة إلى ما قرأته لها من مقالات قبل ذلك وبعده، كما كنت متابعاً لنشاطها السياسي في بغداد في الخمسينات من القرن العشرين. وبسبب إعجابي بالكتاب الأول، نشرت مقالاً حاولت فيه تبيان أهمية كتاب “جدار بين ظُلمتين” من الناحيتين المعرفية والتاريخية وما تضمنه من تسجيل لوقائع حقيقية ومعاناة إنسانية يومية مشتركة وإن اختلف المكان. فأحدهما في سجن صغير ولكن الثاني في سجن كبير يحتضن السجن الصغير من جهة، ومدى التناغم والتفاعل في ملامسة الحس الإنساني العميق بين زوجين حبيبين في تجلياته الواقعية الرائعة وفي ظروف الفرج والشدة، العسر واليسر، العتمة والضياء من جهة ثانية. وكذلك الأسلوب الجديد الذي تم اختياره لإنجاز الكتاب مناصفة وبتعاقب في الفصول من جهة ثالثة. إنه التجسيد لمعاناة زوجين فصل بينهما نظام ظالم متوحش لا يعرف السجين مصيره فلا يعرف أحياناً كثيرة لِمَ اعتقل أصلاً!
من هنا كنت متشوقاً لقراءة كتابها الجديد الذي يبحث في الشخصية الأدبية الرومنسية المتميزة والسياسية الوطنية المناضلة الأستاذ محمد شرارة (1906-1979)، عن الرجل الذي حمل في ثناياه روحاً إنسانية أخّاذة تأسر من يلتقي به بأسلوبه الهادئ والرصين في الحديث والمحاجة، إذ كنت أحد قراء مقالاته التي كانت تنشر في خمسينات القرن الماضي، كما اطلعت على كثرة من مقالاته التي نشرت في مجلات عراقية كانت تصدر في ثلاثينات القرن الماضي والمتوافر بعض مجلداتها لدى الصديق الأستاذ عباس سميسم في غوتبورغ السويد.
تعرفت على الأستاذ محمد شرارة في آب من العام 1978 وفي فترة حرجة من تاريخ العراق السياسي، التقيت به في دار الصديق الدكتور محمد صالح سميسم حين دعاني وزوجته حياة شرارة لزيارتهم. جرى الحديث بيننا حول الوضع السياسي في العراق واستمعت إلى الأستاذ شرارة بأذن صاغية وهو يحلل الوضع السياسي حينذاك ويشير إلى التردي المتسارع في سياسات السلطة وحزب البعث والعواقب الوخيمة المحتملة على الشعب العراقي برمته. وكان محمد شرارة قد رأى العاقبة التي سينتهي إليها نظام البعث مبكراً بحس وطني مرهف وموضوعية عالية، ولكنه أدرك أيضاً أن نهاية البعث ستقترن بالمزيد من الويلات للشعب العراقي، رغم أنه كان لا يريد أن يفقد الأمل بقدرة الشعب على الخلاص من تلك الطغمة الفاسدة والظالمة والمتجبرة. وكانت في نبرة حديثه عتاب ودود لعواقب ذلك التحالف البائس بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي، وكأني به يقول: “الم تكن أحداث وجرائم شباط 1963 و1970/1971 كافية ؟! وكانت المحنة التي ألمت بالشعب كله والتي لا تزال قائمة بصيغة أخرى!

سمات الكتاب
قرأت كتاب السيدة بلقيس شرارة بعناية كبيرة. فهو كتاب قيّم بتميز وجهد مشكور لشحذ ذاكرة من عايش محمد شرارة وتعرف عليه أو من قرأ له، كما إن الكتاب يهدف إلى جلب انتباه الشبيبة المثقفة الى واحد من أبرز مناضلي العراق في مجال الأدب والشعر والمقالة والقضايا الاجتماعية والسياسية، ومن أجل أن لا يطويه النسيان، كما أشارت الكاتبة في المقدمة. وكم أتمنى أن ينتبه إلى ذلك أساتذة كلية الآداب وكلية العلوم السياسية لدراسة جوانب مختلفة من حياة وأعمال هذا الرجل اللبناني المولد والعراقي التكوين.
يتميز الكتاب بعدد من النقاط المهمة التي تستوجب الإشارة إليها سلفاً، ومنها:
-1 يتضمن الكتاب دراسة تحليلية نقدية معمقة ومتعددة الوجه لشخصية وحياة وأدب وشعر ومجمل تراث محمد شرارة بشكل مكثف غير مخل لفترة تزيد عن نصف قرن. فهو عبارة عن مسح تحليلي نقدي وليس مروراً عابراً لمحطات أساسية في حياة الشخصية اللبنانية/العراقية وكتاباته وشعره ونشاطه السياسي والاجتماعي وعلاقاته الخاصة والعامة بدءاً من مغادرته لبنان، وهو ابن الرابعة عشر ودخوله المدرسة الدينية في النجف، التي ساهمت في تكوينه، ولكنه تحرر منها لينهل من ينابيع الفكر المتحرر ويتمتع بحرية الفكر المستقل بعد معارك فكرية واجتماعية غير قليلة في أجواء المدارس الدينية النجفية حينذاك.
-2 ويمنحنا الكتاب فرصة التعرف على أهم وأبرز المواقف الأدبية والثقافية العامة والاجتماعية والسياسية التي تبناها ومارسها محمد شرارة دون أن تمنعه عن ذلك تلك العواقب السلبية المحتملة التي يمكن أن تلحق به وبعائلته والتي حصلت فعلاً.
-3 كما يتضمن الكتاب رؤية نقدية مباشرة وغير مباشرة مارستها الكاتبة بلقيس شرارة في البعض الأهم من تلك الأحداث والاتجاهات الفكرية والفنية والأدبية والسياسية التي كانت مشاركة فيها أو شاهدة عليها أو تحاورت بشأنها أو اتخذت موقفاً منها.
-4 ويتعرض الكتاب بحيوية وانفتاح لجوهر المعارك الفكرية والدينية والاجتماعية ومن ثم السياسية التي خاضها محمد شرارة ابتداءً من عملية التنوير والإصلاح الديني انطلاقاً من النجف حيث تعلم في مدارسها الدينية ومروراً بحقوق المرأة وحريتها ومساواتها بالرجل، وانتهاءً بالموقف من الاستعمار والهيمنة ومصادرة الحريات الديموقراطية وتشويه الدستور. وتشخيص الكاتبة كان سليماً حين أكدت بأن نضال محمد شرارة لم يكن بالقلم فحسب، بل بممارسة النضال الفعلي ودخول السجن والتعرض للفصل والطرد من الوظيفة والعيش مع عائلته في حالة الكفاف من أجل ذلك.
-5 ويتعرف القارئ من خلال الكتاب على التحول الفكري الذي صاحب تكوين شيخ الدين محمد شرارة في النصف الثاني من الثلاثينيات، والذي كان والده قد خطط له أن يدير جامعاً ومدرسة دينية في إحدى بلدات لبنان، وتبني الماركسية، أو المنهج المادي الديالكتيكي، في أوائل الأربعينيات من القرن العشرين، أي كان الرجل قد حدد النهج الذي التزم به وهو في سن النضوج الفكري والسياسي وتراكم الخبرة والمعرفة. وقد حافظ على ذلك حتى غيابه الأبدي عنا، رغم كل الضربات الموجعة التي تلقاها الماركسيون بسبب السياسات غير العقلانية والنهج الفكري والسياسي الخاطئين في فهم وقراءة الماركسية في الاتحاد السوفياتي وبقية الدول الاشتراكية، والتي ساهمت في وقوع الانهيارات في دول المعسكر الاشتراكي في نهاية العقد التاسع وبداية العقد الأخير من القرن العشرين.
-6 ومن خلال الكتاب يتعرف القارئ، وكذا القارئة، على آراء ومواقف وعلاقات مجموعة كبيرة من الشخصيات الأدبية والثقافية والفنية والاجتماعية والسياسية التي عاشت خلال الفترة الواقعة بين سنوات العقدين الرابع والثامن من القرن العشرين من خلال تشخيصات محمد شرارة ذاته أو من خلال شخصيات معروفة حينذاك أو كتابات لشخصيات عراقية وعربية عاشت وتفاعلت مع أحداث تلك الفترة وشخصياتها، وكذلك من خلال الدراسة المتأنية والدؤوبة والدقيقة التي نهضت بها السيدة بلقيس والتي تتجلى في متن الكتاب.
-7 والكتاب يقدم بلغة رشيقة وشفافة لوحة أدبية وعلمية نموذجية من حيث المنهج في كتابة السيرة يمكن أن يُحتذى، إذ أن الكاتبة لا تقدم لنا مادة جامدة يجري الحديث فيها عن الشخص فقط دون أن تترك الأبواب مشرعة على العصر الذي عاش فيه وطبيعة علاقات الإنتاج وقواه والأفكار التي انتعشت وتصارعت حينذاك والتي تجلت في البنى الفوقية التي ميزت الدولة العراقية ووسمت التشويهات الكثيرة في تطبيق الدستور الملكي والمؤسسات الدستورية الشكلية، وحياة الميسورين والأغنياء وكبار ملاك الأراضي الزراعية وكبار التجار، من جهة، وحياة الفقر والفاقة والعوز للغالبية العظمى من الشعب العراقي، وكذلك مجمل الحياة الاجتماعية في العراق من جهة أخرى، إضافة إلى حياة البؤس والفاقة للمعلمين وحملة الشهادات والمثقفين بشكل ملموس ومن خلال التعرف على الوضع المعيشي والضنك المالي والتنقلات الكثيرة سعياً وراء العيش الكريم.
-8 والكتاب ينقل إلينا صورة صادقة عن حياة سكان المدن والريف العراقي وعن المشكلات التي كانت تواجه الشعب العراقي بقومياته العديدة وأديانه ومذاهبه الكثيرة، عن معاناة الكُرد وعواقب تلك المعاناة في الممارسة اليومية الشعبية للكُرد في الموقف من العرب واللغة العربية، وكذلك عن المدرسة والتعليم ومصاعب المعلم وما كانت تعانيه العائلات من جراء تلك الأوضاع حينذاك.
-9 كما يستعرض الكتاب محللاً أوجه الحياة الثقافية والفنية، وخاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية حتى سقوط الملكية ودور المثقفين ومدارسهم المختلفة في الرسم والشعر والأدب عموماً. وتتحدث عن أبرز الرسامين والكتاب والشعراء، ومنهم جواد سليم ومحمود صبري وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة…، وتبدي موقفاً نقدياً بصورة غير مباشرة للنشاط السياسي الاجتماعي الذي نقله محمود صبري إلى أجواء الفن التشكيلي، في حين أرى بأن محمود صبري كان ظاهرة فنية مهمة وجوهرية في مجال الفن التشكيلي قبل مغادرته العراق ووصوله الى الاتحاد السوفياتي ومن ثم تشيكوسلوفاكيا حيث يقيم فيها حتى الوقت الحاضر، إذ كان يعالج المسائل الاجتماعية في لوحاته التشكيلية الرائعة. وقبل ما يقرب من أربعة عقود ترك ذلك النهج في الفن التشكيلي وتحول إلى ما أطلق عليها نظرية الكم في الفن التشكيلي والتي عليها خلاف كبير مع الأستاذ الفنان محمود صبري.
وإذ ينتقل الكتاب من المرحلة الملكية إلى المرحلة الجمهورية يشير الى الخيبة التي أصيب بها المثقفون والسياسيون الديموقراطيون بعد سقوط الملكية الدستورية التي شوهت الدستور في الممارسة العملية، وبين الجمهورية التي أسقطت ذلك الدستور وتشويهاته، ولكنها عجزت عن إقامة دولة دستورية ومجتمع مدني وممارسة سياسات مدنية عقلانية. حافظ الثوار العسكر على السلطة بأيديهم حتى تجرعوا وجرعوا غيرهم الموت على أيدي الانقلابيين الأوباش. ولكن الكتاب يقدم تحليلاً ذكياً وواضحاً عن مضامين وممارسات النظام السياسي الذي ساد في الفترة الملكية والتي كانت السبب وراء نشوء الرغبة العارمة في الخلاص من سياسات النظام الملكي ومن حكوماته المتعاقبة التي مارست الاضطهاد والظلم ضد قوى المعارضة السياسية حيث كانت ثورة تموز 1958 السبيل للخلاص من الملكية برمتها. أي أن الكتاب ينطوي على رؤية واقعية للعلاقة بين المجتمع والسلطة، بين أجهزة الدولة، وخاصة الأمنية والشرطة، والشعب وقوى المعارضة السياسية التي كانت تعاني الأمرّين وحياة السجون وعذاباته وآلام وحرمان عائلات السجناء.

كاتب عراقي
( • محمد شرارة من الإيمان إلى حرية الفكر- بلقيس شرارة- دار المدى، دمشق/بغداد – الطبعة الأولى: 2009)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى