صفحات ثقافيةعلي جازو

إنها أرض الفقراء الراغبين بترك العمل

null
علي جازو
[أبي حزين
أبي حزين. إنه الصيف، غائمٌ حارقٌ، والأمسيات طويلة ثقيلة مغبرة. لا شكَّ؛ فحزن أبي بادٍ في صوته المتقطع، ونبرة كلامه المترددة. أدخن بشراهة لأن أبي شديد الحزن. شراهة تدخيني علامة ضعف حالٍ وإهمال مديد. حينما سألتُ مهندس دار البلدية عن رقم العقار المفترض استملاكه من دائرة أملاك الدولة، رد عليَّ: الرقم الذي تذكره غير موجود. لا عقار بهذا الرقم في سجلاتنا. فكرتُ في السبب الذي يجعل المهندس متشنج الوجه غاضباً. إذا لم يكن الغضب ما أعتم وجهه وقلص عضلات فكَّيه العلويتين، فلمَ رفع صوته بتلك الحدة؟ على مخطط كرتوني، سميك نصف مطوي، تلمع أرقام بلون أسود وخطوط مستقيمة متعامدة. وسط القسم المبسوط من المخطط أمام كبير المهندسين، رأيتُ مسطرة قصيرة يمسكُ بلاستيكَها المخدَّد ظلُّ إصبع أبيض. يضغط الإصبع على طرف المسطرة مقربا حافتها المعضوضة من دائرة سوداء غامقة. عندما رفعتُ وجهي صوب صاحبة الإصبع البيضاء النظيفة، رأيتُ وجهاً بملامح عذبة: عينان جرى اعتناء هادئ بمحيط سوادهما الكثيف، وشفة سفلى صغيرة بارزة إلى الأمام قليلاً، مدعومة بامتلاء صدر ناهد متحمس ومحتشم رزين. استقويتُ بجمال المرأة المتين، فظهرُها المشدود دليل عافية جسدها. سارعت اغتنمُ فرصة الاستقواء الضئيلة- مستغلاً دعماً أنثوياً منقطع النظير – وأعدتُ السؤال على الفور قوياً ومباشراً، وبمقطع واحد مضبوط النبرة: أستاذ عبد الستار: هل لي بالنظر في سجل الاستملاكات من فضلك؟ تلاشى أثيرُ ابتسامة خافتة سرَّبتْها صاحبةُ الإصبع البيضاء جهة نافذة مقفلة، كأنما وجدتْ بين علوّ صوت كبير المهندسين وضبط صوتي اللاحق مسنوداً بحضورها – فسحةً جيدة فوضعتْ عبيرَ ابتسامتها حيث ينبغي أن يمضي عبيرٌ نديٌّ خافت بين أهواء نفوسٍ متعجلة يعضُّ الفقرُ وجهَ أيامها البليد. غادرتْ صاحبة الإصبع العذراء حجرة كبير مهندسي الشؤون الفنية في البلدية التي تأسست بقرار المندوب السامي العام 1943. غادرتْ كأنها لم تكن من قبل في الحجرة. يا لريشة حضورها الخفيف! لم يكن لمغادرة الجميلة أي أثر سوى أنني خشيتُ فقدان حزْمي الصوتي، وتقلص الدعم المعنوي الذي كان وجودها الطاغي يبثّه في عينيّ وقلبي ولحم لساني المتقلص داخل فمي الموبوء برائحة الدخان المهرَّب. قلت في نفسي: إذا لم يطعني كبير المهندسين هذه المرة فسأقفل راجعاً إلى البيت بعد إبدائي جزيل الشكر لتعاونه ودقة معلوماته، فلا أحد يجرؤ إغضاب موظف حكومي هذه الأيام. لا أعرف سبباً لحزن أبي سوى فقر الحال وكثرة المصاريف، عدا تقهر جسده تحت ثقل الشيخوخة التي بدأت تظهر إحكامَها ألماً مزمناً في ركبتيه. استغربتُ وجود امرأة جميلة في مبنى دار بلدية عريقة؛ موظفوها، أو بالتحديد كبير مهندسيها، على هذا القدر من الفظاظة وسوء التعامل. أبي أيضاً أحياناً يرفع صوته. أبي شديد الحزن في الآونة الأخيرة. إذا لم أتمكن من تحصيل وقبض تعويض الاستملاك خلال أشهر قليلة، فسيزداد سوءُ حاله.
[حدود للعمل
يقع محل المختار، الذي يختم كل ورقة (سند إقامة، شهادة وفاة، بيان ولادة،وثيقة زواج .. الخ) بمئة ليرة إذا كان المحتاج إلى الختم الرسمي من الخبراء بقيمة كل توقيع مختاري، و بمائتي ليرة – تصل أثمان التواقيع أحياناً إلى خمسمئة ليرة – إذا كان من السذج الغافلين عن أحوال سوق الأختام الرسمية وملابساتها العويصة، قبالة دار الهاتف حيث يعمل صبي معتوه كأجير موقت. والناس تدفع الثمن من دون تردد، فتسعيرة المختار، كالدولة التي عينته، ليست محل جدال. رغم كون الصبي أكثر ثقافة – عدا أن انتباهه شديد البطء – وألطف معاملة من مدير البريد ذي الفم العريض إلا أنه وحيد ومحروم الفؤاد. تعمل بدانته المفرطة وتأخره الشديد في الفهم، وتلعثمه الدائم على النظر إليه كمادة سانحة وطيعة للضحك والاستهزاء. يجيد الصبي اللغة التركية بطلاقة عدا الكردية لغته الأم والعربية لغة الأبوة التربوية الإجبارية، كما إنه صاحب أفكار جريئة في الكتابة المسرحية عدا كونه ممثلاً جيداً وهادئاً رغم حصوله فقط على فرصتي تمثيل رديئتين أدى إحداهما في المركز الثقافي المحلي حيث حضر أحد أيام الصيف المجنونة أحد ممثلي العاصمة المشمشية النائية وراء تراب البادية الناعم وسلسلة تلال جميلة، فترك خلفه أكثر من نصف زجاج نوافذ المبنى الثقافي أشلاء محطمة نتيجة تلهف وهيجان ساكني مدينتنا الأفاضل على التنعم برؤيته. باختصار، إنه شخص ذو خيال أقصد فتى دار البريد والبرق والهاتف – وإن كان معاق الذهن ضخماً، مفرط البدانة. ألا تصدر أضواء جملية أحياناً من أقبية مسكينة؟ ولكونه بلا سند عائلي يمنح اعتباراً حقيقياً لاستقلال الشخصية فقد ازداد تكتماً وعزلة. كما أن دار البريد دار خمول فظيعة. إنها أرض الموظفين الفقراء الراغبين بالهرب من العمل كل ساعة تسمح بالهرب، هذا إذا كانت ساعات بقائهم ملتصقين بالكراسي والثرثرة وتبادل أنخاب الشاي ذي الكؤوس القصيرة الدبقة من العمل والكدّ في شيء. إلا أنه استفاد من عاهته الولادية الأليفة وبطء فهمه في محيط مجتمعي محتقن ومنكمش الطموح يزيد حال المجانين بؤساً – بأن وجد فرصة للتوظف في بلدة شحَّ فيها كل شيء إثر المراسيم التشريعية الأخيرة التي حولتها إلى سكنى منكوبين معوزين. رغم أنه موظف مقت لا يحصل إلا على راتب لا يكفي مصاريفه لربع الشهر، فابتسامته البلهاء الواسعة تسع طيات حزنه. مثله شباب كثر، بل محامون وأطباء ومزارعون حطت بهم الحال إلى زرْيٍ لا يحد. هناك قدم فتى البريد الضخمة، الذي اعتاد التدخين أخيراً، داخل حذاء معوج على إسفلت الشارع الضيق الذي يفصل دار البريد عن محلة المختار. خطوتان ثقيلتان زحفتا بين حصى يسطع ضوء الظهيرة الحارق على غبارها. عينان زائغتان، خدّان عريضان لوجه متهدل اللحم، هواء منخور تتبادل لزوجتَه اليابسة وجوهُ مارةٍ عابسين، فيما سنٌّ ذهبية تلمع في مؤخرة ابتسامة ظليلة . يلتفت الفتى صوب عتبة المختار ذي العنق الطويلة، فتقع عيناه في عمق المحل على صورة مستطيلة كبيرة تحتوي وجه القائد ذي السن الذهبية اللامعة. يعجز الفتى عن التفكير المتواصل لمدة طويلة، كما إنه من العبء شديد الثقل عليه النطق حين يقف بين حشد عام. ها هو ذا وسط الشارع وقد تصلب في وقفة مائلة مترددة؛ يتأرجح بين إكمال الطريق لجلب صحن الشاي أو العودة خائبا لتلقي التوبيخ من رئيس البريد. خواء سحيق يقطع قلب الفتى الضخم نصفين جامدين، وحبات عرق، ليست ضئيلة، تبزغ أسفل حاجبيه.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى