رفيق شاميصفحات الحوار

أربعون عاما في المهجر ورفيق شامي لا يتوقف عن كتابة دمشقياته بالألمانية

null
حاوره حكم عبد الهادي
هجر الكيمياء ليكتب 26 رواية
ولد رفيق شامي في عام 1946 في دمشق، وفي عام 1971 هاجر إلى ألمانيا حيث كان يعد أثناء عمله في مصانع ومطاعم وورشات بناء رسالة الدكتوراة، وفي عام 1979 حصل على شهادة الدكتوراة في الكيمياء وعمل بعض الوقت في هذا المجال، ولكنه اختار طريق الأدب والكتابة. صدر له باللغة الألمانية 26 كتابا وترجمت أعماله إلى 24 لغة منها العربية والإنجليزية والصينية.
كما أنه حصل على أكثر من عشرين جائزة تقديرا لأعماله الأدبية وأصبح منذ عام 2002 عضوا في الأكاديمية البافارية للفنون الجميلة.
يعتبر رفيق شامي من أهم الكتاب المعاصرين الذين يكتبون باللغة الألمانية، ويمكن القول إنه من أهم الجسور الثقافية التي تربط تراث العالم العربي بأوروبا وبألمانيا بصورة خاصة.
بدأت حديثي معه  بالقول إنه معروف بلقب “الكاتب الدمشقي” وسألته ما الذي فجر كل هذه الطاقات لديه وفيما إذا كانت دمشق المحرك أم فراقها الإجباري؟
أجاب: سؤال لطيف جداً. الجواب لا يمكن أن يكون بسيطاً فهو مزيج. دمشق عشقتها كطفل في العاشرة واكتشفت أغوارها بدرّاجة كانت لدي. كنت أذهب لكل حي من أحيائها، أقف فيه وأشم رائحته وأسمع صوته، فوالله العظيم، إني مستعد أن أكتب دكتوراه عن رائحة دمشق وشوارعها وأصواتها في ساعات النهار المختلفة.  عندما تُحرم من شيء في المهجر يصبح متلألئا كالجوهرة، وهذا ما قلته لأحد زملائي الألمان إذ سألني: “بماذا تفكر عندما تستيقظ صباحاً؟” قلت له: “بكل صراحة، أول فكرة تأتي إلى رأسي هي دمشق. ماذا يعمل الأهل؟ هل يحتسون القهوة، هل يتمشون أم يتحدثون؟”
دمشق بعمقها التاريخي والإنساني –  ينبغي أن يعلم القراء والمستمعون أن المدينة تعرضت (37) مرة للغزو، ولكن  الغزاة خرجوا وبقيت دمشق، ومن كل غاز احتفظت المدينة بشيء ما. تشاهد فيها الآثارالآرامية، الرومانية، اليونانية، الفارسية …الخ والعربية طبعاً. هذه هي شخصية دمشق التي تدفعني دوماً لاكتشاف الجديد. أحاول أن أتخلص من حناني وشوقي لها بالكتابة، لأنه يُقال: إذا كتبت عن شيء ستنتهي منه. ولكن عجيبة دمشق أنه كلما انتهيت من كتابة رواية عنها يزداد حنيني وشوقي إليها.

فنجان قهوة في دمشق يعادل كل ثروة المهجر

ماذا يعني المنفى بالنسبة لك؟ يرى الكثيرون أنه من أنواع العذاب. ألا ترى أن الغريب يكتسب هالة من الطرافة وأن الناس تحب الاستماع إلى قصصه لأنهم لا يعرفونها – هذه هي الناحية الأخرى من المنفى – ما رأيك؟

المنفى مزيج غريب وعجيب. أولاً: الألم صحيح. هذا تعبير سليم، وأنا لا أريد أن أمدح أي منفى، لأن فنجان قهوة في دمشق وأغنية لفيروز بالنسبة لي أسمعها في جوها وضحكات الأصدقاء والأطفال في دمشق تعادل لدي كل ثروة المهجر والمنفى. لكن المنفى – لكي نقول الحقيقة ولا نكذب على أنفسنا – يعطيك نوعاً من الحرية. أنا انحدر من عشيرة، مثل كل عربي، من عائلة ضخمة، وهي – وليست الدولة – مراقبي الأول. عليك أن تقوم ضمن العشيرة ببعض التصرفات التي لا تريدها أحياناً. المهجر يحررك منها بضربة واحدة. قلت في إحدى رواياتي والحديث هنا عن شخص هرب من اللاذقية من الجيش الفرنسي الذي كان يلاحقه: عندما قفزت إلى الماء ونقلتني باخرة إلى أمريكا وُلدت من جديد حين وصلت إلى شواطئها. التعبير “وُلدت من جديد” فعلاً صادق، لأنني هنا مثلاً أكتب كما أريد. لا ألتفت إلى عمتي ولا خالي ولا ابن حماي بعين الاعتبار. ما يهمني هو ما تحتاجه الرواية.
هذا التحرر يفجر نوعاً من الطاقات. ولذا فإنه ليس من الغريب أن المهاجرين العرب سواء في أمريكا اللاتينية أو في أوروبا أو في أفريقيا وصلوا لنجاحات غريبة عجيبة، ولم يصلوا إلى عشرها أو واحد بالمئة منها في بلادهم. وذلك لا يعود إلى أننا بصورة شاذة أذكياء، لكن الشيء الكامن عندنا يظهر في المهجر بشكل قوي.
هذا فيما يتعلق بالشطر الأول من سؤالك. الشطر الثاني: أنا لا أعتقد أن القراء يعتنون بأصل وفصل الكاتب. أتفاجأ أحياناً أن الناس لا يهتمون بهذا الأمر سواء كنت فرنسياً، أو بولندياً أو سورياً، فهم يهتمون بإنجازات الكاتب على المدى الطويل – أحياناً يظهر كاتب كموضة، مثلاً عندما يكثُر في وقت ما الكلام عن أفريقيا أو أوروبا الشرقية ترى الناس يقبلون على قراءة هذا الكاتب أو ذاك لأصله، ولموضع بلده الجغرافي،  ثم تراهم يبتعدون عنه– أكرر على المدى الطويل لا ينقذك ككاتب إلا نوعية أدبك ومستواه العالي وأن تكون أعمالك مشوقة، لأن الناس في قرننا تعبة وسريعة الملل. هذا هو السر الذي فهمته تماماً وراعيته في أدبي. عليك أن تحذر من ملل الناس. عندما يمل القارئ يلقي بالكتاب أرضاً سواء كان كاتبه مشهورا أم مغمورا.

يا كتاب العالم: إحذروا ملل القارئ

أعتقد أن فولتير قال ذات مرة: أكتب ما تشاء ولكن لا تبعث الملل في نفوس الناس.

ذكي جداً فولتير ذكي جداً راقبت نفسي، أخي حكم، خذ كمثال كتاب قيم قُدّم إليّ ونُصحت بقراءته، ولكن يا أخي بعد عشر صفحات عيوني ذبلت، وبعد عشرين صفحة نفسي انقطع، وبعد ثلاثين صفحة بدأت أشتم الكاتب، وبعد أربعين صفحة القيت الكتاب من يدي. قلت: لتكن فلسفة العالم فيه أنا لا أريدها. هذا هو إنطباعي الشخصي جداً، بينما رواية “العطر” لزوسكيند أو روايات لآخرين تشدك إلى داخلها وإن كنت غريباً عنها. آخر رواية قرأتها عن جبال سويسرا، عن قرية صغيرة في جبال سويسرا، عنوانها “في ظل الجبل”…

ما اسم كاتبها؟
“أتو تسوم أبرهاوس” –Otto Zumoberhaus-  اسمه معقد جداً، لكن هذا الكاتب يشبه “جارسيا مركيز” مئة بالمئة، مع أن عمره (81) عاماً ولم يتعرف بالتأكيد على مركيز ولا على أدبه فإنه يكتب لك رواية عن وقائع يومية في هذه القرية العنيفة الفقيرة. القصة تدور في مطلع القرن الماضي والرواية تأخذ قلبك ونفسك.

أوجاع الكتاب العرب تأتي من النظام والعشيرة

أود أن أسمع رأيك في حوار خضته مع صديق لي يعيش في الأردن. هذا الصديق الذي يبلغ عمره حوالي الأربعين عاماً دكتور في علم الاجتماع، شاعر وكاتب وصحفي بارع ويصر على الهجرة إلى أوروبا أو كندا. يقول: “أريد أن أتفرغ للكتابة، سأكتب روايات.” وأرد عليه: “طاولة الكتابه موجودة في الأردن وفي المهجر ستكتب عن أحمد وحسن وعلي، لأن العرب بعد أن بلغت هذا العمر أصبحوا قطعة من حياتك ولا تستطيع الكتابة إلا عنهم، فابق معهم.”
ويجيب : “لا أستطيع الكتابة في هذا الجو حيث أشعر بالاختناق، فأنا أكتب تحت اسم مستعار وإلى غير ذلك من الضغوط.” ما رأيك في حالة هذا الشقي؟

أنا أرى أن هذا الإنسان صادق. أقرأ الكثير من الروايات العربية فقد أصبح الاتصال أسهل بالأسواق العربية، ولا أريد أن أذكر أسماء الكتّاب. إنطباعي أن الكل يكتب تحت رقابة، بغض النظر عن البلد، أحياناً لا أعرف البلد.  دور نشرنا تهمل حتى ذكر اسم البلد الذي ينحدر منه الكاتب. أشعر أنه يكتب تحت مراقبة دائمة. لذلك أصدق كلام صديقك.
ثانياً عشوائية الحياة وعدم تنظيمها تبتلع أو تلتهم الكثير من وقت كتابنا في الوطن. أحد معارفي في دمشق كاتب وصحفي ومضطر أن يعمل كمدرس خاص من أجل لقمة عيشه ومضطر لمساعدة نصف عائلته وكذلك بيت حماه، وكل ذلك يأكل نصف وقته. بخلاف وضعي هنا، فإذا أوصدت الباب لا يمكن لأحد أن يزعجني. الآن وأنا أتكلم معك أضع في اعتباري أن هذه الساعة مخصصة لحكم عبد الهادي. هنا لديك الحرية التامة المقدسة لوقت عملك.

وكأنك تعرف مسبقاً جميع التفاصيل المتعلقة بصديقي المذكور في الأردن، فهو يعاني فعلاً من مضايقات وطلبات الأهل التي لا حصر لها.

في بلادنا يركض المرء فقط لإرضاء الآخرين وعندما يخيم الهدوء قليلاً في المساء تجده محطماً جسدياً وليس نفسياً فلدى الناس في بلادنا قوة نفسية رائعة، فهم يستحقون كل الاحترام لأنهم يعانون الأمرين. ففي فلسطين مثلا تتراكم هموم الاحتلال والعائلة والضائقة المادية…الخ وفي نهاية المطاف وعندما يحين وقت الكتابة يكون الكاتب محطماً فيزيائياً وعضلياً. هنا أحياناً أبحث ثلاثة أيام عن سطر واحد، عن خلفيته المتعبة لأتوصل إلى الحقيقة. هذا الوقت مخصص لي. زوجتي تسألني أثناء العشاء: “ماذا عملت اليوم؟” فأجيبها: تابعت الصحف والبحث وتحققت من مصداقية سطر واحد بعد عشر ساعات. هذا السطر عندما يكتب في كتاب ما سيكون صادقاً ومتيناً أمام فحص الدهر واختبار الزمن، ولا أقول أمام نقاد الأدب. نقاد الأدب لا يعنون لي شيئاً. وفي هذا السياق أشعر بالفخر أحياناً. على سبيل المثال كتبت رواية عن سيرك جاء من الهند إلى دمشق حيث أفلس هناك بحيواناته وفنانيه وممثليه ولم تتوفر له تكاليف العودة للهند، فأخذ الناس يجمعون التبرعات من أجل عودته إلى بلاده. عشت هذه القصة في طفولتي وتأثرت كثيراً بها. لم أكن أعرف أي شئ عن السيرك وبدأت أبحاثي، وعندما أتممت الكتاب جاءني مديح أفضله على كل ما كتبته الصحف، فقد كتب لي رجل هرم عمره (80) عاماً كان يعمل مديراً لسيرك وتقاعد: “قرأت روايتك عن السيرك. أنت بالتأكيد من عائلة سيرك، فقد فحصت كتابك ولم أجد به خطأً واحداً ولا بأي لعبة.” فقلت محدثاً نفسي: إنني أنحدر من أكبر سيرك في العالم … من حي العبارة الشعبي في دمشق الجهز بسيرك عربي يعمل ليلاً نهاراً. هذا بالنسبة لي يبرر ساعات البحث: كيف يعمل الساحر هذه اللعبة؟ كيف يتصرف النمر بوحشيته أمام مروضه؟ كيف؟ وكيف؟
يا أخي، أحيانا أقرأ رواية عربية ويتملكني الشعور أن الكاتب لا يتحكم بوقته ولا يمعن النظر بتروي فيما يكتبه، فهو يشلح (يختلق) الفرضيات عن الأوروبيين مثلاً. أنت تعرف مقصدي، تلك الأوهام مثلا عن الأوروبيات، وبخاصة الشقراوات، كلمة شقراوات لم أعد أستطيع قراءتها بالعربية، فهم يعتقدون أنهن واقفات بالصف ينتظرنهم في مطارات أوروبا.

الأدب بحاجة إلى تفرغ للبحث المتعمق …مكتبة كاملة عن دمشق
حديثنا سيتعرج، لنعد إلى سوريا. ربما بعدك عن دمشق وسوريا جعلاك تتعمق في معرفتهما، فهل صدق الذين يقولون إن مكتبتك تشمل مئات الكتب والمخطوطات والخرائط عن دمشق والشام بصورة عامة؟

هذا صحيح الآن توقفت عن استيراد الخرائط لأنك اليوم تستطيع عن طريق الإنترنت/ جوجل، وبالصورة الفضائية، أن تدخل إلى كل حي. فيما يتعلق بالكتب فهناك – والحمد لله – كثير من الأصدقاء على أهبة الاستعداد لمساعدتي، فهم يزورون أصدقائي ورفاقي وأهلي في دمشق ويحضرون الكتب التي أطلبها. مثلاً هناك كتب عن طقوس الزواج في العشرينيات، هذه الكتب موجودة ومليئة بالوصف الدقيق، فلماذا أخترع هذه الحيثيات. هناك كتب وثائقية عن أشواق دمشق وأخرى عن طقوس الفرح والحزن في دمشق، عن السحر، عن الأطباء العرب، يوميات ساخرة قصص من الحياة، مذكرات … الخ. أستورد هذه الكتب وأتمتع  جداً بقراءتها لأنها تجذبني مجدداً لدمشق، تعيدني من الباب الخلفي، كما أقول، إلى دمشق. لدي مكتبة خاصة عن دمشق، فأنا لا استطيع الكتابة عن حلب أو عن القاهرة أو عمان أو عن بلدك جنين بالرغم من افتخاري بها. بقيت وسأظل طول عمري كاتب دمشق. من البداية قلت إنه يجب أن أعد نفسي لهذه المهمة الشديدة العمق عن طريق مكتبة محترمة. فالأمنية شيء وتحقيقها شيء آخر. لدي مكتبة صوتية خاصة عن دمشق: أصوات دمشق مثلاً التي يحضرها لي السياح معهم، أصوات الأسواق، أضع الكاسيت وأسمع، لا يوجد فيها سوى أصوات البائعين وشتائم المارة وأضحك حتى تدمع عيني من شتائم بائع ” أزعر” كما نقول بالشامية  يمسح الأرض بأجداد أجداد منافسه ثو صوت بائع العرقسوس الذي يلفت نظر المارة بقرعات صنجاته النحاسية الجميلة.

إن الأصوات ناحية مهمة للغاية فهي فن يدرس لطلاب الدراسات الصحفية والإذاعية، فهناك صور صوتية لنيويورك ولندن … الخ، ومنها يستخلص المستمع أشياء كثيرة، مثلاً إذا كان صوت الأذان عالياً يمكنك أن تستنج أن النظام يشجع الصلاة والعكس. كلما ازداد طرف ما قوة  كلما ارتفع صوته أكثر.

وأضيف إلى ذلك أنني إنسان أذنيّ وليس عينيّ، سمعيّ وليس بصريّ، فنظري قصير وبحاجة إلى نظارات، لكن أذني حساسة جداً منذ الطفولة، إنني أتمتع عن طريق الأذن. أنا أوافق تماماً على كلامك، لكل مكان في العالم نيويوك، كولن، دمشق، نابلس أو جنين هناك خارطة أو سجادة صوتية مليئة بالألوان تسبح في سماء المكان.

الكتابة بلغة أجنبية نعمة أم نقمة؟

لننتقل – إذا سمحت – من الأصوات إلى اللغة فاللغة قد تكون مشكلة. مثلاً “رايش رانيتسكي” الناقد المعروف علّق مرة على كتاب كتبه الأديب التشيكي  ميلان كونديرا باللغة الفرنسية وليس باللغة التشيكية بقول مفاده: لا أود مناقشة هذا الكتاب لأن الأدب لا يكتب بغير اللغة الأم.  ما رأيك بهذه المقولة؟

هذا رأي متعجرف، فهذا الرجل لم يتجاوز فكريا مرحلة “توماس مان” في الأربعينيات. لا احترم هذا الناقد، بغض النظر عن مولده وخلفيته: كان بولندياً، شيوعياً- انتهازياً، ثم صار المانيا رجعياً- انتهازياً، لا أكترث بكل ذلك ويزعجني أن أحكامه رجعية جداً جداً ولا تأخذ الحياة بعين الاعتبار. لا أعلق أهمية على كلامه لماذا؟ لأن (الإنجليزي) “بيكيت”  كتب بالفرنسية (والفرنسي) “شاميسو” كتب بالألمانية …كتب روائع عن  الأدب الساخر، جبران خليل جبران (كتب بالإنجليزية أيضاً) وجوزف كونراد (بولندي) كتب بالإنجليزية، كونراد عبقري في الأدب العالمي ولا يحتاج للناقد رايش رانيتسكي للاعتراف به. تخيل أن هذا الناقد لا يهتم بأعمال كونراد لأنه لم يكتبها بالبولندية، اللغة الأم.
بشكل غير رسمي أتخد هذا الناقد موقفا مني في الصحيفة التي كان يعمل بها عندما تقدم زميل شاب باقتراح يتعلق بتناول كتبي، فقد قال له: “رفيق شامي يكتب بالألمانية ولذا لا يهمنا الأمر”، وأضاف: “أصلا لا يهمني كل ما يكتبه الكتاب العرب.”   لا يهم هذا الشخص قارة كاملة.
لنعود إلى سؤالك الأعمق من موضوع هذا الناقد وهو الكتابة بغير لغة الأم. هذا الفن ، هذا الأدب له طعمه الخاص. أنا أنطلق من تمكن الكاتب من اللغة الجديدة. لا أود الدخول في نقاشات عن الكتاب الذين لا يمتلكون ناصية اللغة الجديدة، وأظن أنك تتفق معي في الرأي.
الأمر ليس بهذه السهولة فالبعض يعتقد أنه سيصبح في ألمانيا بسرعة من المشهورين. هذا وهم. لدينا في المانيا تراث كبير جدا في الشعر والفلسفة، فلا يمكنك الإتيان بجديد إن لم تكن مجتهدا أكثر من الألمان. أنطلق من فرضية أن يتمكن الكاتب من اللغة، طبعا دون إهمال المساعدة في التنقيحات الأخيرة التي يحتاجها حتى من يكتب بلغة الأم.
شخصيا أعشق اللغة الألمانية، فقد درستها للمرة الثانية بعد الدراسة الجامعية. نسخت روايات كاملة بالألمانية ولكتاب ألمان عظيمين بخط اليد، لكي أشعر جسديا باللغة: كيف يكتب “هاينريش هاينه”، أو كيف يصيغ “توماس مان” أو ” كورت توخولسكي” جملة تبعث الضحك في نفسي؟ كنت أدقق مثلا الصفات والأسماء والأفعال لتي يستعملها هذا الكاتب أو ذاك.  هذه الدراسة العميقة استمرت ثلاث إلى أربع سنوات.
عندما أكتب بالألمانية لدي شعور جميل جدا وهو تحويل الصور العربية التي تعيش في داخلي بثوب ونفس ألماني، الكلمات أكثر من ثوب، فالصيغة تتداخل مع المعنى بشكل ديالكتيكي ، أو لنقل بشكل حيوي. تتداخل الصيغة مع المحتوى أو المعنى إلى الصيغة النهائية. هذا نوع من الأدب الجديد وله نكهة جديدة. قراء كتبي يقولون ذلك بشكل إيجابي عن أعمالي. هذا يفرحني طبعا، لأن العمل صعب ومرهق في هذا الميدان.

أعتقد أنك أجبت إلى حد ما عن سؤال كنت أود أن أطرحه ، ولكني أود على الرغم من ذلك أن أسألك: هل ترى أن اللغة مشكلة أساسية أم أن الأساس أنه هناك الكثير من الصور والقصص في رأس الكاتب التي لا تفك عنه حتى  يرويها واللغة قد تصبح وقتها مجرد أداة ؟

سؤال جميل جدا، فلا تتواضع يا أخي، لم أجب في كلامي عليه. أسمي  الشعور والصور الكامنة فيك والتي تحتاج إلى هواء طلق لتخرج ، أسميها للتبسيط المحرك، وأسمي الكلمات والصيغ الأدبية البنزين الذي يدفع السيارة للسير. العلاقة بين الصور واللغة معقدة جدا وهما يكملان بعضهما البعض.  الفكرة لوحدها دون الجسد اللغوي المناسب لا تساوي شيئا. أنت تعلم مثلي أنه هناك أفكار عبقرية ولكن صياغتها على شكل فيتشر، رواية أو فيلم لم تنجح: هذه مأساة الكتاب من أيام اليونانيين الصينيين والعرب القدامى، المواضيع لم تتغير منذ ذلك الوقت، نحن نكررها من أول ما غدر أنسان بإنسان ومن أول يوم أحب إنسان إنسانة على هذه الأرض ولا تنس فقصة قابيل وهابيل هي أول قصة بوليسية في العالم.

محمود درويش قال الشئ نفسه بكلمات أخرى: ” الكتابة هي كتابة فوق الكتابة.”

طبعا، هذا صحيح. سؤلت مرة: هل هذه المواضيع التي تكتب عنها جديدة؟  فأجبت : أعوذ بالله!
لنعود الى الفكرة وجسدها اللغوي. العاملان لا ينفصلان عن بعضهما، أحيانا يكون لديك فكرة رائعة واكتشف بعد عشر صفحات أنها ليست مؤهلة أن تكون رواية،  الكلمات لا تحملها لأن تصبح رواية، وإنما إلى قصة قصيرة. ولكن ، دون فكرة ومحرك داخلي يريد الخروج للناس لا تنفعك أي لغة. هناك فزلكات(حذلقات)  لغوية، أي الفن من أجل الفن، فزلكات من عباقرة لغويين ولكن ليس عندهم أفكار وليس عندهم معاناة وما يقولونه للبشر. نلاحظ في مثل هذه الحالات بعد صفحتين أن الكاتب يتفلسف لغويا وليس أكثر من ذلك. إذا الواحدة دون الأخرى لا تنفع شيئا. هذه تجربتي بعد عشرين أو ثلاثين سنة من الكتابة.

هل ترى أن هناك قصصا أو بالأحرى صورا من الصعب أن ترويها بغير العربية؟
أسئلتك ليست سهلة. نعم، أحيانا يقال عن كاتب ما إنه لا يُترجم. هذا موجود. هذا ينطبق أيضا على كتّاب المان محبوبين، ولكن مواضيعهم ألمانية بحتة، حزنها ومرحها ألماني بحت ولا يمكن ترجمتها لا للإنجليزي ولا للعربي. تستطيع طبعا أن تفعل ذلك ولكن كل الأبهة والجمال سيضيعان أو يخسران الكثير. هذا صحيح ولكن ليس لحد المنع والاستعصاء. ساضيف ما يلي: ربما تكون هناك مشكلة خاصة جدا بفلسطين أو بدمشق من أحياء دمشق التي لم يشاهدها أوروبي في حياته ، ورغم ذلك يمكن التعبير عنها، ولكننا لن نكون على مستوى مرح محمد الماغوط الذي كتب عن الحياة الدمشقية بالعامية (لدريد لحام).  حاولت أن أترجم بعض مقاطع أعمال محمد الماغوط، مثلا غربة، ضيعة تشرين أو كاسك يا وطن. يا أخي، فكاهية قليلا في الألماني، ولكن لا يمكن أن تحرك القلب. وهناك أمثلة سلبية جدا فرواية إميل حبيبي العبقرية ” الوقائع الغريبة في إختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” ترجمت إلى الألمانية من عدة مترجمين جلسوا على صدر الرواية بمؤخراتهم البيروقراطية الألمانية العريضة ففطسوا نفسها الساخر وخرجت الرواية لا طعم لها.

مذاق اللغة الألمانية: بين الجمالية والحيرة
التلاميذ أبناء الجالية العربية في المدارس ألالمانية، وهم يعدّون بالآلاف، يواجهون صعوبات في إتقان اللغة الألمانية،  هل يمكنك أن تحدثنا عن الصعوبات التي واجهتها خاصة في البداية، فربما يستفيد هؤلاء التلاميذ من تجربتك ؟

أولا كان لدي حظ كبير منحتني إياه الحياة، فأنا أنحدر من أصل آرامي. الآرامية هي لغة الأم في معلولا وهي قرية في جبال القلمون وتقع 50 كيلومترا شمال دمشق، ثم لغة طفولتي وشبابي هي العربية. لغة الأدب والثقافة عندي العربية، وكما قال فارس خوري: “أنا مسيحي الإنتماء وعربي الثقافة.” هذا الأمر غير قابل للجدل. وعندما رحت للمدرسة ، إلى دير المخلص في لبنان – كان أهلي يودون أن أصبح راهبا- وكانت الفرنسية لغة الدير في كل المواد وكل وقت، وعندما عدت إلى مدرستي في دمشق قالوا: ولّى زمن الفرنسية فعلى المرء أن يتعلم الإنجليزية، التي تعلمتها ست سنوات ورافقتني حتى تخرجي من الجامعة.
عندما جئت لألمانيا كانت الألمانية اللغة الخامسة. هذا حظي من الحياة. كل لغة تمتلكها تسهل اللغة القادمة، لأنه لا يوجد أختلاف كبير في بناء اللغات الأوروبية . وعلى الرغم من ذلك تعذبت في البداية من خصوصيات اللغة الألمانية وقد تحدثت مطولا مع المؤلفة التي كتبت عن حياتي. تجددت أثناء ذلك ذكرى هذه الأيام العصيبة. كنت أتعذب لأن اللغة الألمانية تفرق بين فعلين مختلفين في تركيبهما (Haben, Sein) ويقلبان عند إستعمالهما خطأ في صيغة الماضي كل الجملة، ثم تعذبت للكسل الكامن في اللغة الألمانية، لأن الألمان ينطلقون من فعل، لنقل مثلا يجيئ، فيضيفون إليه أحرفا أو مقطعا جديدا فيتحول الفعل إلى كلمة أخرى تماما لا علاقة لها بالمجئ أو الذهاب: تصبح لديك كلمات مشتقة من يجيئ ولكن معانيها لا علاقة لها بالمجيء منها:الدخل، الكمال، الهروب، الفساد، او التملص الخ. هذه مشكلة. من ناحية أخرى وجدت تشابها بين العربية والألمانية في ميدان سلبي. في اللغة العربية الجمع معقد ، فهناك حوالي عشرين نوع من أنواع الجمع: المثنى، جمع المؤنث،جمع التكسير، جمع السالم الخ . اللغة الألمانية تحتوي على 15 نوعا من أنواع الجمع. في اللغات الأخرى مثل الإنجليزي أو الفرنسي تضيف على الأغلب ( فهناك بالطبع شواذ) للمفرد حرف ( S )  وترتاح.

أذكر أنني قرأت في أحد كتبك ربما منذ عشرين عاما مقطعا تقول فيه: في اللغة العربية الشجرة مؤنث وهذا شئ منطقي لأنها تحمل الثمار ولكن في اللغة الألمانية الشجرة مذكر؟ لماذا؟ شعرت وكأنك – من قبيل المزاح- تريد أقناع الألمان بتغيير أداة تعريف بعض الكلمات!!

أشكرك لأنك ذكرتني بهذا الجانب، فأنا في الواقع متعمق باللغة العربية، تعلمتها بشكل متين، فقد كان أستاذي الدكتور حسام الدين الخطيب، المشهور بعلم المقارنة. كان فلسطينيا نشيطا في منظمة التحرير الفلسطينية، كان رائعا وعبقريا دمث الأخلاق. الأن أصبحوا يعترفون به ويمنحونه الجوائز بعد صمت مدوي لعشرات السنين، وهو يعمل حاليا  في قطر أو البحرين. علمنا هذا الأستاذ في مدرسة البطريركية الدمشقية، حب اللغة العربية. عندما جئت لألمانيا كنت واثقا من أن الشجر مؤنث، ولكنه ، يا للويل، في ألمانيا مذكر والخ. من ناحية أخرى في الألمانية لا يوجد مذكر ومؤنث فحسب، بل لديهم حاله ثالثة وهي المحايدة (نويتروم)، وهذه الحالة غير موجودة لا في العربية ولا في الإنجليزية أو الفرنسية. تقول للبنت في الألمانية وتكون شبه كاملة الأنوثة: أعطيته وليس أعطيتها أي تتعامل معها كمذكر( في حالة الجر فقط) وأما في حالة الرفع والنصب فتعالج قواعديا بشكل خاص ( للحالة الحيادية). الملعقة مذكر والشوكة مؤنث والسكين حيادية.
الحيلة الوحيدة التي ساعدتني هي الكتابة باليد، ولذا فإنني أنصح كل الشبيبة العرب الذين يودون تعلم لغة أجنبية بسرعة أن يستعملوا الكتابة باليد، لأنها تدخل عن طريق اليد أسرع إلى النفس. والنصيحة الثانية أن يتكلموا بكثرة مع الناطقين الأصليين بهذه اللغة التي يودون تعلمها ويطلبوا منهم بكل إصرار أن يصلحوا أخطاءهم عند الحديث. نعم، أن يقاطعوهم قائلين هذا الفعل أو هذا الإسم يلفظ هكذا أو يصرف هكذا. لا أن يخجلوا من التصليح.

هل يبقى الغريب غريبا بعد أربعين عاما؟

أسافر كثيرا إلى فلسطين المحتلة التي تعج بالحواجز وقد تعودنا على اختراقها من خلال الطرق الإلتفافية وسأعود بلفة سريعة إلى سؤال شخصي: هل ما زلت تشعر بالغربة في ألمانيا أم أنك عندما تكتب لا تخاطب غرباء وإنما أصدقاء ومعارف؟

تستطيع الإلتفاف، التف كما يحلو لك، يا عزيزي، أهلا وسهلا. الغربة تزول فقط عندما أقف على خشبة المسرح، ولكن في الأيام العادية أشعر أنني غريب، نعم غريب. على الرغم من نجاحي والحياة المرفهة التي أعيشها، يُشعِرَك الألمان بشكل لطيف أو غير لطيف أنك غريب. على خشبة المسرح أصبح بعد خمس دقائق أنا والصالة في قلب واحد. أشعر أن الجمهور يجلس معي في دمشق، وكأنه انتقل بشكل سحري من هامبورغ أو كولن إلى دمشق. في قاعة في هامبورغ حيث بلغ عدد الحاضرين 700 شخصا وفي مدينة توبنجن وصل هذا العدد إلى أكثر من ألف شخص …كانت القاعتان على سبيل المثال تموجان بالمئات. لم يعد هناك فراغ للغربة، فالناس تتجاوب معي كموجة بحر أتحول فيه أنا إلى قطرة تضرب مع الجمهور شواطئ الثقافة والمتعة السماعية. أنا معهم ، منهم وفيهم، اضحك واحزن وإياهم على المصير السعيد أو التعيس لأحد أبطال الرواية.
إذا ، لكي أكون صادقا، لا غربة على خشبة المسرح، ولكن في الأيام العادية أشعر أني غريب، لأن المجتمع الألماني  لم يتعلم ككثير من المجتمعات باحتواء الغريب بضمه إلى صفوفه. ليس لديه خبرة تاريخية.
الغريب في ألمانيا كان دائما مستَعْبَـد (بفتح الباء) أو مستَعْبِـد (بكسر الباء)، إما كمحتل من قبل أمريكي، أنجليزي أو فرنسي أو روسي، وإما مستعبد (بكسر الباء) للأقليات البولندية والروسية الخ التي كانت تُجبر على العمل في ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية. لا ترى المرونة لدى الألمان خلافا للفرنسيين والإنجليز الذين تعلموا من خلال تاريخهم الإستعماري، تعود البريطاني من خلال الكمنولث  أن يتناول طعام العشاء في لندن بجوار أشخاص من عشر جنسيات. علينا أن ننتظر الأجيال الألمانية القادمة فربما أولادنا أو أحفادنا يتعاملون مع الغرباء بطريقة أخرى. في أمريكا  مثلا – كما قال عم لي عاش في فلوريدا – تأتي سوريا وبرتغاليا وتصبح بعد سنوات قليلة أمريكيا.

أنت تعيش في ألمانيا منذ 1971 فهل تتمتع بالحرية والديمقراطية ودولة القانون رغم عيوبها؟

نعم، أتمتع فيها مع عيوبها، لأن الديموقراطية من صنع الإنسان. الديمقراطية أرقى نظام  ممكن – كما قال ونستون تشرشل. أعرف مساوئ النظام الديمقراطي هنا جيدا. بالفعل أتمتع بها ، على الأقل أتحرك وأقول كما أريد. أنت ترى، نحن نتحدث بسرور ولا أشغل نفسي دقيقة واحدة بالسؤال: كيف أقول هذا لحكم عبد الهادي، كيف أصيغ رأيا معينا لكي لا أتورط في مهاترات قد تكون خطيرة علي او عليه.

عندما ظلمني أحد الموظفين وسحب سماح إقامتي رفعت دعوى على الدولة وربحتها وتحملت الدولة الخاسرة كل نفقات الدعوة. تصور بربك، أجنبي عربي يدافع عنه محامي صغير وفقير ( لم يكن بإمكاني أخذ محامي أفضل) يربح دعوة قضائية ضد الدولة الألمانية!
من ناحية أخرى الديمقراطية تفجر إمكانيات البشر. مثلا : أبني عمره 17 عاما ويهتم في المدرسة بالأبحاث العلمية وحاز على جائزة في هذا المضمار. لم يسألوه : هل أنت إبن سوري أو يوناني، بل سألوا عمله ودافع عنه وحصل على الجائزة الأولى لحماية البيئة. وكان  تنافس حر وقاسي مع مئات الطلبة في مدينة فيلهيلمسهافن في شمال ألمانيا.
هذه الحرية تمكن شخص مثل سركوزي أن يصبح رئيس جمهورية فرنسا وهو يهودي إبن مهاجرين هنجاريين، جاءوا إلى فرنسا، وبعد جيل واحد من وصول أهله تولى سركوزي هذا المنصب وتؤهل ميركل، المرأة التي أتت البارحة من المانيا الشرقية لتصبح مستشارة الدولة ( أعلى منصب سياسي).
ما ذكرته قبل قليل عن نظرة المجتمع الألماني للغريب وعن صعوبات تقبله في طريقها للتغيير إلى الأفضل، سأذكر مثالا منيرا جدا: حاليا  يتولى ” تشيم أوتسديمير” ، وهو مواطن ألماني من أصول تركية، إبن عامل تركي فقير، رئاسة حزب الخضر في ألمانيا. لقد أنفتح المجتمع الألماني نسبيا على الأجانب بالمقارنة مع الأوضاع قبل ستين أو سبعين عاما، والديمقراطية هي محرك هذا التطور.
الديمقراطية والحرية يفسحان المجال أمامنا لكي نشرح للألمان أننا قريبون جدا من بعضنا الآخر. أحيانا أقف على المنصة وأحدث الجمهور قصصا ساخرة عن الضيافة وعاداتها عند العرب والألمان، يسخر فيها مثلا سوري من ألماني لبخل الأخير ويسخر الأخير من السوري لأنه يأتي دوما متأخرا عن موعده. والقصة محبوكة بشكل أنك بعد ثلاثة أسطر لا تستطيع أن تفرق بين السوري وبين الألماني ومن منهما يسخر من الآخر، فالحدود بينهما متماهية، إننا نشبه بعضا أكثر مما نتصور. في العام الماضي مثلا حاز المخرج التركي فاتح أكيم على جائزة أفضل مخرج في ألمانيا. شخصيا أنتخبت قبل عدة سنوات كثالث كاتب محبوب في المانيا. بدأ الألمان شيئا فشيئا يفتحون أبوابهم: لم أشاهد عندما جئت لألمانيا منذ أربعين عاما ما أراه الآن، لا هذا الإنفتاح على الأدب العالمي ولا هذا العدد من المطاعم من جميع بلدان العالم… تغيرت الدنيا هنا . طبعا الفرنسيون والإنجليز أسرع من الألمان فيما يتعلق باستيعاب الأجانب، ولكن الألمان أيضا قطعوا شوطا لا يستهان به.
ولكن على الرغم من ذلك أقول: أحيانا تأتي من المواطنين الألمان ردود فعل سلبية مفاجئة، بسرعة، يشعر الألمان مجددا بالخوف من الأجانب بعٍد أي حادث عنف أو حادث إغتيال، خاصة عندما تسلط وسائل الإعلام ( خاصة الصحافة الصفراء سواء كانت ورقية أو الكترونية) الأضواء عليه بطريقة مثيرة للعواطف، ولعل هذا التقلب السريع  يعود إلى التاريخ الألماني – و كما ذكرت – المجتمع الألماني لا يقف على طبقة سميكة من الجليد بسبب الازدواجية التاريخية لموقفه من الغرباء.

أخيرا ستصدر جميع أعمالي بالعربية

لنعد إلى أصولنا والى لغتنا. صدرت كتب كثيرة لك في اللغة الألمانية ولغات أخرى، ولكن لم أر في الأسواق ترجمات لهذه الكتب باللغة العربية. علمت مؤخرا أن كتابك “التقرير السري عن الشاعر غوته” تُرجم منذ فترة وجيزة  للعربية وأن “دار الجمل” في بيروت في  طريقها إلى إصدار جميع أعمالك بلغة الضاد.  هل يمكنك أن تحدثنا عن التفاصيل في هذا الميدان؟

خيم الصمت طويلا على أدبي في البلاد العربية. رغم ذلك جاءتني عروض كثيرة، خاصة بعد نجاح كتابي “حكواتي الليل” حيث طُبع منه حوالي المليون نسخة. أنا أبيع حقوق الطبع إلى كل اللغات باستثناء اللغة العربية، لأنني لا أود بيع “لغة الأم” هكذا، وثانيا لأنني أود أن أمتلك الترجمة إلى اللغة العربية بيدي. لم أشأ أن يأتي صاحب دار نشر ألماني ويعيق الترجمة إلى العربية لسبب ما. بعد  نجاح “حكواتي الليل” جاءتني عروض ولكنها كانت ترتبط بحذف بعض المقاطع ( بحجة أنها مهينة للضباط العسكريين وصريحة جنسيا)، فرفضت بكل أدب. أفضل أن أنتظر عشر سنين لكي تخرج الأعمال كاملة. أستطيع الإنتظار فنفسي طويل كالجمل.
لدي وصية واحدة لأبني وهي ألا يقبل عند الترجمة أي حذف أو تغيير. أرفض أن يخرج العمل مشوه لمجرد أن الناشر يعتقد أن القارئ العربي لا يريد أن يقرأ نقدا لجنرال أو للطقوس البالية. أنا لا أشتم الدين، كما يدعي أعدائي الذين يشتمونني أحيانا بحجة أنني أنتقد الدين الإسلامي أو المسيحي…دون أن يقرأوا كتبي، لا، أنا أعتقد أن ألأديان مسألة شخصية جدا، ولدي إحترام كبير للإسلام. كنت أول من هاجم البابا عندما هاجم النبي محمد بقذاعة. نشرت مقالا طويلا ( أنظر أرشيف الصفحات) بينت فيه له أنه يحاول سرقة المسيح وإهانة النبي العربي بينما المسيح هو نبي شرقي وليس يونانيا كما ادعى البابا بشكل أو بآخر.
الآن اتفقت مع الناشر خالد المعالي صاحب “دار الجمل” أن ننشر دون حذف أو تغيير. ظهرت رواية “التقرير السري عن الشاعر غوته” ومؤخرا رواية أخرى “يد مليئة بالنجوم” وهي رواية للشبيبة والمراهقين مع مقدمة جديدة بقلمي، لأن الرواية صدرت أول مرة قبل عشرين عاما. حاليا يُترجم لي كل سنة كتاب، في هذا العام سيصدر “حكواتي الليل” وهي رواية عن سر وجمال الحديث وتقوم المترجمة السورية البارعة رنا زحكا بترجمته وفي العام القادم ستصدر رواية “قصة ميلاد”، الرواية الأخيرة هذه تتناول موضوع الجوع في الحرب العالمية الأولى، هذه القصة حدثني جدي إياها، وهي قصة رائعة ومحزنة تترجم الآن من قبل الكاتبة والصحفية السورية الكبيرة فلورنس غزلان التي تقيم بباريس. سنواصل السير في برنامج إصدار كل سنة كتاب أو كتابين، فأنا لست على عجالة. كل شئ يسير بشكل جيد : الكتب شاركت في معارض مختلفة ولم تتعرض لأي منع الخ.

هل ما زلت تكتب أحيانا باللغة العربية أم توقفت عن ذلك في السنوات الأخيرة؟

مارست لفترة الكتابة بشكل مستمر بالعربية في صحف سورية معارضة وتوقفت منذ سنة لأنها منهكة فأنا لا أستطيع أن أعمل عملا صحافيا الاحق فيه الحياة اليومية في سوريا التي لا اعيشها بحكم وجودي في الخارج. هناك زملاء شجعان ورائعين يقومون بذلك على وجه أفضل. أمارس الآن الكتابة بالعربية لأنني أراقب الترجمات . أتعاون مع مترجمين يعيشون في دمشق والمهجر وأحب دوما أن تكون النسخة الأخيرة بيدي. هذه النسخة أغيرها لأعطيها الجو الشامي من وجهة نظري ككاتب للرواية الأصلية. هذا النفس أو الشعور لا يمكن على مترجم أن يشعره مهما بلغت عبقريته ( أو عبقريتها) كما وصف ذلك أمبرتو إيكو في كتاب رائع عن مصاعب الترجمة الموضوعية (Dire quasi la stessa cosa). إذا أنا أضيف من جديد أشياء للرواية أو أحذف ما يبدو لي واضخا جدا لقارئة أو قارئ عربي، ولكن 90 –95 بالمئة يأتي من يد مترجماتي الممتازات.
لاحظت – من جهة أخرى – أن كثرة الكتابة بالعربية تضعف الكتابة بالألمانية. هذا ما اكتشفته من خلال تجربتي دون أن تكون لدي نظرية عنه.

هذه مسألة ملفتة فعلا وتستحق البحث، اليس كذلك؟

نعم،  تعلمت اللغة الألمانية وأنا في الخامسة والعشرين ، خلافا لأبني الذي تعلم الألمانية والعربية منذ طفولته. ربما تكون جذور اللغة الألمانية في دماغي سطحية بعض الشئ. عندما يزورني أصدقاء من دمشق لمدة أسبوع أو أسبوعين وندخل في حوارات طويلة بالعربية، أشعر بعد ذلك بتراجع اللغة الألمانية وأقصد أن لغتي الألمانية تفقد بعض الشئ من النكهة الأدبية والمرونة، ولذا قررت أن أستمر ككاتب بالألمانية. هذا لا يمنع أن أكتب أحيانا بالعربية ، ولكن ليس بشكل رئيسي.

يقال أن الأشخاص الذين يصابون بجلطة بالدماغ يخسرون اللغات الأجنبية تماما، بينما يحتفظ الدماغ بلغة الأم التي يمكن إعادة تنشيطها بسهولة.

سأروي لك نادرة جميلة. عندما أحلُم أن والدتي تتحدث معي في المنام باللغة الآرامية أواصل نومي بهدوء، ولكنني استيقظ مخضوضا إذا تكلمت معي بالألمانية. لماذا؟ سألت طبيبا نفسيا فأجاب: “هذا أمر طبيعي لأنه أول شئ تسمعه في بطن أمك، أي قبل أن ترى النور، هو لغة الأم التي تجسد حنين الأم وقربها منك. “والدتي كانت لا تتحدث سوى الآرامية مع أهل البيت، فقط مع الجيران كانت تتكلم بالعربية.  اللغة الآرامية دخلت إلى عقلي الباطني  منذ ولدت ، ولذا يعتبر العقل الباطني الأمر هجوما عندما تتحدث والدتي معي بغير الآرامية.

من قبيل الطرافة أود أن أوافيك بمعلومة ليست للنشر، وهي أن العلماء اكتشفوا أن عصافير الكنار لا تعشق سوى كنار منطقتها التي لا يتجاوز طولها العشرة كيلومترات ، وبعد البحث المكثف إتضح أن الحب المتبادل لا يتأتى إلا بين الكنار التي تغني بنفس اللهجة العامية.

أرجوك أن تقص هذه المعلومة في المقابلة فهي تجسد تجاوبا وتؤكد البعد العاطفي للغة، خاصة بين الذين تعودوا على سماع لهجات معينة.

نحمل في أنفسنا الصحراء وجرح فلسطين

سأختتم المقابلة بسؤال يتعلق بالقضية الفلسطينية، فالمعروف عنك أنك بذلت جهودا محمودة في هذا الميدان أيضا. من ناحية أخرى يبدو أن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي غير قابل للحل حاليا. هل توقفت عن النشاط في هذا الإطار وهل هناك جدوى من ذلك في هذه المرحلة؟

الواقع إنه نحن العرب – باستثناء جزء بسيط ليس لديه شعور وطني – لا نحمل في انفسنا جزءا من الصحراء فقط التي تؤثر على عقليتنا، بل وجرح فلسطين أيضا…هذا شئ عميق ضربنا في كل  البلدان العربية في الصميم: شعب بكامله يهان، أمام عيون العالم، ويضطهد ولا أحد يقف إلى جانبه، بما في ذلك الحكومات العربية. لسنا كعرب بحاجة لأي تحريض إذاعي أو غير ذلك لكي نشعر بالظلم الذي وقع على الفلسطينيين. المرحلة الأولى من شبابي عشت  في الحي المسيحي وكان حي اللاجئين الفلسطينيين في منتصف منطقتنا وفي نفس الحي كان يعيش اليهود أيضا. كانت هذه المنطقة تجسد التعايش في أجمل صوره. أحيانا يسألني احد الألمان: هل أنت مستعد أن تتحدث مع يهودي. فأجيبه: عليك الإطلاع أولا على حقيقة الأمور قبل أن تطرح علي هذا السؤال.
حاولت فتح الحوار مع جميع الأطراف – كما قام بذلك بعض الفلسطينين الصادقين- ولكن للأسف هناك بعض العرب هنا في المانيا يتحدثون مع العرب عن القتال وعن كرههم لليهود الذي يبلغ حدود العنصرية ومع الألمان بلسان آخر عن السلام حتى يكاد يخطر ببالك أن ترشحهم لجائزة نوبل للسلام. قررت أن أتحدث مع العرب والألمان والإسرائيليين نفس اللغة  وبنفس اللسان واحد لواحد. وكان على الطرف الآخر أن يقرر ما إذا يريد أن يواصل الحوار المباشر الصادق. كان البعض يرفض، وعلى الرغم من ذلك بدأنا في التحرك في مجموعات عمل وندوات. لفترة تعاطفت مع فتح وأخرى مع الجبهة الديمقراطية واستفدت كثيرا من هذا التعاطف فقد تعلمت الكثيرعن ضروب حياة الفلسطينيين في إربد وعمان الخ.
كنت أصاب أحيانا بخيبة أمل لأنك تعمل طويلا في الحوار ثم تأتيك عملية عسكرية او إعتداء يؤدي إلى انهيار ما بنيته خلال سنوات، فعليك ( مثل سيزيفوس المسكين)  أن تبدأ من جديد. نظمت لقاءات لكتاب فلسطينيين وإسرائيليين، أصدرت كتابا في سويسرا ساهم في كتابته كتاب من الطرفين وعنوانه “الخوف في وطني” .كانت هذه الجهود التي قمت بها أقل مما يتوجب على كل عربي أن يقدمه.
ثم أصبت بنوع من اليأس بعد أن تفجرت الصراعات بين الفلسطينيين، فأصبح من الصعب عليك أن تقول كلمة دون ان تؤذي الطرف الآخر. أكره هذا النوع من الصراع، لأنه يهدم الطرفين والقضية الفلسطينية معهما. انسحبت قليلا، ولكن مواقفي واضحة كالشمس: أنا ضد الجدار العازل، ضد نتنياهو العنصري ووزير خارجيته المجرم، هذا مجرم بكل ما في الكلمة من معنى، وضد أيضا تعصب حماس. لن أصمت. تراجعت عن التفاؤل قليلا، ربما لكثرة الهزائم، ربما للصراع بين الأخوة الفلسطينين ، كما كان سابقا بين الأخوة اللبنانيين. من الصعب في المرحلة الراهنة أن يجد الطرفان حلا عادلا تقبل به أغلبية الفلسطينيين وأغلبية الإسرائيليين. القوى الشوفينية الإسرائيلية تستغل الصراع بين الفلسطينيين. وعلى أي حال لن تتوقف المسيرة على جميع المستويات من أجل حل عادل لهذه القضية المعقدة!

………………  انتهت المقابلة ………………..
24.2.2010

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى