صفحات ثقافية

حول كتاب مختصر حياة أوسكار واو المدهشة، لغة الهيسبانيك تفوز بجائزة بوليتزر للمرة الأولى

null
فادي طفيلي
في الصفحات الأولى من روايته »مختصر حياة أوسكار واوْ المدهشة«، وهي صفحات تقديم مكثّفة، يكتب الأميركي من أصل دومينيكاني (دومينيكان ريبابليك) جونوت دياز تفسيرا ً للعنة ميثولوجيّة، أفريقيّة الأصل كما يقدّر، كانت قد سافرتْ مع صرخات العبيد وانتقلت إلى الكاريبي وتبلورت هناك واختُبرت وأثبَتت قدرتها. ومن هناك، من الجزر الهسبانيّة في الكاريبي انتقلت اللعنة شمالاً، وتحديدا ً إلى بيترسون، نيوجيرسي، حيث استقرّت عائلة أوسكار، الفتى السمين الدومينيكاني الأصل، المولع بأكثر »الأنواع الأدبيّة دعوة إلى التأمّل« ومنها كتب القصص المصوّرة، روايات الفروسيّة والسحر، قصص الخيال العلمي، والمولع أيضا ً بالألعاب التي تتطلّب من لاعبيها أن يؤدوا أدوارا ً تمثيليّة تختزن تهويمات كثيرة عن المسرّّات والجنس والأفكار الخارقة.
إنّها تلك اللعنة التي أودت بالأدميرال الأوروبي المستكشف، والذي يعدّ واحدا ًمن أكبر ضحاياها الأوروبيين. والحقّ فإن مجيء الأوروبيين إلى سانتو دومينغو كما إلى عموم الأراضي والجزر الهسبانيّة، وعلى رأسهم الأدميرال المذكور الذي لا اسم له في تقديم الرواية سوى لقبه العسكري البحري ذاك، ساهم في إطلاق اللعنة المذكورة ونشرها. ويمكن، بحسب جونوت دياز، اعتبار سانتو دومينغو، عاصمة الدومينيكان ريبابليك وأكبر مدنها، معبر اللعنة و«أرضها الصفر« (الغراوند زيرو)، إذ بات القادمون والخارجون من تلك المدينة يحملونها.
الدومينيكان ريبابليك، التي يستخدمها دياز في روايته كمرجع أسطوري وتاريخي سياسي يعمل على استحضاره بأساليب مختلفة، في سياق السرد أو بطريقة الهوامش في أسفل الصفحات، هي تلك البلاد الصغيرة الناطقة باللغة الإسبانيّة والتي تحتل نصف الجزيرة الكاريبيّة التي كان كريستوفر كولومبس قد استكشفها.
منذ البداية فإن البلاد المذكورة تعاني من تخمة تاريخيّة تحاول تصريفها، أو هو الراوي يحاول تصريفها عن طريق الأسطورة المشحونة بالشغف وبأقدار الأفراد التي لا حدود لها. ولعلّ من أبرز ما يقدّمه دياز في هذا السياق التصريفي لمنابته الدومينيكانيّة، هو اللغة التي يكتب بها، اللغة ـــ المزيج من الإنكليزيّة بأسلوبها الأميركي ومن الإسبانيّة بأسلوبها المحكي في »الغيتوات« الهيسبانيّة الكاريبيّة في بيترسون، نيوجرسي ـــ أو في شمال جرسي ومانهاتن العليا (أبّر مانهاتن).
واللغة تلك تبدو متفوّقة على الأسطورة في »مختصر حياة أوسكار واوْ المدهشة«. لا بل تبدو اللغة محرّكا ً للأسطورة، كما تبدو العامل الذي رفع عناصر الحكايا والكلام السردي في الرواية إلى مستويات واحدة حدّدتها قوّة المخلوق الثقافي الهجيني، المخلوق الذي ابتكره دياز من جذوره الدومينيكانيّة وحياته الأميركيّة.
عوامل قوّة اللغة وتفوّقها على الأسطورة في رواية دياز جليّة الوضوح. ففي حين اضطرّ الروائيّ إلى توضيح بعض المعطيات التاريخيّة وبعض الأحداث التي شكّلت أسطورة اللعنة في مقدّمة روايته، وهي الأسطورة التي ستبقى تلاحق شخصيّاته الدومينيكانيّة حتّى النهاية، فإنّ الروائي لم يضطرّ أبدا ً إلى توضيح أيّ شيء مرتبط بالجمل والعبارات الإسبانيّة التي استعملها بكثافة في نصّه الروائي الأميركي. حتّى أن الجمل والعبارات الإسبانيّة الكثيرة تلك، والتي لا تخلو منها صفحة واحدة من صفحات رواية »مختصر حياة أوسكار واوْ المدهشة«، تبدو مفهومة بأغلبها في سياق السرد ولا تحتاج إلى تفسير حرفي. ففي مخلوقه اللغويّ ذاك، الذي لا يكفّ عن النبض طيلة الرواية، ثمّة الكثير من الإيحاءات الجسديّة والكثير من الكلمات الطالعة من مشهد مرسوم بتفاصيله، وهي كلّها معطيات تدخل في بنائه اللغويّ الروائيّ الخاص.
والواقع فإن جائزة البوليتزر الأدبيّة الأميركيّة المرموقة، التي منحت أخيراًً لدياز في روايته الأولى الصادرة في الخريف الحالي، »مختصر حياة أوسكار واوْ المدهشة« (نشر قبلها مجموعة قصص قصيرة في عام 1996 بعنوان »Drown«) تشير بلا شكّ إلى أهميّة حضور هذه اللغة التي كتب بها الروائي الأميركي من أصل دومينيكاني روايته، في المشهد الثقافي الأميركي. لا بل ّ أن مراجعة الأسماء الأدبيّة التي حازت على جائزة البوليتزر خلال الأعوام العشرة الأخيرة، لا بل منذ مطلع التسعينات، من جون أبدايك (1991) إلى جاين سمايلي (1992)، ففليب روث (1998) إلى جيفري أوجينيدس (2003، الكاتب هو أميركي من أصل يوناني) وصولا ً إلى إدوارد جونز (2004، أميركي أسود) فـ كورماك ماكارثي (2007)، تشير إلى أن البوليتزر هذا العام قد منحت لـ »هيسباني« أميركي للمرّة الأولى. وفي هذا الأمر بالتأكيد اعتراف وتكريس للغة أدبيّة أميركيّة جديدة وشديدة التمايز، لغة بدأت تخرج من »غيتوات« نيوجرسي، نورث جرسي، أبّر مانهاتن، لوس أنجيليس، وغيرها وغيرها من أمكنة عيش ذوي الأصول الهيسبانيّة في الولايات المتّحدة، إلى الفضاء الأدبي الأميركي ـــ العالمي الشاسع.
في روائيّة جونوت دياز أيضاً، وفي ميله الأسطوري خلالها الذي لا يلبث أن ينحو فيه نحو الشاعريّة الواقعيّة للشارع الأميركي، ثمّة حرفنة حاذقة في دمج العناصر الدومينيكانيّة في شخصيّات روايته، بعناصر الحياة الأميركيّة الراهنة. »فما هو أكثر خيالا ً علميّا ً من سانتو دومينغو؟«، يتساءل أوسكار واوْ، بطل الرواية وابن العائلة الدومينيكانيّة المهاجرة الشغوف بالكتابة والأدب وغير المنفصل عن ماضي عائلته.
أوسكار واوْ هو بطل أسطوري »منزلي«، إن جاز القول. بطل خارج من ألعاب الفيديو ومن عالمها الافتراضي الشاسع، وله جسد »الجانك فوود« الأميركي، الجسد السمين الثقيل. ولأوسكار واوْ هواجس كتابة الخيال العلمي، وأحلام أن يصبح »تولكيان الدومينيكاني«، إذ أن جي ر ر تولكيان (1892 – 1973) في الأصل هو الأديب البريطاني الذي أبدع قصّتي »ذا هوبت« و«ذا لورد أوف ذا رينغز« الأسطوريّتين عن الحياة في »الأرض الوسيطة«. والفتى، بطل الرواية، هو واحد من أولئك الأولاد الذين يرتعدون جذلا ً خلال حصّة التمارين المدرسيّة، والذين أنهوا سنواتهم المدرسيّة بعذريّة لم تبارحهم.
بمساعدة شقيقته الجميلة لولا، الفتاة المولعة بثقافة »البانك« ونمط الحياة التي تفترضها تلك الثقافة، والتي تنخرط بقوّة في حياة جرسي القاسية، كما بمساعدة صديق لولا، يونيور، يحاول أوسكار جاهدا ً تخفيض وزنه واستعادة الشكل المعتدل لجسمه، فيبدأ باتّباع الحمية وممارسة التمارين والخروج من غرفته واكتشاف العالم.
يبذل أوسكار جهودا ً كبيرة في مسعاه ذاك، لكنّه سرعان ما يطلب من شقيقته وصديقهما المشترك يونيور، أن يتركاه وشأنه، حيث يعود إلى الكتابة وإلى أحلام اليقظة وإلى هواجس الانتحار، الأمر الذي يلمح فيه يونيور ملامح لعنة عائليّة لم ينج منها أحد من أقارب أوسكار الذين يعرفهم.
في هذا السياق، وبصوت راويين هما أوسكار وشقيقته لولا، تبرز قصّة والدتهما »بيلي«، المرأة الفظّة و ذات السيرة القاسية والمؤلمة. فوالد »بيلي« الذي كان ثرياً في يوم ما، كان قد عذّب وقتل على يد رجال الديكتاتور الدومينيكاني العنيف والمرعب رافايل تروجيللو في الخمسينات، كما اختفت والدتها إثر ذلك وقتلت شقيقتيها بحادثين غامضين. السيرة المأسويّة للوالدة المذكورة تتتابع فصولاًً، حيث وبعد أن يتمّ إنقاذها من قبل قريب لوالدها، ترتبط بعلاقة مع أحد رجال العصابات التابعة للديكتاتور تروجيللو، وهي علاقة كادت أن تنهي حياتها بطرقة مريعة، لو لم تجد السيّدة طريقها للجوء إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة حيث تتتابع سلسلة اللعنات في أحد غيتوات نيوجرسي.
والد أوسكار ولولا، الدومينيكاني أيضاًً، التقى والدتهما »بيلي« في نيوجرسي، ولم يلبث معها أكثر من سنتين. في عملها المرهق في تنظيف البيوت، في لغتها النزقة وفي قسوتها وعلاقتها الصاخبة مع ابنتها لولا، ومع الإيغال الكامل لأوسكار في عالمه الخيالي وفي جسمه الضخم، تشكّل »بيلي« ذلك الجذع الدومينيكاني الباقي، الذي يرخي بظلاله على اللغة والمشاعر وعلى سيرة الأبناء حيث هم.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى