صفحات العالم

هل يتمكن أوباما من التوازن راقصاً على حبلين؟

نهلة الشهال
منظر أوباما المتلبد في وست بوينت كان مؤثراً. ودَّ بالتأكيد لو لم يقف هذا الموقف. ناقش وفكّر على مدى أشهر وتوصل إلى قرار صعب هو إرسال المزيد من الجنود إلى أفغانستان. أحاط تبرير قراره هذا بكل التحفظات الممكنة، قال انه غير فرح به، ولم يتخذه بخفة ولا بسهولة، وذكّر بأنه عارض الحرب على العراق، وقال إنه لولا وجود تهديد للأمن القومي الأميركي لأمر بإعادة الجنود غداً إلى بلادهم، وانه ينهي حرباً ولا يبدأها… ولكن كل تلك الاستدراكات لم تمنع وليم كريستول، أحد أكثر كتّاب المحافظين الجدد شراسة، من تحية «رئيس الحرب»، وهي تسمية كانت تطلق، مديحاً، على بوش من قبل أنصاره.
يراهن أوباما على قدرة استراتيجية دقيقة مضادة للتمرد، بلور عناصرها الجنرال ديفيد بيتريوس بالدرجة الأولى، وباتت تدرَّس كعلم، على التوصل إلى نتائج في مهلة سنة ونصف السنة. وهذا تحدٍ هائل. ففي الخطاب نفسه، التزم الرئيس بدء سحب القوات عام 2011، ممارساً تمريناً صعباً للغاية، يقوم على الاقتحام والانكفاء في آن معاً. وهنا أيضاً، أحاط إعلانه بكل التحفظات الممكنة، قائلاً بوضوح إنها مهمة محدودة، تهدف إلى القضاء على بؤر القاعدة فحسب، ولا علاقة لها بمصير أفغانستان ومهمات بنائه كبلد بعد ذلك.
ولكن، هل مطاردة «القاعدة» هي مهمة مئة ألف جندي في الميدان؟ الجيش الأميركي بقضه وقضيضه، مسنوداً من حلفائه في الناتو، يطارد في جبال وعرة جرداء بضع مئات من الأفراد؟ come on. لم تعد القاعدة ما كانت يوم حدث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر). تبددت وتشتتت، وباتت أشرطة الفيديو التي يجود بها أيمن الظواهري بين الحين والآخر هي نشاطها الوحيد. وربما كان القضاء على الرجل وبضع مئات ممن ما زالوا يحيطون به، أو التمكن من إعلان مصير أسامة بن لادن، المتأرجح بين حي وميت، إنجازاً رمزياً ضرورياً لواشنطن، يختتم به أوباما ولايته الأولى ويترشح قوياً لثانية. ولكن هل يتطلب ذلك إرسال مزيد من الجنود؟ هل يشكل ذلك فرقاً بالنسبة لأولئك الموجودين أصلاً؟ أم أن وظيفة القرار هي التعويض الرمزي عن فشل الخطة الأميركية حتى الآن، باعتراف الرئيس نفسه الذي تكلم عن تردي الحالة في أفغانستان منذ سنوات، ولكنْ قائلاً في الجملة نفسها إنها «لم تخسر بعد»؟ أما تناقضات مواقف وأقوال الرئيس، فهي جزء من هذه البهلوانية التي يمارسها، ساعياً للإمساك بطرفي العصا معاً، وآملاً إرضاء الجميع. وهذا ليس لب الموضوع، وإن لم يعكس مجرد أسلوب للرئيس، (ولكل رئيس طريقته في الرواية)، بل هو تعبير عن صعوبة لمّ إرث بوش، وعن وجود مراكز قوى نافذة لا تترك أوباما طليقاً. فلم تنته بعد رزمة التسويات التي اضطر إلى إجرائها بخصوص الضمان الصحي العام، وهو، مع الانسحاب من الحروب، الركيزة الأخرى للخطاب الأوبامي.
هل ينطلق نقد خطة الرئيس من قناعة بأن «القاعدة» اضمحلت، كما أشار العديد من الدراسات، أو أنها لم تعد تشكل تهديداً للولايات المتحدة وحلفائها، وهو ما يعتد بعكسه الرئيس الأميركي لتبرير قراره؟ بل، وبالأساس، ومع الإقرار بالوهن الذي أصاب «القاعدة»، فقد تغيّرت ركائز فعلها وأشكاله، وباتت اسماً لمنتَج، تماماً مثل كوكاكولا، يمكن لمن شاء في أركان الأرض الأربعة استلهامه والعمل وفق ما يوحي به. هل زيادة القوات تكافح انتشار ما بات فكرة ونموذجاً في نهاية المطاف؟ بالتأكيد لا. هل تمكن معالجة تردي الوضع في باكستان، ما اعترف الرئيس بحصوله، في إشارة إلى موطن القلق الفعلي اليوم؟ أيضاً لا. فكل هذه تحتاج إلى مقاربات من نوع مختلف تماماً، تغلّب السياسي، وتضع في التطبيق الكلام الجميل لأوباما في القاهرة عن خروج الولايات المتحدة من حقبة «صراع الحضارات» وتخليها عن فكرة «الحرب الشاملة»… وإن كان ذلك لا يكفي لإخماد أحقاد جديدة ولّدها احتلال كل من العراق وأفغانستان، والدمار الهائل والأذى المديد الذي نتج منهما، وإن كان ذلك يطرح سؤالاً حول ما الذي، يا ترى، ستقوم به واشنطن ومعها الناتو، لو أعلنت مثلاً إمارة قاعدية في إحدى السلطنات السابقة لليمن الجنوبي، أو في أحد أطراف الصومال…؟.
ستكلف الخطة الأفغانية مئة بليون دولار في السنة. هذا في بلد لم يعد يعيش في بحبوحة، وهو أقل ما يمكن أن يقال حيث تضاعف عشر مرات في عام حجم من فقدوا منازلهم وباتوا مشردين، بينما ارتفاع الكلفة هي حجة معارضي اعتماد الضمان الصحي العام. وهذا الأخير، يا للعار، مفقود في بلد يعتد بأنه رمز الحضارة الحديثة اليوم بينما يترك فقراءه، بل أبناء طبقاته الوسطى، الملونة والبيضاء على السواء، تموت على أبواب المستشفيات. ولو أن الحجة كاذبة، والرفض يأتي من احتكارات التأمينات الصحية الخاصة العملاقة، ذات الأرباح الفلكية، والمتنفذة إلى درجة القدرة على إنجاح أو إسقاط مرشحين إلى الكونغرس حيث تمارس مهمة اللوبي الذي تتقنه جداً. إنها خيارات. ولا يمكن لأوباما التعامل مع هذه الخيارات وفق منطق مواءمة الذئب والنعجة.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى