الدور التركي في المنطقة

هل تبتعد تركيا عن الغرب حقاً ؟

بولنت كينج
قتلت إسرائيل مدنيين طوال 22 يوماً، والعالم بأكمله شاهد على ذلك. وكانت الحصيلة مرتفعة: 1350 قتيلاً وستة آلاف جريح. وكان عدد كبير من القتلى والمصابين أولاداً وأطفالاً (نحو 430 طفلاً) ونساء. لم تقتل إسرائيل وحسب بل عاثت أيضاً دماراً في غزة بعدما كانت جعلت العيش فيها مستحيلاً من خلال الحظر والحصار البري والبحري والجوي، بهدف القضاء على آمال الفلسطينيين بالمستقبل.
تسمّي إسرائيل بغطرسة مماثلة ما فعلته في غزة “حرباً”. وتحمّل حركة “حماس” كامل المسؤولية. ومن الواضح أنها تلقي أيضاً اللوم جماعياً على غزة لأنها انتخبت “حماس” حكومة شرعية لها. ما يعوّل عليه الإسرائيليون هو منطق شديد القسوة: إذا كانت هذه الأمّة تدعم “حماس”، فهي تستحق إذاً القتل الجماعي، بما في ذلك قتل النساء والأولاد.
بعد ممارسة الإرهاب المدعوم من الدولة في صبرا وشاتيلا وقانا ولبنان ورام الله في الماضي وفي غزة في الماضي القريب، لدى إسرائيل نهم لا يشبعه العنف والاستبداد وحمام الدم. تقتل وتحرق وتدمّر، لكنها تحاول أيضاً وبصفاقة تحميل شعب آخر مسؤولية ممارساتها. لسوء الحظ، تتحرّك آليات البروباغندا الدولية بسهولة كبيرة بإشارة من إسرائيل ومجموعات اللوبي اليهودية.
وهذا ما يحصل مع تركيا. صحيح أن الرد الأكبر على مجازر غزة صدر عن الشعب والحكومة التركيين، لكن كيف عسانا نتعاطى مع الزعم بأن تركيا تبتعد بسرعة عن الغرب؟ يمكننا أن نفهم كيف نجحت الدولة الإسرائيلية التي استغلّت بوقاحة صورة الضحية التي صنعتها لنفسها بعد المحرقة، في ترويع العالم الغربي الذي لا يمكن إنكار حصّته في هذا الاستبداد التاريخي. لكن من الواضح أنها فشلت في قمع تركيا والأمة التركية اللذين لا يحتوي ماضيهما على أي أثر للعداء للسامية. لهذا السبب تسطيع تركيا أن تعبّر عن ردود فعلها ضد الاستبداد والإجحاف والقسوة الإسرائيلية بضمير مرتاح وثقة ديموقراطية بالنفس لم نشهدهما منذ بعض الوقت على الساحة الدولية.
نعرف أنه سيكون لرد الفعل هذا ثمن. ونعرف أيضاً أن إسرائيل واليهود بارعون في إرغام الشعوب والبلدان على دفع هذا الثمن. وإليكم مثالاً عن الأسلوب الذي يفعلون به ذلك: تُصوِّر مجموعات اللوبي الإسرائيلية واليهودية بوقاحة وكذب كبيرَين، تركيا التي هي الآن البلد الوحيد الذي يضع سياسات موجَّهة نحو الأمن والاستقرار في المنطقة، بأنها “تبتعد بسرعة عن الغرب”. لمجرد أنّ تركيا لا تغضّ النظر عن الفظائع الإسرائيلية، يقولون إنها اختارت مكانها إلى جانب سوريا وإيران.
من الطبيعي جداً أن تكون لتركيا علاقات جيدة مع إيران وسوريا تماماً كالعلاقات التي تجمعها ببلدان مجاورة أخرى. أليس تحريفاً كبيراً للحقيقة اختصار كل العلاقات الخارجية لبلد لطالما سافر في اتّجاه الغرب، بهذين البلدين فقط؟ هل يعني ذلك أن إسرائيل التي ترتكب مختلف أنواع الاستبداد والظلم والعنف اللاإنساني هي دولة لا تُمَس؟ فضلاً عن ذلك، هل يحق لإسرائيل أن تحتكر تصنيف البلدان بأنها موالية للغرب أو مناهضة له؟ كيف لها أن تفترض أن باستطاعتها أن تنتحل لنفسها توزيع هذا اللقب أو حجبه؟ أين المنطق في ذلك؟ إذا تصرّفت بحسب ما تقتضيه المصالح الإسرائيلية، فأنت موالٍ للغرب، وإذا انتقدتها، فأنت مناهض للغرب.
لا تتوقّف وقاحة إسرائيل عند هذا الحد. فهي تنبع في نهاية الأمر من تقليد لا يعرف حدوداً للابتزاز. ادّعت إسرائيل أولاً أن تركيا سوف تخسر دعم اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة إذا لم تتوقّف عن انتقاد إسرائيل. والآن تهدّد بأن تركيا سوف تخسر دور الوساطة. غير أن إسرائيل هي المستفيد الأول من دور الوساطة أو التسهيل الذي تؤدّيه تركيا. إذا لمّحت تركيا إلى أنها قد تتوقّف عن تأدية دور الوسيط بين سوريا أو باكستان من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، فسوف يشكّل ذلك تهديداً كبيراً جداً لإسرائيل. وليست هذه الحجّة بأن تركيا قد تخسر دورها البنّاء سوى خير مثال عن الطريقة التي تحرّف بها إسرائيل وأنصارها الأمور بصفاقة. ولا يتغيّر هذا الواقع حتى ولو كان البعض في تركيا والذي لا يتشاطر المشاعر نفسها مع مجتمعه، قد خُدِع بهذا التحريف للحقائق.
يجب أن أؤكّد من جديد لأصدقائنا الغربيين أن تركيا لا تتحرّك في أي اتجاه سوى في اتجاه الغرب. جلّ ما في الأمر أن تركيا والأتراك يتصرّفون انطلاقاً من إدراكهم بأنهم كائنات بشرية، ويتوقّعون من أصدقائهم الغربيين أن يعتمدوا موقفاً ينسجم مع الكرامة البشرية.
صحيفة “زمان” التركية
ترجمة نسرين ناضر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى