صفحات سورية

المعارضات العربية و’اضعاف الشعور القومي’

null
فراس كيلاني
بالتزامن مع انقضاء محكومية المعارض السياسي السوري ميشال كيلو لثلاث سنوات بالتمام والكمال بتهمة ‘إضعاف الشعور القومي’، نشر المفكر القومي العربي الدكتور عزمي بشارة على موقع ‘الجزيرة نت’ مقالاً بعنوان ‘المعارضة وتقديم المشورة’، سخر فيه مما أسماه ‘ميل بعض المعارضات العربية لأن تنتقد سياسة الأنظمة بالادعاء أن خط هذه الأنظمة لا يخدم مصلحتها، وكأنها تعرف مصلحة الأنظمة أكثر منها’. وبدا المقال كأنه رد متأخر لثمانية أعوام على مقال كان نشره ميشال كيلو في صحيفة ‘النهار’ في 2672009 بعنوان: ‘عزمي بشارة حين ينتقد من لا يعرفهم’، تناول فيه حلقة من برنامج ‘حوار العمر’ الذي كانت تقدمه جيزيل خوري على قناة ‘إل بي سي’، خصصت آنذاك لمراجعة العام الأول من فترة حكم الرئيس بشار الأسد، وانتقد فيها بشارة أداء المعارضة السورية مقسماً إياهم إلى ‘أعداء للديمقراطية يتاجرون بها، وانصار لها يجهلون أسس العمل السياسي’. فيما أخذ عليه ميشيل أنه ‘استعار تهماً وجهها بعض رموز السلطة السورية إلى حركة المثقفين التي طالبت بالحريات العامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية قبل نيف وثلاثين عاماً وتطالب اليوم بالشفافية ودولة الحق والقانون’.
وبالعودة لمقال عزمي بشارة على ‘الجزيرة نت’، تبدو لهجة السخرية من المعارضات العربية طاغية على المقال على اعتبار أن ما تنتجه هو ‘خطاب سياسي نقدي للنظام، ولكنه يقدم إليه كرزمة من النصائح’، وبأنها، في نقدها لأداء النظام فيما يتعلق بعلاقاته العربية ‘تميل إلى محاولة التوفيق، كأن مهمتها التوحيد بين أنظمة وليس بين الشعوب’،وبأن المعارضات ‘القومية بشكل خاص’ تتصرف ‘بوصاية مفتعلة.. تأخذ بيد النظام أو الملك أو الرئيس وترشده للطريق الصواب، وكأنه قاصر وهي ناضجة’، وان كل ذلك بحسب بشارة، يجهض ‘مهمتها السياسية والاجتماعية منذ البداية’ والمقصود بالطبع سعيها للوصول إلى السلطة.
واما لماذا بدا المقال وكأنه رد على مقالة ميشال الآنفة الذكر، فلأن الأخير أكد في معرض رده على بشارة حينها أن المعارضة السورية ‘لم تطالب بتبادلية السلطة أو بنظام تمثيلي انتخابي لمعرفتنا بحساسية الوضع السوري، وإيماننا بضرورة قيام الإصلاح على تحول تدريجي مدروس وبطيء يتوافق عليه المجتمع والسلطة والقوى السياسية..’، ولم يتعد ميشال هذا السقف، لا هو ولا غيره ممن ارتفعت أصواتهم داخل سورية، إن عبر المنتديات التي نشطت بداية العام 2000، أو عبر وسائل الإعلام التي شكلت المتنفس الوحيد لهم آنذاك.
ولا يبدو أن ثمة داع للتذكير هنا بكل إسهامات ميشال في تقديم ‘رزم’ النصائح، وليس مجرد رزمة واحدة، ولكن ليس لـ’مصلحة النظام’ كما يؤكد عزمي بشارة في مقالته غير مرة، وإنما لمصلحة البلد أولاً وأخيراً، إن كان فيما يتعلق بالسياسة الداخلية أو الخارجية، خصوصاً في ظل الظروف التي كانت تمر بها البلاد آنذاك.
ورغم عدم تسميته لمعارضة عربية بعينها، فإن عزمي بشارة، الذي يدرك أكثر من غيره حالة التماهي التي لا تتيح اي تمايز بين أنظمة الحكم الشمولية العربية والدول التي تحكم، يصر على أن المعارضة تقدم نصائحها لمصلحة النظام وليس لمصلحة البلد، ما يعني برأيه أن المعارضة تجعل مصلحة النظام ‘مسلمة وطنية فوق النقاش’.
محاكمة غريبة من نوعها تلك التي يجريها صاحب أهم الدراسات في المكتبة العربية عن ‘المجتمع المدني العربي’، والذي يدرك جيداً، نظرياً وعلى ارض الواقع، ضآلة المساحة التي تتيحها الأنظمة الشمولية على اختلاف أنواعها للمعارضات، لتقدم حتى النصائح، فكيف بأن تتجرأ على تقديم مشاريع بدائل..
يدعو عزمي بشارة المعارضة لكشف التباين بين ‘مصلحة النظام ومصلحة البلد ومكانة البلد وموقعه’ كما تراها من موقعها، وأن المعارضة ‘تحسن صنعاً إذا انطلقت في نقدها من مصلحة البلد والشعب وليس من مصلحة النظام الذي تعارض’، وأن ‘كشف هذا الواقع والسبيل إلى تغييره هو دور النقد السياسي المعارض فعلاً من منطلقات مبدئية’، هكذا بالحرف الواحد..
دعوة غريبة، لا بل سوريالية، لكن الأدهى أن بشارة يقدمها وكأنها اكتشاف هام على المعارضات العربية تلقفه والعمل وفقه، متجاهلاً إرثا يمتد لأكثر من ستة عقود من السجون والمنافي التي لا تزال حتى اليوم تضيق بالمعارضين العرب من أقصى المغرب العربي وصولاً للبحرين، نتيجة المنطلقات المبدئية التي ظلوا يتمسكون بها، حين كان لا يزال يعيش هو داخل الخط الأخضر، مكرساً جل وقته لفضح زيف إدعاءات الديمقراطية الإسرائيلية، التي تحلم المعارضات العربية بجزء يسير منها، على عللها مجتمعة.
ولإضفاء الطابع الأكاديمي على مقالته، يعقد بشارة مقارنة بين عمل المعارضة في الدول الديمقراطية ونظيرتها في الدول الشمولية، يخرج فيها بنتائج لا تقل تعسفاً. إذ يرى أنه في الدول الديمقراطية ثمة حالات مختلفة لعمل المعارضة يقسمها إلى :
-أحزاب المعارضة تقدم برنامجاً يتعارض مع سياسة الحكومة لا بد من الوصول للسلطة لتنفيذه، إما بالمشاركة بالحكم أو بانتزاعه.
-حركات احتجاج وجماعات ضغط تعمل على محاولة تحصيل مطالب أو التأثير على النظام الحاكم دون الوصول للحكم.
-أحزاب سياسية طرفية هامشية تسعى للوصول إلى السلطة من خارج قواعد اللعبة.
وتتخلى هذه المسحة الأكاديمية عن كل مقوماتها لدى الانتقال للحديث عن الوضع العربي، إذ لا يبين بشارة ما هو الفارق بين ‘برامج’ أحزاب المعارضة في الدول الديمقراطية و’رزم النصائح’ التي تقدمها المعارضات العربية التي لا تستطيع أن تنتظم في أحزاب معارضة علنية تقدم من خلالها برامجها الانتخابية، فتقدم برامجها ـ رزمها- عبر وسائل الإعلام على اعتبارها ضرورات لا بد منها لحفظ البلاد -الأنظمة، وليست مشكلة المعارضة أو المثقفين العرب إذا ما بدت هذه ‘الرزم’ مقدمة للأنظمة على اعتبار الأخيرة تعتبر نفسها والأوطان سيان.
وللتوضيح يبدو مثال الانتخابات الأمريكية الأخيرة حاضراً بقوة هنا، خصوصاً وأنه تم خلالها انتقال الإدارة من الحزب الجمهوري إلى الديمقراطي.
فكما هو معلوم منذ بدء السباق الانتخابي على مستوى الولايات، يقدم كل مرشح برنامجه الانتخابي الذي يتضمن، في حال كان المرشح ينتمي للحزب الذي يسعى للوصول إلى السلطة، كشف كل عيوب ونواقص سياسة الحزب المنافس، وهو ما دأب كل المرشحين الديمقراطيين على عمله قبل أن يقدموا برنامجهم الانتخابي الذي سيقومون بتنفيذه في حال تسلمهم مفاتيح البيت الأبيض.
لماذا لم يتم اعتبار هذه البرامج ‘رزمة نصائح’ لقادة الحزب الجمهوري الذين كانوا يعملون جاهدين للاحتفاظ بالسلطة؟! وما الفارق بينها وبين تلك ‘الرزم’ التي تقدمها المعارضات العربية عبر وسائل الإعلام على اختلاف أشكالها، إلا إذا كان بشارة مطلعاً على ‘رزم’ أخرى نجهلها!!
الفارق الذي يسجله بشارة يتمثل في أن المعارضات العربية قبلت أن تضع نفسها تحت جناح الأنظمة الحاكمة، لا بل أن تعمل ‘مستشارة’ لها؟! دون أن يقدم مثالاً واحداً. ويأخذ عليها أنها باتت ‘تفقد بالتدريج صفتها الحزبية وتسيسها، فتعيش بقوة الاستمرارية منتظرة فرصة لن تأتي لأنها تنازلت في بنيتها وفكرها وبرنامجها، وعبر شروط اللعبة التي قبلتها، عن السعي للحكم’، ولأنها تقدم ما تقدمه للحفاظ على مصلحة النظام وليس البلد؟!!
قد يبدو الحديث هنا صحيحاً إذا ما تعلق الأمر ببعض الأحزاب الديكوراتية التي تحيط الأنظمة الشمولية نفسها بها، لكن عزمي بشارة لا يتحدث عن هؤلاء وإنما عن المعارضة العربية بشكل عام، وفي بعض الفقرات عن المعارضة في الدول غير الديمقراطية عموماً.
وربما كانت ذروة التناقض التي يتوج بها بشارة مقالته كنتيجة هي قوله أن ‘المعارضة المؤبدة لم تثبت أنها قادرة على الحكم، ناهيك بمنح المشورة لمن يحكم’.
لكن استاذ الفلسفة يتجاهل ان العكس لم يثبت أيضاً، وفق كل قوانين المنطق المعروفة، وفي انتظار ذلك لا تلوح في الأفق أي إمكانية لإثبات صحة أي من النتيجتين بالاعتماد على المقدمات المتاحة حتى اليوم على الأقل.
المقولة السابقة عطفها بشارة على ما اعتبره ‘مسلمة’ تتمثل في أن ‘نظاماً يحكم بلده منذ عقود يعرف مصلحته، والدليل قدرته على حكمه فترة طويلة بهذا الشكل’.
فإذا ما أخذنا بصحة ‘المسلمة’ الأخرى بشأن المعارضة المؤبدة كما يريد بشارة، فإن التغيير بات في حكم المستحيل، وهو الأمر الذي يصفه المفكر السوري الدكتور طيب تيزيني بـ’استحكام البنية وانغلاقها’ واستعصائها على التغيير من الداخل، ما استدعى تدخلاً جاء على ظهر الدبابة الأمريكية في الحالة العراقية.
من المؤكد أن ليس هذا ما يدعو إليه المفكر القومي العربي عزمي بشارة، لكن مقالته في النهاية تصب في هذا الاتجاه، إلا إذا كان يعول حقاً على نجاح المعارضات العربية في إحداث التغيير إن هي التزمت بـ’منطلقاتها المبدئية’ و’الكف عن تقديم النصائح للنظام الحاكم’! أثارت آراء عزمي بشارة في عمل المعارضات العربية ردود فعل كبيرة في أوساط المثقفين المعارضين، حتى قبل أن يغادر الناصرة ليحل ضيفاً على بعض الدول العربية بوقت طويل. لكن ما يدعو للتساؤل حقاً هو لماذا اقتصرت إسهاماته النقدية في الواقع السياسي العربي على أداء هذه المعارضات، فيما لم نقرأ له بحثاً واحداً يتحدث فيه عن أي نظام حكم عربي، اللهم باستثناء ما دأب على تقديمه على صعيد انتقاد السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله.
يبقى السؤال معلقاً في خضم هذا كله: لماذ كتب بشارة هذا المقال؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى