اسرائيلبرهان غليونصفحات العالمقضية فلسطين

مفاوضات السلام التي تضمر الحرب

برهان غليون
لا أدري أي منطق سياسي أملى على وزراء الخارجية العرب موقفهم الجديد في إعادة إطلاق المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، بعد أشهر من تأكيد رؤساء الدول العربية عدم التراجع عن شرط التجميد الكامل للاستيطان ووقف أعمال التهويد المستمرة للقدس والأراضي العربية الأخرى، بما فيهم رئيس السلطة الوطنية محمود عباس.

لم تكن خيبة العرب ثمرة رد فعل ظرفي على سلوك إسرائيلي جديد، ولكنها كانت ثمرة خبرة عقدين طويلين من المفاوضات، التي استغلها الإسرائيليون لتوسيع دائرة استيطانهم، وتعزيز سيطرتهم على الأراضي المحتلة، وإنهاك مقاومة الشعوب العربية، وتقسيمها، وزرع الفتنة بين قادتها وشعوبها.
وليست الخيبة هذه حكرا على العرب وحدهم. فلم يبق في العالم كله -حتى داخل إسرائيل- مراقب محايد واحد يؤمن بأن حكومة نتنياهو، حتى لا نقول جميع القوى السياسية في إسرائيل، تبحث بالفعل عن تسوية، مهما كان شكلها، أو أنها لا تستخدم المفاوضات للتغطية على عملية التوسيع المستمر والعلني للاستيطان وتهويد الأراضي العربية المحتلة، بانتظار الوقت الذي يمكن فيه وضع العرب أمام الأمر الواقع، وإجبارهم على التسليم بواقع إسرائيل الكبرى، ربما، كما يحلم الأكثر تطرفا في إسرائيل، خلال ولاية نتنياهو نفسه. وهذا ما كان قد فهمه وعبر عنه المسؤولون العرب الذين لم يملوا من التأكيد على غياب إرادة السلام لدى الطرف الآخر.
وبالمثل، لم يعد هناك مراقب سياسي محايد، بما في ذلك داخل الحزب الديمقراطي الحاكم في واشنطن، يعتقد بأن إدارة أوباما لا تزال -بعد الصفعة المهينة التي وجهتها لها حكومة نتنياهو برفضها الانصياع إلى قرار التجميد الكامل للاستيطان- قادرة على أن تقود مفاوضات سلام ناجعة ومثمرة في الشرق الأوسط تقود إلى إقامة تلك الدولة العتيدة، القابلة للحياة والمتواصلة الأراضي، التي تحدث عنها الرئيس الأميركي في عهد تفاؤله، واحتفائه بانتخابه رئيسا جديدا بالمعنى السياسي للكلمة، للولايات المتحدة الأميركية.
فما الذي بقي للاختبار في النوايا السلمية الإسرائيلية؟ وما صدقية الضمانات الأميركية التي يشير وزراء الخارجية العرب إليها بعد تخاذل واشنطن وعودتها المذلة عن قراراتها أمام صمود حكومة نتنياهو واستمرارها في أعمال الاستفزاز التي لا تهدف إلى شيء آخر سوى تقويض المفاوضات وتفجيرها قبل أن تبدأ؟
وإذا كان لا بد من العودة لمجلس الأمن، فلماذا الانتظار أربعة أشهر جديدة وإعطاء تل أبيب الفرصة لافتعال أحداث عنف ربما تقضي على ما تراكم للقضية الفلسطينية من رصيد عالمي حتى الآن؟ ثم ما قيمة نقل القضية إلى مجلس الأمن، الآن أو بعد أشهر، إذا لم يكن هناك تفاهم مع بقية الدول الأعضاء على خطة واضحة، وعلى رأسها الدول أعضاء الرباعية الشهيرة التي لم تحرك ساكنا ضد مشاريع الاستيطان الإسرائيلي وتقويض عملية السلام خلال السنوات الطويلة الماضية؟ وما هي الضمانات التي حصل عليها العرب كي لا تستخدم واشنطن حق النقض في هذا المجلس؟ وحتى لو تحقق كل ذلك كما يشتهي العرب، ما قيمة موقف إدانة جديد لإسرائيل في مجلس الأمن إذا لم يكن مشفوعا بالمادة السابعة التي تفرض التطبيق بالقوة للقرارات الدولية؟ وفي هذه الحالة من يستطيع أن يفرض على الولايات المتحدة وغيرها من الدول الكبرى استخدام قواتها لفرض السلام أو اقتسام الأرض ونزع الاحتلال عن فلسطين؟ هل هناك من يفكر فعلا أم أن كسب الوقت هو الهدف الوحيد المشترك بين الحكومات العربية والقيادة الإسرائيلية، الأولى لتجنب فكرة المواجهة والثانية لابتلاع المزيد من الأرض وفرض الأمر الواقع.
يطرح أصحاب القرار الجديد الذي جمع أغلبية عربية كاسحة عدة حجج ومبررات وذرائع لتبرير موقفهم، أو بالأحرى التراجع عن الموقف المتشدد السابق. من ذلك أن العرب والفلسطينيين تعرضوا ويتعرضون إلى ضغوط شديدة من قبل الأميركيين والدول الغربية عامة، وأن السلطة الفلسطينية التي تعيش، وشعبها كذلك إلى حد كبير، على المنح والعطايا والمساعدات الدولية، لم تتوقف عن تلقي التهديدات بوقف هذه المعونات إذا لم تذعن لإرادة الدول المانحة.
فليس لهذه المعونات غاية أخرى في نظر مانحيها سوى تشجيع عملية السلام، وأن رفض الفلسطينيين الدخول في مفاوضات سلام، مهما كانت شروطها، يعني إخلالهم بالعقد الذي يبرر مساعدتهم وإعطاء الحق للمانحين بوقف مد العون لهم. وفي هذه الحالة لن تتمكن السلطة الفلسطينية حتى من دفع مرتبات موظفيها، أما الشعب الفلسطيني الذي يفتقر لأي اقتصاد منتج فلن يجد ما يقوت أطفاله.
ومنها، أن إجهاض مبادرة أوباما التي لم يكن العرب يحلمون بمبادرة أفضل منها، والاعتراف بفشل المفاوضات السياسية، يضع العرب أمام لحظة حقيقة استثنائية ويفتح الباب على المجهول. وما لم يعثروا على خيار يسمح لهم بمواجهة الضغوط الداخلية والإقليمية المتفاقمة، سيجدون أنفسهم بسرعة أمام موقف يصعب احتماله، من تهلهل السمعة وانهيار الصدقية السياسية.
من هنا يبدو تجميد عملية السلام -وهو الاسم التجميلي لنكتة المفاوضات المستمرة منذ عقدين- أخطر في نظر الكثير من القادة العرب، من عدم تجميد الاستيطان، بل ربما من استمرار الاحتلال. فهذا التجميد يهدد -في غياب أي بديل آخر لمواجهة البعبع الإسرائيلي- بخلق فراغ كبير ستدخل منه لا محالة رياح حركات التطرف القومي الديني العاتية، وتستغله بعض الدول المعادية أو المنافسة لتوسيع دائرة نفوذها وتأثيرها داخل المجتمعات العربية وضد مصالحها.
وبالنسبة للعديد من الحكومات العربية، لا تنبع قيمة المفاوضات من نجاعتها أو احتمال نجاحها في استرجاع الحقوق الفلسطينية، وإنما من كونها الوسيلة الوحيدة لتجنب الحرب، والتفرغ لقضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تشكل عند معظمهم اليوم المسألة المركزية. فكما صرح وزير الخارجية المصرية، أحمد أبو الغيط، مبررا القرار، التنمية والاستقرار والسلام هي الأهداف الرئيسية التي يضمن تحقيقها مصالح الأمة العربية للمستقبل، وأن الحرب لن تكون سوى دمارا شاملا لا يمكن تصوره.
لجميع هذه الأسباب والتفسيرات نصيب من الصحة والمعقولية لا شك. لكن ليس من المؤكد أن الجواب على التحديات التي تكشف عنها يكمن في دفن الرأس في الرمال، أو الاستسلام أو التسليم بالهيمنة الإسرائيلية أو التعامل الضعيف معها. بل ربما كان العكس هو الصحيح.
فللحكومات العربية الحق في أن تعتبر أن التنمية والسلام والاستقرار، بصرف النظر عن طبيعة هذه التنمية ومنحى تراكم الثروات وأسلوب استهلاكها أو هدرها، هي الأهداف الرئيسية التي ينبغي أن تحكم سياسة دول تعيش وضعا اجتماعيا وسياسيا لا تحسد عليه، وهي تستدعي بالفعل تجنب الحرب. ولديهم الحق أيضا في القول بأن الحرب ليست لعبة. وهي بالفعل ليست لعبة، وتكاليفها ستكون كارثية على العرب قبل الإسرائيليين.
لكن من قال إن الضعف وإظهار الضعف والقبول بتقديم تنازلات متواصلة هو ضمانة لتجنب الحرب، لا تشجيعا للطرف الآخر على شنها أو الاستمرار فيها؟ وهل لما تقوم به إسرائيل في فلسطين اسم آخر غير الحرب، حتى لو كانت بوتيرة بطيئة يومية؟
ثم ألم تكن هذه هي السياسة المتخاذلة، التي اتبعتها أوروبا لتهدئة الوحش النازي في الثلاثينيات من القرن الماضي، هي التي قادت الفهرر الألماني إلى تضخيم أطماعه إلى درجة اعتقد فيها أن أيا من الدول الأوروبية لن تكون قادرة على منع ألمانيا من اكتساح القارة والسيطرة عليها، بعد أن قبلت عواصمها الكبرى التضحية بالدول الصغيرة، الواحدة بعد الأخرى، لتبريد شهية الوحش النهم وتصبيره؟ ومن يجرؤ على القول إن إسرائيل، وهي ذات شهية للتوسع لا ينكرها قادتها أنفسهم، لن تطمع في أراض عربية أخرى، بين النيل والفرات بالفعل هذه المرة، إذا وجدت أنها نجحت في هضم المناطق العربية المحتلة، وفي ضبط مقاومات أبنائها من خلال جمعهم في معازل محاصرة ومحروسة، هي في الوقت نفسه مناطق سكنى ومعسكرات اعتقال جماعية؟
ومن يستطيع أن يؤكد، وحالة فساد النخب العربية على ما نراها ونقرأ عنها، أن إسرائيل أو حلفاءها لن ينجحوا، من خلال التلاعب بزعامات المنطقة الصغيرة والموتورة، وتغذية حزازات بعضها الدينية والقومية والعشائرية والعائلية، ضد بعضها الآخر، وبالرهان على روح الانتهازية والوصولية والأنانية التي تميزها، وبالتعاون مع الطامحين الذين لا أمل لهم بالحكم من خلال قدراتهم الذاتية، في الإبقاء على سيطرتها وإدارة إمبراطوريتها الاستعمارية؟ وما هي التكاليف التي ستدفعها الشعوب العربية في تلك الحالة للقضاء على نظام العنصرية الإسرائيلية المتورمة؟
وللحكومات العربية الحق أيضا في أن تخشى من أن يؤدي وقف المفاوضات أو إعلان إخفاقها النهائي إلى تفاقم التوتر داخل المجتمعات العربية بإضافة الخوف على المصير إلى بؤس شروط المعيشة وغياب أي حياة سياسية أو مدنية حقيقية، وأن يزيد من قدرة الدول الإقليمية، وفي مقدمها إيران الخمينية، على تعميق نفوذها وتدخلها في الشؤون العربية، السياسية والدينية، واستخدام هذا النفوذ وذاك التدخل لتحسبن شروط مفاوضاتها حول مصالحها القومية مع الغرب.
لكن هل الاستمرار في مفاوضات منتجة للإحباط والخيبة والتذمر وانعدام الأمن هو الذي سيحد فعلا من قدرة إيران على توسيع دائرة نفوذها، ويحمل الجمهور العربي إلى المزيد من الولاء للنظم العربية والإيمان ببطولات قادتها أو إخلاصهم لقضاياها الدينية والقومية؟
ومن حق القادة الفلسطينيين أيضا أن يقولوا إن الممانعة، بمعنى الصمود أجيالا وعدم التفريط بحقوقنا، كما ذكرت الناطقة باسم الرئاسة السورية، تبدو سهلة على نخب وسياسيين يعيشون في بلادهم المستقلة، ويملكون حرية الحركة والقرار والعيش بسلام، وأحيانا برفاهية يحسدهم عليها المحتلون أنفسهم، لكن ربما يحتاج الأمر، بالنسبة للفلسطينيين الذين يعانون الأمرين، يوميا، من أجل تأمين لقمة عيشهم، وينظرون إلى الأرض وهي تذوب تحت أقدامهم، ووطنهم يغور في ماء الاستعمار والاستيطان الزاحف، إلى حلول عملية وسريعة أكثر قليلا.
فالحقوق لا توجد إلا عندما تمارس، وينبغي أن تمارس اليوم، لا أن ننظر إليها كصكوك ملكية نعض عليها بالنواجذ بانتظار حصول المعجزة التاريخية، بينما نستمر في قضاء العمر في الذل والهوان.
ومع ذلك هل للفلسطينيين حظ أكبر في الخروج من محنة الاحتلال من خلال إضفاء شرعية متجددة على مفاوضات هدفها الوحيد التغطية على الاستيطان، أم إن لهم مصلحة أكبر في دفع العرب وقيادتهم إلى تغيير قاعدة المفاوضات الفاسدة والمفسدة، والمشاركة في بناء خيار إستراتيجي جديد يكون أكثر نجاعة في مواجهة الاحتلال؟ وما الذي سيفيده الفلسطينيون والعرب من تمديد هذا الوضع وتأجيل القرارات الأساسية التي ينبغي عليهم اتخاذها، والتي سيضطرون لاتخاذها بالتأكيد بعد فترة، لكن في شروط أقسى وأكثر كلفة؟
هل الهدف تمكين إسرائيل من تعزيز وضعها على الأرض، وتبرئة أميركا وغيرها من الدول الكبرى من مسؤوليتهم وتخاذلهم أمام اللوبي الإسرائيلي، أم العمل على تعميق أزمة الثقة عند الشعوب العربية، وتوسيع الهوة التي تفصلها عن حكوماتها، وتعظيم اليأس والقلق والنزوع إلى العنف لديها؟
بدل قرار تمديد المفاوضات -التي فقدت مبرر وجودها بعد أن أثبتت عدم فاعليتها وجدواها خلال عقدين- كان المطلوب من الدول العربية، مباشرة بعد فشل مهمة جورج ميتشل، وإصرار إسرائيل على مواصلة عمليات الاستيطان والتهويد، أولا: رفض التراجع بأي ثمن عن قرارها بالتجميد الكامل للاستيطان ووقف عمليات التهويد جميعا واحترام أمن وسلامة الفلسطينيين، كشرط لفتح مفاوضات سلام جديدة، وعلى أسس جديدة.
وثانيا: العودة مباشرة إلى مجلس الأمن لوضع الدول الكبرى، وعلى رأسها الرباعية المستقيلة عمليا أمام مسؤولياتها. وثالثا: اتخاذ إجراءات عملية مشتركة تظهر أن العرب لا يتسولون السلام من إسرائيل، وأن اختيارهم المفاوضات لا يعني تخليهم عن حقوقهم، وفي مقدمها حقهم في استخدام القوة، لاسترجاع الأراضي المحتلة، وأن إسرائيل بتقويضها مفاوضات السلام قد اختارت الحرب وهي تمارسها يوميا في فلسطين وما وراء حدودها.
لا يعني هذا إعلان الحرب ولا التشجيع عليها. فليس من بين الشعوب العربية من لم يجرب الحرب ويعيش ويلاتها ويعرف مآسيها. المقصود هو العكس تماما تجنبها. فليس هناك وسيلة أفضل لقطع الطريق على أنصار الحرب من الإعداد الجدي لها. وجهلنا بهذه القاعدة أو تغييبها عن فكرنا هما اللذان يفسران تعرضنا المستمر لها منذ عقود.
من هنا فإن مجلس الجامعة العربية، باتخاذه قرار التمديد لهذه المفاوضات، وبصرف النظر عن ما يقوله ويهدف إليه معكسر الممانعة، ومن وجهة نظر مصالح دول الاعتدال نفسها، قد ذهب في الاتجاه الخطأ. فبمقدار ما أكد عجز العرب وخوفهم أو عدم قدرتهم على التخلي عن نهجهم السابق الضعيف، وتبني منهج قوي، واتخاذ قرارات جريئة، زاد من اقتناع الإسرائيليين بنجاعة منطق القوة والقسوة والعدوان.
وهذا ما يفسر تلاشي اليسار ومعسكر السلام والاعتدال داخل إسرائيل نفسها، والانزلاق المتزايد للجمهور الإسرائيلي إلى سياسة العنصرية المكشوفة والشرعنة العملية لنظام التمييز العنصري. لذلك ليس من المبالغة القول بأن قرار مجلس الجامعة العربية قد قربنا من الحرب أكثر مما أبعدنا عنها، وأننا سنكون أقرب إليها بعد مرور الأشهر الأربعة القادمة مما نحن اليوم.
التاريخ يكرر نفسه، قال الفيلسوف الألماني هيغل عن حق. في المرة الأولى على شكل مأساة وفي الثانية على شكل مهزلة، رد عليه ماركس معلقا. لكن قد تكون المهزلة أكثر إيلاما من المأساة نفسها، أضاف إليهما ماركوز -صاحب كتاب “إنسان البعد الواحد”- لا أدري في أي مقام من هذه المقامات يندرج وضعنا نحن؟
الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى