صفحات ثقافيةمحمد ديبو

رداً على «طموح الرواية الجديد في سوريا» لعلي جازو: هــل مــن وصفــة ســحرية نكتبــها؟

null
محمد ديبو
للمرة الثانية يكتب الصديق والشاعر علي جازو عن الرواية السورية (طموح الرواية الجديد في سوريا الواقـــع النـــيء ـ «السفير»ـ الملحق الثقافي ـ27ـ2ـ2010), وللمرة الثانية يكون كلامه مستفزاً على الأقل بالنسبة لي, وهو الشاعر الرقيق الذي يكون في كلامه وهدوئه أبعد ما يكون عن الاستفزاز, ليبدو هنا وكأنه يتعمد الاستفزاز. ولكن المؤكد وبعيداً عن الاستفزاز أن جازو يمتلك رؤية نقدية وزاوية ما ينظر منها للرواية السورية, ليتهمها بما اتهمها به من تعميمات ظالمة في كثير من الأحيان, وحول هذه الرؤية سيتركز نقدنا الذي يسعى لتبديد بعض «الوهم» و«التعميم» الذي أطلقه جازو على الرواية السورية.
قبل الدخول فيما كتبه جازو, نود الإشارة إلى أن مقالنا هنا ليس دفاعاً عن الرواية السورية التي لدينا انتقادات عديدة لها قد نسجلها في مقال آخر, ولكن لدينا مديح لها في بعض الجوانب لا يمكن نكرانها أيضاً. ونقدنا هنا يدخل في نقد النقد الذي يبقى مهوماً في الفراغ من دون أن يحدد مبتغاه, نقداً لا يجرؤ على تسمية الأسماء بمسمياتها, ومن جهة أخرى دفاع عما نجده ظلماً كبيراً للرواية السورية والجديدة تحديداً.
وأيضاً قبل الدخول في التفاصيل, نسجل خطأين كبيرين وقع فيهما جازو:
أولهما حين جعل الرواية السورية والسعودية في موقع واحد, فهو رغم إشارته العابرة إلى أنهما مختلفتان بشكل ما, حيث قال «نخص بالذكر هنا شجاعات ومروقات الرواية الناشئة في سوريا العزيزة والسعودية الحصينة رغم شساعة الفرق», إلا أنه في واقع ما كتبه يجملهما بكافة التهم التي أوردها في مقاله. وأقول تهم.. لأن هناك فرقاً بين النقد والتهمة, فالنقد يحدد منهجه والعمل الروائي الذي يشتغل عليه.. بينما التهمة تحلق في الفراغ من دون أن نعرف من تصيب ومن تعني ومن تستهدف.. لتستهدف الجميع من دون أن تصيب أحداً بعينه.
والخطأ الثاني هو منهجي يتمثل بعدم تحديد جازو لما يعني بالعديد من المقولات التي يبني أحكامه عليها, فنحن لا نعرف ما المقصود بالرواية السورية الجديدة؟ هل هي الرواية التي كتبت في العقد الأخير بغض النظر عمن كتبها؟ أم هي الرواية التي يكتبها من لم يتجاوز العقد الثالث من عمره بعد؟ أم هي الرواية التي عالجت مواضيع جديدة فاستحقت لقبها هذا؟ أم ماذا؟
من هنا, يبقى نقد جازو نقداً في الفراغ, طالما لم نعرف من ينقد, ولمن يوجه نقده.
ويضاف لذلك مفردات وتعابير استخدمت من دون أن نفهم ما تعني بالضبط, ماذا يعني «البلاغة والبساطة الكلية» وماذا يعني «مزاج تأليف يفرخ» و«تراكم جحري ومعرفة فأرية» «تخفف بلاغي» وغيرها…
بديهيات غير صحيحة
يبدأ الصديق جازو كلامه بأن الرواية «بدلاً من التحولات، منشغلة بمرأى الجثث، تقدم نتائجها كما لو كانت أخباراً».
من هنا ينطلق علي جازو من مقولة تبدو وكأنها آية مقدسة أو بديهية, وهي أن الرواية, أية رواية, حتى تحوز لقبها ذاك, يجب أن تكون رواية قادرة على قراءة التحولات الحاصلة في مجتمع ما, وهو صحيح ولكنه ليس كل الصحيح, فالرواية من أحد مهامها أن تنشغل بتلك التحولات, لكنها يمكن أن تكون غير ذلك أيضاً, يمكنها أن تكون رواية نتائج, ويمكنها أن تكون رواية تعتمد الأخبار فقط شرط أن توظفها في سياق روائي,بعيداً عن أية تحولات, والأمثلة كثيرة ومنها رواية بيروت بيروت» لصنع الله ابراهيم, فهي قرأت الحرب الأهلية بلحظتها وآنيتها وأخبارها الموزعة في الصحف والمجلات والأراشيف, محاولة أن تفهم الحرب من دون أن تفهمها من خلال أخبار أو جثث وفق مايسميها «الناقد» جازو.
إذن يغدو السؤال : من قال إن الراوية يجب أن تنشغل بالتحولات فقط؟ أليس في هذا يقينية جامدة لا ترقى إلى مستوى الإبداع والشك.
وبعد المقطع السابق يتابع جازو قائلاً: مع تحول المواضيع صوب فردية مشوشة وحميمية ساخنة، تخفق اللغة في تحرر أسلوبي، وتحول قطعي».
ما المانع أن تتحول الرواية صوب الفردية, أليست الرواية فناً فردياً بامتياز؟ وما المانع أن تعالج موضوعاً فردياً؟ ومن قال إن الرواية محصورة فقط بأن تكون ذات مواضيع جماعية؟
ولنفرض صحة ما ذهب إليه الصديق جازو, فهل كانت الرواية السورية الحديثة, هي رواية مواضيع فردية؟ هل يمكن القول إن رواية «مديح الكراهية» لخالد خليفة، هي ذات موضوع فردي, وهي التي تناولت موضوعاً من أعقد وأصعب المواضيع على الساحة السورية؟ هل يمكن القول إن رواية «صلصال» التي عالجت موضوع العسكر والسلطة والفساد هي موضوع فردي؟ وهل رواية «سلطانات الرمل» التي غاصت في تفاصيل الصحراء ونسائها هي موضوع فردي, وهل حقاً رواية «حراس الهواء» التي عالجت موضوع السجن السياسي هي موضوع فردي؟
يبدو جواب علي سلبياً بالمطلق تجاه الرواية السورية الحديثة وفق ما نستشفه من جوابه, ولكنه يبقى جواب العاجز عن ملامسة واقع الرواية طالما بقي يحوم في فراغ اللغة وتهويماتها, موزعاً «تعليماته» يميناً وشمالاً, من دون أن يحدد عملاً واحداً لنفهم ما يعني ومن يعني بالذات. كنا نتمنى لو قدم الصديق جازو مثالاً واحداً لرواية تنطبق عليها السلبيات الكثيرة التي أتحفنا بها.
وهنا على الرغم من دروس جازو ونقده المهّوم في الفراغ, بقي الروائيون السوريون أكثر جرأة منه, لأنهم على الأقل ذهبوا إلى مواضيعهم وكتبوها وعالجوها وتحملوا مسؤوليتها, سواء من حيث المجتمع الذي ينظر لروائية كتبت عن الجنس على أنها عاشت التجربة وإلا لما كتبت! ومن حيث السلطة التي أزعجتها بعض الكتابات فمنعت كتابها من السفر؟ أو من حيث تحمل النقد ومحاولة الاستفادة منه, بينما لم يســم جــازو اسماً أو رواية ممن وقع سيف نقده عليه !!!
بين البساطة والبلاغة
عاب على النصوص الروائية الجديدة بساطتها حيث قال: «ستطغى علينا البساطة الكلية لأحكام وتوصيفات أقرب إلى رفض فاتر وتشك لائم…ثمة ما يجعل اليسر والبساطة والتخفف البلاغي عنواناً جامعاً. إنه الواقع النيء، أدب الشارع والمقهى .. الاستعارات والمجازات عتيقة ثقيلة… التخفف البلاغي إجراء لفظي يضحي بما نحسبه بالياً إزاء معاصرةٍ هفهافة لم تعد تجد مكانها في تجديد اللغة قدر ما تصيدته في خسف اللغة لصالح الخفة والتسلية».
فيما سبق, وفي كثير من فقرات المقال الزائدة عن المقال بطبيعة الحال, يتهم جازو الرواية الجديدة بأنها رواية «تخفف بلاغي» وبساطة, وكأن البساطة تهمة أو عيباً, لنسأل: متى كانت البساطة عيبا؟
وماذا يعني الكاتب بالبلاغة في الرواية؟ هل هي اللغة الوعرة المقعرة التي لا يصمد قارئ أمامها, أم هي اللغة الفخمة التي لا يمكن فهم سطرين منها من دون العودة إلى معجم ! أم ماذا؟
وهل البلاغة, أية بلاغة, شرط شارط لكل رواية, أم أن الرواية هي من يخلق عالمها اللغوي وأسلوبها, ولكل منها لغتها وأسلوبها..ماذا عن روايات لم تحفل ببلاغة اللغة, بل كان كتابها يتعمدون «اللغة الوسطى في الكتابة», تلك اللغة التي كان الراحل عبد الرحمن منيف من أشد المدافعين عنها, ضد دكتاتورية البلاغة التي تجعل من القراءة حكراً لأهل الكار الثقافي, بعيداً عن الناس ولغة الناس, ولعلنا نتذكر جدلاً قديماً بين مصطفى صادق الرافعي وطه حسين,حين عاب الاول على الثاني تحدثه بلغة بسيطه وسهلة, فرد عليه العميد بما معناه أننا نريد أن نتحدث بلغة الناس لكي يفهمنا الناس.
وبعيداً عن ذلك, هل ما كتبه صنع الله ابراهيم في رواياته كلها تقريباً, يمكن إسقاطه من تاريخ الرواية لأن لا بلاغة لها, وماذا عن رواية محمد شكري «الخبز الحافي» التي تناقض في اسلوبها وبلاغتها كل البلاغات التي يدعو جازو إليها!!
الحقيقة والفن.. الواقع والرواية
يقول جازو: «الرواية، بتوحيد موضوعها حول غاية واضحة وسابقة، تفقد أكثر ما تفقد بقاءها على صلة بالفن كعمل لا يثق بالوضوح ولا الغايات. وبالتركيز الحماسي والخامل على ما هو واضح وطري، تنحدر اللغة صوب أحادية أفقية؛ ذلك أنها مهمومة بالنقل السريع وبالحكم البات».
هكذا إذن لا يحق للرواية أن يكون لها موضوع محدد, لأن الموضوع يقتل الفن!!!
عن ماذا ستتحدث الرواية إذن ياعزيزي, هل يجب أن تكون الرواية مجرد نثار لغوي, وصفحات تحكي ولا تحكي في آن من دون ان تعني شيئا أو تقول شيئا, حتى تكون رواية, حقاً ما الذي تريد أن تقوله, نحن لا نفهم هل تريد نسف الموضوع من الرواية حقا؟ هل تريد أن تكون الرواية مجرد بلاغة سردية. ما هذا التناقض الذي لا يفهم معناه ( هل هي البلاغة الآسرة التي تدعو إليها؟) الواقع يقتل الفن, والحديث عن الواقع يفوت على الرواية الحديث عن خيال الواقع, عزيزي ببساطة الرواية يجب أن تعالج موضوعاً ما, مستندة إلى وقائع ووثائق يعمل عليها الروائي, ليخلق منها عملاً فنياً جميلاً, أي أن يرتقي بالواقع نحو مصاف الإبداع, ليخلق لنا عملاً جميلاً, علماً أن الروائي قد يفشل وقد ينجح, وقد يفشل وينجح في آن.
وإن تقديم الرواية للحقيقة أو «شبهات نماذج وعينات حقيقية» ليس دليل «سقم فلسفي» ولا يمكن أن يؤدي إلى «عقم فعال في اجتراح تحاليل نموذجية لما هو حقيقي» بل إن الرواية تسعى لقول الحقيقة, ويجب أن تسعى لقولها دائما, وذلك عبر قراءة الواقع وتحولاته ووثائقه, لتقدم رؤيتها له, هذه الرؤية التي قد تكون قاصرة, وقد تكون جيدة, ولكنها أكيد لن تكون كاملة, لأنه لا يمكن لعمل أن يحوز الكمال مهما بلغ من الابداع والجرأة الحقيقية (لا الممدوحة) ومن «البلاغة» حتى, لا يمكن لعمل أن يدعي الحقيقة أبداً, فكل عمل هو محاولة لقول الحقيقة وتقديم جزء من الحقيقة, لأننا لو سلمنا بما يقوله جازو سنصل إلى دين يحتكر الحقيقة ويعرفها!
وهل تستطيع أن تحدد الحقيقة ياصديقي حتى تطالب بها بمثل هذه الثقة العمياء؟
ولا يكتفي جازو بذلك, بل يقول متهماً وبثقة: أدب الحقيقة الجديد هذا يمضي بالواقع واعتماداً عليه من السخف إلى الصدق ومن الصدق إلى السخف في إياب وذهاب بلا أثر».
هل حقا أضحى الصدق سخفا؟ والبساطة تهمة؟
اتهامات
يقول جازو «ستحبس الرواية في الجنس والسياسة» هل حقاً الرواية السورية محبوسة في الجنس والسياسية, هل رواية خالد خليفة «مديح الكراهية» مجرد سياسة, أليس فيها قراءة لتحولات؟ خاصة شخصية الراوية التي بدأت متطرفة, تشبه الخال بكر, وانتهت إلى ما انتهت إليه؟
وهل رواية «نيغاتيف» و«حراس الهواء» و«صلصال» مجرد سياسية, أليس في صلصال قراءة لترادف الفساد والاستبداد؟ أليس في «حراس الهواء» تسليط للضوء على الأقليات (وإن كانت المعالجة روائياً ضعيفة في هذا الشق تحديداً), وأليس في نيغاتيف شيء غير السياسة والسجن, بل يمكن القول رغم أنها رواية توثيقة لتجربة السجينات السياسيات في سوريا, فهي رواية فيها من الحب والحنين والانسانية أكثر مما فيها من السجن والسياسة بكثير.
وهل رواية وراق الحب جنس وسياسة, وهل رواية عبد الناصر العايد «قصر الطين» التي تعالج موضوع الدين وكيف أصبح دينا؟ هي جنس وسياسة؟ وهل رواية «قصقص ورق» لعبير اسبر فيها شيء من الجنس أو السياسة؟ وكذلك الأمر بالنسبة لرواية مها حسن «تراتيل العدم» ولرواية «سلطانات الرمل» للينا هويان الحسن؟
إن تواتر الروايات السابقة, وخلو معظمها من الجنس أو السياسة وهي كلها روايات لكتاب جدد, تجعلنا نتساءل: ماذا قرأ جازو حقا؟ وكيف يقرأ ؟ فهو إما قرأ أعمالاً محددة بعينها ليسقط أمرها على الرواية السورية ككل؟ وإما أن القراءة لديه تعاني من مشكلة ما لدرجة أن مشهداً جنسياً في الرواية يكفي لجعل الراوية جنسية أو سياسية, وفي ذلك ابتسار وتسطيح ما بعده تسطيح!
البلاغة وما تخفيه!
هناك الكثير من المفردات والتعابير البلاغية التي تتجول في سياق عام من دون أن تحدد مبتغاها, وهي تتلطى تحت سياق البلاغة لتقول كلاماً عابراً لا يحمل أي معنى, ولكنها مع ذلك تدفع قارئ المقال للتوتر, لذا نرجو من السيد جازو أن يدلنا على الروايات التي تنطبق عليها المقولات الكثيرة التي أوردها في مقاله ومنها:
ـ يقول جازو «يُبنى الكلام الروائي على ضدية ناقمة وليس على تساؤل جوّال».
السؤال: ماذا يعني ضدية ناقمة, وكيف تكون الضدية ناقمة؟ ومن جهة أخرى نعرف أن الضدية تولد تفاعلاً وحراكاً وهذا يعني أنها تخلق حواراً وحراكاً وتساؤلاً, فكيف حدث أن «الضدية» لا تؤدي إلى «تساؤل جوال»!!!
ـ يقول جازو أيضاً «تنجح هذه الرواية في أمر واحد فقط: انتزاع الحكم منا قبل القراءة ذلك أنها بالغت في الإخبار عنه أثناء الكتابة».
السؤال: كيف يمكن لعمل ما, أياً كان, ان ينجح في انتزاع الحكم قبل القراءة؟ وكيف بالغت في الإخبار عنه؟ وإذا كانت بالغت الإخبارعنه أثناء الكتابة, فهذا يعني أنها تنتزع حكمنا أثناء القراءة وليس قبلها, ولكن من دون أن تنتزعه كله إلا مع نهاية القراءة!!
لا يا عزيزي, الروائيون السوريون والروائيات السوريات, مثلهم مثل كل روائيي العالم, كل منهم يكتب نصه ويمضي, باحثاً عن كل الأساليب التي تحقق لنصه النجاح والشهرة (التي ليست عيباً) وقد يكون الروائي أخطأ أو أصاب, وإن أخطأ يقع عليه نقدنا وإن أصاب فله مدحنا, بعيداً عن اية اتهامات بالتسطيح والتخريب ووو..
في النهاية, يمكن القول إن السيد جازو رغم كل «اتهاماته» للرواية لم نعرف ما الذي يريده من الرواية, كيف تكون الرواية رواية ؟ هل من وصفة سحرية, كي نكتبها!!
(كاتب سوري)

ملحق السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى