صفحات مختارةمحمد سيد رصاص

العلمانية والدين

محمد سيد رصاص
لم تولد العلمانية عبر التضاد أومحاربة الدين،بل أتت،حيث ولدت في انكلترا عام1534،من خلال حركة دينية خاصة،تأسست من خلالها الكنيسة الأنجليكانية التي كانت طبعة انكليزية عن الإنشقاق البروتستانتي عن كنيسة روما بين عامي1517و1521،لتكون هذه الحركة موجهة من مدنيين(laity)ضد فئة الإكليروس(clergy) في الكنيسة الكاثوليكية الانكليزية وهيمنتهم على الاقتصاد والسياسة والحياة الاجتماعية والتعليم والثقافة.قاد الملك الانكليزي هنري الثامن هذه الحركة من خلال مصادرة أملاك أديرة الكنيسة الكاثوليكية،التي شملت أراضي شاسعة ومناجم للفحم،وليعلن عبر ذلك رئاسته لكنيسة انكلترا وانفصالها عن روما.
من هنا،أتت كلمة النظام العلماني(laicism)،الذي يفصل بين السياسة ورجال الدين وليس بينها وبين أخذ متدينين مدنيين لتصوراتهم السياسية من ينابيع دينية،من كلمة(laity)التي تعني جمهور المؤمنين أوسواد الناس من غير تلك الفئة الكنسية،لتدل على الرجل المدني(laic)،الذي هو يمكن أن يكون متديناً أوغير متدين،بوصف هذا الرجل هو حقل السياسة كشأن عام ،ورافعتها في نفس الوقت.
وعملياً،فإنه إذا كان تأسيس هذا النظام العلماني في انكلترا قد حصل بالتضافر بين الملك وجمهور المجتمع في اتحادهما ضد كنيسة روما وممثليها المحليين،فإن تأسيس نظام حكم المَلكية المطلقة،الذي استند اقتصادياً إلى ماامتلكه الملك من ثروات عبر مصادرة تلك الممتلكات الكنسية،قد قاد إلى تناقض بين سلطة الملك المطلقة وبين الطبقة البرجوازية الجديدة التي زادت ثرواتها من خلال السيطرة الإنكليزية على طرق التجارة البحرية بعد هزيمة الإنكليز للإسبان في معركة الأرمادا(1588)أومن خلال اضطرار الملك بحكم الضرورات الاقتصادية إلى بيع تلك المناجم وأغلب الأراضي المصادرة إلى أفراد تلك الطبقة البرجوازية الجديدة.على هذه الخلفية نشأت ثورة البرلمان(1642-1649)التي قادها تجار وأصحاب مزارع كانوا من طائفة البيوريتان المتزمتة دينياً ليعدموا الملك ويقيموا حكم أوليفر كرومويل،ثم ليقوموا هم ذاتهم عام1688بالثورة الدستورية التي ثبَتت سلطة البرلمان وجعلت الملك يملك ولايحكم .
في هذا السياق،يمكن ملاحظة عدة أمور:كانت العلمانية تعني،أثناء مولدها بمهدها الأول والأصلي انكلترا، حركة (مدنيون ضد إكليروس)،ولم تكن تعني (التدين واللاتدين) أومابينهما من الذي يسمى ب(اللاأدرية الدينية).ثانياً،أتت هذه العلمانية من خلال انشقاق حركة دينية على أخرى عبر مضامين دينية أخرى.ثالثاً،إن من ثبَت سلطة البرلمان،وكان حامل ثورته السياسية،هم أفراد متدينون محافظون ومتزمتون أخلاقياً واجتماعياً قاموا بتثبيت الأساس الدستوري للنظام العلماني عام1688،ثم بالعام التالي أعطى البرلمان لائحة الحقوق للأفراد في مجتمع أصبح يمكن وصفه للمرة الأولى بأنه”مدني”،إلاأن هؤلاء في فترة مابعد كرومويل(توفي1658)لم يكونوا سياسياً من أنصار حزب المحافظين(التوري)بل من أنصار ليبرالية حزب الأحرار(الويغ)،من دون أن يتخلوا عن سلوكياتهم المحافظة – المتزمتة في الاجتماع والأخلاق . .
انتصرت هذه العلمانية الانكليزية في العالم الأنكلو- ساكسوني بين لندن وواشنطن،ثم في ألمانية وبعدها في ايطالية واسبانية اللاتينيتين بفترة مابعد موسوليني وفرانكو،حيث وجدت أحزاب ديمقراطية مسيحية كان قادتها وجمهورها من المتدينين المدنيين الذين آمنوا بأيديولوجية التومائية الجديدة التي حاولت بالقرن العشرين تقديم تفسير حديث لأفكار منظِر كنيسة روما توما الأكويني(1225-1274):في فرنسة،كان هناك مجرى آخر أدى إلى توليد علمانية مغايرة،كانت ليس فقط ضد الكنيسة،وإنما هي أرادت نزع الدين من الحياة العامة،في السياسة والاجتماع والتربية،لتجعله محصوراً في الحياة الفردية والأخلاقية.أتت هذه العلمانية
secularismالفرنسية
كرد مضاد على تحالف المَلكية المطلقة في عهد لويس الرابع عشر مع الكنيسة الكاثوليكية بعد نقض الملك الفرنسي عام1685لمرسوم نانت،الذي يكرس التسامح بين الكاثوليك والبروتستانت الفرنسيين(الهوغنوت)،واضطهاده وطرده للأخيرين إلى انكلترا وجنيف.كان فكر عصر الأنوار الفرنسي عبر ممثليه الكبار:فولتير،مونتسكيو،ديدرو،دوهولباخ- موجهاً ليس فقط بإتجاه الحريات الدستورية ضد سلطة الملك المطلقة،بل يحمل أيضاً إلحادية ضد الدين والكنيسة،أوعلى الأقل لاأدرية دينية لامبالية كمانجد لدى فولتير ومونتسكيو،أوميلاً للدين الطبيعي كماعند روسو.وحتى عندما ضعفت سلطة الملك لصالح الأرستقراطية،كمافي عهد لويس السادس عشر(منذ1774)،فإن سيطرة الأرستقراطية على المراكز العليا في الكنيسة،لدرجة أن كل أساقفة فرنسة وكل رؤساء المجامع الكهنوتية في عام ثورة1789كانوا من عائلات أرستقراطية،قد جعلت تلك الثورة لاتتوجه فقط ضد الأرستقراطية والملك بل أيضاً ضد الكنيسة التي امتلكت آنذاك عشر أراضي فرنسة وكانت تسيطر على التعليم وعلى رقابة المطبوعات.
هنا،في العالم الاسلامي،كان تأثر مصطفى كمال أتاتورك بالعلمانية الفرنسية،عند تأسيسه للنظام الجمهوري العلماني يوم29تشرين أول1923،حاسماً في انتصار هذا المفهوم للعلمانية عند مناصريها المسلمين على امتداد مساحة العالم الاسلامي،وفي عدم أخذ العلمانية الإنكليزية لفرصتها بين المسلمين.رأينا هذا أولاً في ايران أثناء حكم أسرة بهلوي بين عامي1925و1979لماكانت علمانيتهم متابعة للأتاتوركية بالتوازي مع صدامهم بفئة رجال الدين الشيعة التي تشبه في مراتبيتها فئة الإكليروس الكنسي الكاثوليكي،ليصل هذا الصدام إلى ذروة كبرى في عام1963 مع الإصلاح الزراعي الذي أفقد المؤسسة الدينية الكثير من الأراضي التي كانت تملكها أوتشرف عليها. ثم حصل هذا ثانياً عند العرب لماكانت العلمانية ممزوجة بعدائية للدين تبلغ حدود الإلحاد الفكري كماعند أغلب اليسار الماركسي،أواقصائية للدين عن الحياة العامة والسياسة منها أولاً كمالدى راديكاليين من أمثال سلامة موسى،فيمالم يدخل ليبراليو مابعد عام1918العرب في علمانية عدائية للدين بل تجنبوا الصفة العلمانية مكتفين بالنزعة الدستورية السياسية.هذا الأمر اختلف مع بروز”ليبرالية جديدة” تكَونت أساساً،في مرحلة مابعد سقوط وتفكك الاتحاد السوفياتي عام1991،من ماركسيين وشيوعيين عرب سابقين اتجهوا إلى الليبرالية منذ ذاك الوقت مازجين بين إلحاديتهم السابقة وعدائهم الإقصائي للتيار الاسلامي السياسي وبين النزوع الليبرالي،ثم ليتكرس هذا التوجه عندهم عبر تأييدهم للمشروع الأميركي،المجسد أيديولوجياً في نص”مشروع الشرق الأوسط الكبير”الذي طرحته الإدارة الأميركية في شباط2004،والذي أتى حاملاً للنزوع الليبرالي بالترافق مع صدام واشنطن مع حركات الاسلام السياسي العالمية ،التي كانت حليفتها السابقة في فترة الحرب الباردة ضد موسكو .
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى