صفحات مختارة

“العلمانية على محك الاصوليات اليهودية والمسيحية والاسلامية” لكارولين فوريست وفياميتا فينّر

خالد غزال
لا يتفتَّح الدين في الظلاميّات وإنما في الديموقراطية والحداثة
تسود العالم منذ اربعة عقود موجة انبعاث للاصوليات الدينية لدى الاديان التوحيدية الثلاث. بدأت طلائعها في اسرائيل عام 1977، بتحقيق الاحزاب الدينية انتصارات واضحة في الانتخابات النيابية. ترافق ذلك مع عودة الكنيسة الكاثوليكية الى المطالبة بدور اقوى وافعل في الحياة السياسية والاجتماعية، وهذا امر برز مع مجيء البابا يوحنا بولس الثاني على رأس الكنيسة عام 1978. في التاريخ نفسه، شهدت ايران عام 1979 انتصار الثورة الاسلامية واقامة حكم ثيوقراطي يقوده الملالي، وذلك للمرة الأولى في تاريخ ايران، بل في التاريخ الاسلامي الحديث. وفي العالم العربي، عرفت الحركات الاصولية صعودا غير مسبوق خصوصا في مصر، بعدما شجع الرئيس انور السادات الحركات الاسلامية على الفعل، وذلك في سياق صراعه مع التيارات الناصرية بعد وفاة عبد الناصر عام 1970. وفي الولايات المتحدة، وجد اليمين الديني البروتستانتي فرصته المناسبة للصعود بعدما اتاح لممثليه احتلال مواقع ممتازة في الادارة الاميركية، وخصوصا في ميدان السياسة الخارجية. توجت هجمات 11 ايلول على الولايات المتحدة ذروة هذا الصعود الاصولي، سواء عبر الفعل الارهابي الذي قامت به عناصر اصولية اسلامية، ام في رد الفعل الذي ابدته الاصوليات اليهودية والمسيحية، مما اعطى صورة غرائبية عن صراعات بدت كأنها تدور بين الاصوليات والسلفيين انفسهم. في كل المحطات التي يشهدها التاريخ راهنا، وسابقا، كان الصعود الاصولي يترافق مع حملة شديدة في وجه الديموقراطية والعلمانية، حتى بدا ان العدو الرئيسي لهذه الاصوليات ليس صراعها بعضها ضد البعض الآخر بمقدار ما هو هجوم على العلمانية والديموقراطية. يقدم كتاب “العلمانية على محك الاصوليات اليهودية والمسيحية والاسلامية” للكاتبتين كارولين فوريست وفيا ميتا فينّر، والصادر لدى “دار بترا” و”رابطة العقلانيين العرب”، ترجمة غازي عقل، لوحة مفصلة عن هذه الاصوليات الثلاث في برامجها وعلاقاتها.
يعرّف الكتاب الاصولية بأنها “تجلي مشروع هادف الى الزام مجتمع ما بدءا بالفرد وانتهاء بالدولة، اعتماد قيم ناتجة لا من توافق ديموقراطي، بل من رؤية للدين صارمة متشددة اخلاقية”. اما السلفية فهي “عودة الى اسس الايمان، والى نصوص مقدسة يراد لها ان تقرأ بأكثر الاساليب حرفية ورجوعا الى الاصل”. ينطوي الاصوليون والسلفيون على رؤية موحدة سمتها التعصب، وقال عنهم الكاتب الفرنسي فولتير: “ناس مقتنعون بأن الروح القدس الذي يملأهم هو فوق القوانين”.
يتقاسم الاصوليون في الاديان التوحيدية الثلاثة صفة التعصب الذي يوجه سهامه الى حرية التعبير التي تشكل “كابوسا يتسلط على الاصوليين”، ويميل الجميع الى تكميم افواه كل من يتراءى لهم انه يريد النيل من اركان العقيدة المقدسة. ففي بلد مثل اسرائيل التي تعتبر نفسها بلدا علمانيا، لا ينجو مواطن من العنف اذا لم يحترم اليهودية كما يفهمها الاصوليون. لكن خطر التهديد الاصولي يتعاظم ويغدو مرعبا في بلد يستوحي قانونه من الشريعة الدينية، مقارنة ببلد تقام فيه العدالة استنادا الى حقوق الانسان. يمثل الاتهام الاصولي للخصم بالتجديف احد الاسلحة الرائجة لاقامة الرقابة والحد من حرية التعبير، وينجم عن التجديف اتهامات بالكفر والارتداد وغيرها من المصطلحات ذات الفعل الناري عندما يتاح لها التطبيق. تصدر الفتاوى وتزدهر في هذا المجال، من اصوليي الاديان الثلاثة، الذين يتناسون خلافاتهم، فيتضامنون ضد العدو العلماني المشترك. هكذا “تجسد قضايا التجديف شكلا من اشكال الردع ومحاولة لتكميم الابداع والحس النقدي، والزام العلمانية سلوك جادة الصواب لمصلحة اعادة القداسة الى الفضاءين العام والثقافي”.
في الجانب السلطوي، يتشارك اصوليو الاديان الفكرة القائلة ان شريعة الله متفوقة على قانون البشر، وهو منطق يذهب بهم الى ازدراء المثل الاعلى الديموقراطي والعلماني. تتخذ الفكرة حجما اكبر لدى الاصولية الاسلامية الصاعدة والتي تضع في اولوية اهدافها اقامة الدولة الاسلامية وتطبيق احكام الشريعة، استنادا الى مزاعم تاريخية عن قيام مثل هذه الدولة في عهد النبي والخلفاء الراشدين من بعده، واستنادا الى مقولة غير صحيحة تدّعي فيها ان “الاسلام دين ودولة”. من الطبيعي ان تكون الاصولية الاسلامية هي رأس الحربة اليوم في الدعوة الى حكم الشريعة، لان المسيحية سبق لها وحكمت باسم الشريعة قبل قرون، وشهدت فترة حكمها صراعات دينية ومذهبية اودت بمئات الالاف من ابنائها، وانتهت بانتصار منطق فصل الدين عن الدولة. لكن هذه الهزيمة التاريخية لم تمنع الفاتيكان أخيراً من الطلب بأن يتضمن دستور الاتحاد الاوروبي “الاعتراف بدور الايمان الديني كمصدر واساس لقيمنا الاوروبية المشتركة”. كما ان المسألة الطائفية لا تزال جاثمة في موضوع توسيع الاتحاد الاوروبي كأحد المعايير في قبول عضوية بلد ما، ويجد الامر تجسيده في رفض انضمام تركيا ذات الاكثرية المسلمة، حتى الآن، الى الاتحاد الاوروبي.
تلتقي الاديان التوحيدية الثلاثة في أن كلاً منها يدّعي امتلاك الحقيقة باسم وحي غير عقلاني، وهو ادعاء يجعلها خزانا لاحتضان مشاريع متعصبة، تزرع الكراهية بين ابناء الدين الواحد وفي العلاقة مع الاخر. لم يكن العنف والكراهية حدثين عارضين في يوم من الايام، بل جزء من الرسالة الاصلية التي يقدمها كل من “أديان الوحي الثلاثة في نطاق كون كل دين قد صمم من اجل تقديس عقيدة على حساب العقائد الاخرى كلها”.
يثبت التاريخ الراهن، وعلى رغم كل التطورات العلمية والتكنولوجية، وارتفاع المطالبة بحقوق الانسان، ان الاصوليات تحقق نجاحات في كل مكان، وتخوض حربا لا هوادة فيها لإجبار المثل الاعلى الديموقراطي والعلماني على الانكفاء باسم قانون الهي اسمى من قانون البشر. وخلافا لما يقال عن صدام حضارات لا وجود له، فإن خط القطيعة الحقيقي هو الذي يقع بين الديموقراطيين والثيوقراطيين، بين “انصار عالم عقلاني وانصار عالم متعصب”. فليست العلمانية مثالا ينبغي تبريره والدفاع عنه بلا هوادة فحسب، بل لأن هذه العلمانية تخوض حربا متواصلة مع تصور آخر للحياة في المجتمع، يعطي العقائد الدينية موقعها الصحيح،  فتوافق العلمانية والديموقراطية هو المكان الحقيقي لتفتّح الدين ومنع ارتهانه للسياسة.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى