صفحات سورية

الأكراد السوريون الأجانب: حياة تنتظر الشهود لإثباتها

null
محمد دحنون
«اقتربت منه، بعد أن انتهت أمسيّة موسيقيّة حضرها. انتظرته ريثما ينهي دردشة ودّية وحميمة مع معارف قدامى. وحين التفت إليّ قلت له: بدي قلك شي! أجابني: تفضلي. فقلت: أنا من أجانب الحسكة، ونحن متفائلون أن يتحرك الوضع قليلاً بالنسبة لموضوعنا. يطرح عليّ سؤالاً: أنت أجانب أم مكتومون؟ فأجيبه: أنا من الأجانب، فيبتسم قائلاً: تفاءلي».
بعد هذه المحادثة مع الرئيس، لم تتردد غيفارا في وضع اسمها إلى جانب أسماء زملائها للسفر إلى تونس، تلبيّة لدعوة من مهرجان سينمائي. المجموعة لا تسافر، لكنّ السبب لا يعود إلى البطاقة التي تحملها غيفارا، والتي تشكّل بديلاً عن الهويّة الشخصيّة التي لا تمتلكها. إنّها البطاقة «البسيطة» التي كتب في أعلاها «غير صالحة لوثائق السفر وخارج القطر». غيفارا وزملاؤها لم يسافروا، لكنّها لا تعرف السبب حتى الآن، أمّا جملة «لم يرد للمذكور قيد في سجلات العرب السوريين نتيجة إحصاء 62»، الواردة في أسفل البطاقة المذكورة فلا تشكّل بالنسبة لها سبباً مقنعاً لعدم موافقة الجهات المعنيّة على السفر.
غير أنّ خوفاً ما يطلّ برأسه على أفكار غيفارا قائلاً: ربما لأنّك «أجنبيّة»، لم تتم الموافقة على المهمّة. ويتمادى الخوف في عقلها فيلّمح إلى احتمال أن يكون وضعها كأجنبيّة هو السبب وراء حرمان أصدقائها من السفر. تصفع غيفارا الخوف، وتنسب ضياع فرصة السفر إلى عدوين صريحين: الروتين والبيروقراطيّة. لكنّها تقول «المشكلة ليست هنا، المشكلة في المستقبل!». والمستقبل بالنسبة لغيفارا هو: الإمكانيات التي تتخللها أحلام مشروعة في متابعة الدراسة أو في العمل في الخارج، ولكن كيف؟! هنا لا إجابات، هنا تفاؤل فقط، مشروع وضروري و.. ممكن؟
300 ألف وربما أكثر، هم الأكراد السوريون الذين يتشاركون صفة الأجنبي في بلدهم. وإذا كان المواطن السوري «الطبيعي»، يواجه صعوبات جمّة في متابعة معاملة رسميّة، زواج، طلاق، تسجيل في المدرسة أو الجامعة… الخ، فإن «الكردي السوري الأجنبي» يعاني ما يعانيه مواطنه، زائداً مجموعة من الإجراءات الخاصة، مثلاً: موافقة أمنيّة على التسجيل في المدرسة، ثمّ واحدة للتسجيل في الجامعة. أمّا المواليد الجدد فسيكون لهم مشاكل حقيقيّة إذا أرادوا الاحتفال بأعياد ميلادهم في المستقبل. يقول علي «كل مولود في محافظة الحسكة لا يسجّل إلاّ بعد سنّة تقريباً من ولادته، وبعد ألف موافقة.. أمنيّة». هذا غيّض من فيض، أمّا أكثر ما يغيظ علي ويدفعه للضحك والسخريّة فهو نسبة الأولاد لآبائهم: «أنا مثلاً، عندي الآن ثلاثة أولاد، ممكن بأي لحظة أن يأتي أحدهم ويرفع دعوى قضائيّة عليّ يطالب بأولادي على أساس أنهم أولاده، وعلى الرغم من أنّني متزوج منذ أكثر من عشر سنوات إلاّ أنّ زواجي غير مسجل، وما زال وضعي العائلي على بطاقتي: عازب».
تبدو المسألة بسيطة من وجهة نظر سلام الذي يتدّخل ليجيب عن سؤال: ما الحل في مثل هذه الحالة؟ والحل وفق سلام هو: المختار وشاهدان لإثبات النسب. يبدو سلام متفائلاً أيضاً، لكن لتفاؤله مصدرا آخر يمكن أن يختزل بالمثل القائل «إذا شفت مصيبة غيرك بتهون عليك مصيبتك». إذ يقارن سلام بين وضعه وبين وضع «مكتومي القيد». هؤلاء لا شيء لديهم، لا بطاقة ولا دفتر عائلة، وهم يحتاجون إلى المخاتير والشهود للتسجيل من أجل نيل الشهادة الإعداديّة مثلاً، وإذا حدث واحتاج أحدهم، مثل كاميران، أن يثبت نسبة أولاده إليّه، كان عليه أوّلا أن يثبت أن أبويه.. متزوجان!
يبدو اقتراح الحل والموجز بمفردة «التجنيس» أسهل بكثير من الدخول في تعقيدات الوضع الذي يعيشه الأكراد الأجانب، تعقيدات تبدأ عندما يتزوج أجنبي من غير أجنبيّة أو العكس، ولا ينتهي عند احتمال أن يكون أحد أفراد عائلة ما يمتلك هويّة شخصيّة سوريّة، في حين لا يمتلكها أخوته وأخواته.
تعقيد كهذا يأخذ علي إلى جذور القضيّة التي بدأت مع إحصاء العام 1962. كانت المشكلة قد بدأت نتيجة التعارض بين قوانين الإصلاح الزراعي الناصريّة وشعار «الأرض لمن يعمل بها» من جهة، ومصالح الإقطاعيين العرب والأكراد من جهة أخرى. كان من مصلحة هؤلاء ألاّ يشمل الإحصاء الفلاحين الذين يعملون في أراضيهم. فالمعادلة بالنسبة لهم كانت واضحة: تسجيل أعداد أكبر يعني خسارة أراضي أكبر، وتواطؤ المخاتير مع مصالح الإقطاعيين. يقول علي: «كان هؤلاء يعطون للجهة التي تقوم بالإحصاء اسم فرد واحد في عائلة تضم 12 فرداً مثلاً». هنا يتدّخل جهاد ليعطي للقضيّة أبعاداً أوسع، لا تبدأ مع اتفاقية سايكس بيكو التي كان لواضعيها مصلحة في إبقاء (قوميّة تائهة) في المنطقة، أي بعبارة أخرى الإبقاء على بؤرة توتر، ولا تنتهي عند أطراف كثيرة لها مصلحة في إبقاء الوضع على ما هو عليه، مثل بأميركا وتركيا.. «وبعض الأحزاب الكرديّة المتطرفة».
علي الذي يوافق على مداخلة جهاد، يتجنب الحديث عن المستقبل. يصعب وضع تجنبه هذا في خانة اللامبالاة. هو بالأحرى، ومع شيء من التأويل، خوف من الحديث عن مستقبل فتاتين صغيرتين وطفل واحد، يستطيع علي أن يثبت لنفسه أنّهم أولاده بسهولة. ولكنه، ربما، لن يتمكن من دفعهم للإحساس بالتفاؤل نفسه الذي تتمتع به ابنة عمّهم غيفارا!

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى