صفحات مختارةمازن كم الماز

الصراع الطبقي في سوريا

null
مازن كم الماز
ليس الصراع الطبقي منتج ماركسي خالص , و لا حتى يمكن نسبته إلى الرأسمالية أو الأزمنة الحديثة , كان أفلاطون المثالي , بل أبو المثالية , هو الذي وصف المدينة بأنها في الحقيقة مدينتان , مدينة للفقراء و أخرى للأغنياء في حرب لا تنقطع فيما بينهما , لكن القضية تبقى في وعي الواقع , في صياغة وعي هذا الواقع . اليوم في سوريا هناك نظام يمثل طبقة مالكة و حاكمة في نفس الوقت , تقف في مواجهته , أو خلفه , طبقات أخرى من تابعين طبقيين إلى خصوم طبقيين , و أسفل هذا كله الطبقات التي لا تملك شيئا و ليس لها من أمرها شيئا . كما هو الحال في أنظمة رأسمالية الدولة فإن الطبقة الحاكمة و المالكة في نفس الوقت هي رأس البيروقراطية الحاكمة , و في الحقيقة شهدنا عموما تزايد أهمية دور البيروقراطية في التحالفات الحاكمة , ليس فقط في مجتمعاتنا المتخلفة و القائمة على اقتصاد تابع , بل حتى في مراكز النظام الرأسمالي حيث لم تعد البيروقراطية مجرد طبقة متخصصة في خدمة الرأسمالية مالكة وسائل الإنتاج , أما في مجتمعاتنا فالسلطة تلعب دورا مركزيا في كل الأحوال و تحت كل الرايات الإيديولوجية المختلفة , و يتحقق التراكم الأولي عن طريق الإنفاق الحكومي ( أو النهب الحكومي ) أساسا , و لصالح فئات مرتبطة بالنظام بالضرورة , هذا نشاهده مثلا في إيران كما نشاهده في لبنان أو في العراق ما بعد الحرب كما قبلها و دول الخليج و مصر , الخ . لا يمكن لأي برجوازي أن يوجد دون علاقة متميزة مع أحد مراكز القوة في النظام و في كثير من الأحيان تمارس هذه المراكز مباشرة دورا اقتصاديا رئيسيا .
في مقاربة تبدو رائجة بين اليساريين السوريين اليوم يوجه اللوم في هذا التصاعد في الصراع الطبقي إلى السياسات النيو ليبرالية الجديدة للنظام , يترافق هذا مع محاولة لإنكار أو التخفيف من الطابع الصراعي للتفاوتات الطبقية أو حتى للطابع التناقضي لهذا التفاوت الطبقي من جهة أخرى , ما تريد هذه المقاربة أن تقوله هنا هو أن تكشف حقيقة ارتباط الاستغلال و ما ينتج عنه من صراعات ليس فقط بالشكل الكلاسيكي من الرأسمالية أو أن تجعل هذا الشكل الكلاسيكي الذي حاول إعادة إنتاج نفسه سواء في مراكز العالم الرأسمالي أو في أطرافه كما في سوريا من خلال السياسات النيو ليبرالية هو الشكل الرئيسي لحالة الاستغلال و ما يرافقه من صراع طبقي بل أيضا بأنظمة رأسمالية الدولة التي تمثل حالة خاصة من الاستغلال و بالتالي من الصراع بين من يملك و يحكم و بين المحكوم الذي لا يملك . من المؤكد أن التفاوتات الطبقية قد تفاقمت و تتفاقم على نحو متسارع منذ تطبيق هذه السياسات النيو ليبرالية سواء في سوريا أو في كل مكان آخر , لكن هذه التفاوتات و الصراع الطبقي نفسه موجود , بدرجات مختلفة من النزاع أو من المساومة , في الشكل الآخر من النظام الرأسمالي الذي يسيطر على حياتنا و اقتصادنا منذ عام 1963 , ليس هذا فقط , بل إن هذه المقاربة السائدة في اليسار السوري تنتهي إلى أن العودة إلى شكل رأسمالية الدولة السابق الذي يختلف , و يتناقض بطريقة أو بأخرى , مع الشكل الكلاسيكي للرأسمالية هو المخرج من الأزمات التي خلقتها و فاقمتها السياسات النيوليبرالية الأخيرة للنظام .
يتجلى هذا أساسا في الموقف من القطاع العام حيث يصطف اليسار الشرعي , و حتى اللا شرعي إلى حد ما , إلى جانب بيروقراطية القطاع العام التي نهبته لسنوات طويلة و التي يتراجع وزنها و تتهدد مصالحها جراء عملية الخصخصة الجارية بنشاط لصالح جناح آخر في النظام . و تغيب غيابا كاملا الحلول الثورية تلك التي ترفض هيمنة إما البيروقراطية الفاسدة القديمة أو “حل ” خصخصة القطاع العام لصالح جناح من السلطة و بعض المتعاونين معه , كاحتلال المصانع مثلا أو حتى الإضرابات كإجراء أقل حدة و ثورية للدفاع عن العمال في وجه الطرفين المتنافسين . هذا يعكس في الحقيقة طبيعة و بنية اليسار , في أغلبه , كقوة تعبر سياسيا و فكريا و بالتأكيد اجتماعيا عن البرجوازية الصغيرة , لم تشكل الطبقات الاجتماعية المهمشة نسبة غالبة في تنظيمات اليسار و حتى عندما وجدت إلى جانب البرجوازية الصغيرة جاءت بتهميشها الاجتماعي و الفكري و السياسي و الإنساني معها بينما جاءت البرجوازية الصغيرة بصلفها و غرورها و هذا ما جعل اليسار بعيدا عن تمثيل هذه الطبقات ناهيك عن قيادة أو حتى المشاركة في نضالها الاجتماعي بل إن جزءا هاما من اليسار اليوم يتحول إلى فئة مغرمة بالتنوير الليبرالي و العقل و الإنسان البرجوازيين على حساب أي حديث عن التفاوتات الطبقية التي تزداد بشكل هائل و غير مسبوق , لتضع معاداة الأصولية مثلا فوق المطالب و المطامح الاجتماعية للجماهير المهمشة , معتبرة أنها بذلك تمارس دورا مدافعا عن التنوير حتى لو حمته هذه القوة أو تلك , السلطة أو أمريكا وفقا للموقف السياسي اليومي لهذا الطرف أو ذاك من الاصطفافات السائدة .
رغم حدته يبقى الصراع الطبقي في مجتمعاتنا مشوشا عن قصد , و ذلك لأن القوى السياسية و الاجتماعية السائدة تعمل على إخفائه و تجييره لصالحها , خاصة و أن المشاريع القائمة أو المتنافسة لا تعبر بأي حال من الأحوال عن الطبقات الاجتماعية المهمشة , فتارة يدمجه القوميون بالنضال الاشتراكي و بذلك يجري إلغائه نظريا على الأقل لصالح السلطة الجديدة و تارة يخضع لأولوية التغيير الديمقراطي الذي يشترط بالنسبة لليبراليين فيما يشترط زيادة حدة التناقضات الاجتماعية كشرط ضروري لتحرر النخبة السياسي و الاجتماعي من هيمنة النظام , فالصحوة الليبرالية إن صح التعبير هي نموذج جديد من “ثورة برجوازية صغيرة” على استئثار البرجوازية الكبيرة التي أنجبها صعود الحركة القومية , تماما كما كان ذلك الصعود القومي نفسه في الخمسينيات و الستينيات عبارة عن ثورة برجوازية صغيرة على القوى الاجتماعية التقليدية التي شكلت مركز الحياة الاقتصادية و السياسية لحقبة ما بعد الاستقلال , الليبرالية هنا تستخدم بنفس الطريقة التي استخدمت بها المشاعر القومية المتأججة يومها و لنفس الغرض , و لما كانت البرجوازية الصغيرة الريفية و المدينية يومها , خاصة العسكرية , تمتلك سلاحين هامين للتغيير و هما الجيش و الشارع , بينما تفتقد البرجوازية الصغيرة و المتوسطة الليبرالية اليوم لهذين العاملين , و لما كانت الجماهير قوة أو عامل يجب ألا يتجاوز إطار التهميش , فإنها نظرت و تنظر إلى مشروع المحافظين الجدد “لنشر الديمقراطية بالقوة” على أنه سلاحها الأساسي في التغيير , هنا قد يبدو الجيش الأمريكي القوة المثالية لإحداث التغيير الليبرالي المطلوب , فأمريكا بنظر هذه البرجوازية قوة “تنويرية” و بمشروعها التوسعي الإمبراطوري تصبح أيضا قوة “تثويرية” كما كانت ترى الاتحاد السوفيتي السابق و نظريا يعتبر الليبراليون العرب أقرب القوى للمشروع الأمريكي , لكن ضعفهم في العراق مثلا جعل المؤسسة الدينية الشيعية هي الحليف الأقرب لمشروع الاحتلال و إن تهديد هيمنتها اليوم من تحالف علاوي ليس إلا نتيجة لصراعات إقليمية و ليس بالضرورة تعبيرا عن حاجة أو رغبة أمريكية ( هذا يؤكد المنحى الذي أخذه تطور القوى المهيمنة منذ الفترة المتأخرة من الحرب الباردة و الذي يميل لتدمير الثنائيات التقليدية المتنافسة عن طريق تحطيم الفواصل بينها و كشف جوهرها المتطابق : شرق – غرب , استبداد – ليبرالية , حداثة – أصالة , الخ ). من الهام هنا ملاحظة أن الشارع المؤيد للإسلاميين ينتمي إلى الطبقات الأكثر فقرا و تهميشا رغم أن بيروقراطية تلك الحركات الإسلامية تتألف أساسا من البرجوازية الصغيرة و المتوسطة المتحرقة للسلطة لتطبيق مشروعها اليوتوبي , و هنا يمكننا التساؤل عن المؤسسات السياسية السلطوية التي ستنتجها الموجة الجديدة من الثورات البرجوازية الصغيرة : الليبرالية و الأصولية , مقارنة بالأنظمة الفاسدة الاستبدادية التي نتجت عن الموجة الأولى من تلك الثورات ؟
يبقى من الصحيح ما قاله ماركس ذات يوم عن أن مهمة انعتاق المهمشين ستكون من صنعهم هم بالذات , هذا يبدو واضحا جدا , رغم أنه يختفي تحت طبقة هشة من محاولات طمس هذه الحقائق لصالح الخطابات و الطبقات السائدة……………

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى