صفحات مختارة

هل تستعصي منطقتنا على التحضّر؟

null


علي ديوب

وكما غطى سيد المقاومة الدمار الذي فاض على العاصمة بيروت، في تموز 2006، إلى واسع البراري والوديان، التي كانت يوما طبيعية، بيافطة خرافية الحجم والتأثير، في عيون المساكين، مكتوب عليها نصر إلهي (على ما في هذا من تنصل خفي من الإثم)؛ كذلك حاول معاونه وتلميذه في غزة أن ينسخ تفسيره (النصر اللهي) ويغطي به على الدماء والعذابات هناك. متنصلا من كل مسؤولية أو محاسبة أو مساءلة.

بضربة “صولد” للمقامرين بالقضية الفلسطينية، حصدت عصابات حاكمة منافع شتى، وبرّرت المتناقضات، على مدى عقود: فهي ذريعة صالحة لكل الأمراض الواقعة من الفقر وحتى القمع، مرورا بتعطيل التنمية. صارت الكلمة السحرية، التي خبروا فعاليتها من الأجداد، الذين لم يجدوا غير القتال والغزو (أخذ لاحقاً عنوان الجهاد)، ضماناً رابحاً لديمومة التسلط على رقاب أمة تسكن وتستكين لحكامها فقط، إذ يبقون عليها في حالة الشعور الغريزية بالخطر الغريب الداهم، أو المتحفز، أو الكامن في غيابات النفوس الكافرة المعادية.

يرى يوسف بزي تاريخنا: “تاريخ علاقاتنا العربية ـ العربية، والعربية ـ الايرانية، والعربية ـ الافريقية، والعربية ـ الغربية، تاريخاً من حروب باردة، نارية، مضمرة، علنية، خاطفة أو مديدة، محدودة أو واسعة النطاق”، كما لو انها تراجيديا شكسبيرية، أو ملحمة يونانية، تتصرف بها الأقدار، لقد أنشئ للحرب هنا، في دار السلم(!)، منهج للحرب، وآلية اشتغال ذاتية، يجعلها قابلة لأن تجدد موتها قرونا طويلة أخرى، حتى لتبدو أنها صارت في غنى عن أي افتعال أو إدارة. بما فيها إرادة آلهة الألب، أو افتعالات وأحابيل ياجو شكسبير. صارت الحرب في حالة وعي ذاتي، وحركة ذاتية، تستعصي على نظريات الفيزياء والطاقة. هي المستحيل الحادث، الذي يستحيل جعله مستحيلا على الحدوث.

واليوم، وكما في كل يوم، لابد من مواجهة تشكل مجتمع مدني، على هذه الرقعة (الرخوة السائبة ـ بتعبير يوسف)، يهدد بتغيير معادلة سلام القبور، التي تظلل المجتمعات العربية والإسلامية، وتميزها عن سواها.

ومن هنا تعرض لبنان ـ كأس الحرية الذي يسمم محيطاً شاملاً، تسوره كما يسور البهموت الحياة ـ لما يمكن أن يفتت إمبراطورية قوية، وتبدو كل محاولة جديدة لاستقلاله وسيادته، وازدهاره كنموذج للحرية والتحضر والسلام الاجتماعي، عملا ليس عبثياً فحسب، بل شديد الخطورة وكبير الكلفة؛ تكاد تكون كلفته مساوية لترسيخ واقع الحال المرفوض، وعملاً في صالح الدمار والتدميريين الذين يحاربون بشراسة لتطبيق المخطط الذي رسموه للبلد، كي يكون مكتبا يدار بالأبواط العسكرية لقطعان استمرأت جنته. وكتيبة متقدمة لنموذج دولة الملالي، في رسالة مباركة إلى البشرية، من ولاية الفقيه المعصومة، للأمة المعصوبة.

سحنة بيروت الدّرّية، في الستينات والسبعينات، لم تنقلب في غضون عقد واحد من السنين، فيصار إلى مسخها وتسخيمها سريعا، هكذا بجهود بسيطة، وذكاء ضئيل. يكفي أن نتأمل بتحول وضع المرأة، ولو على مستوى الشكل، لنرى أنه هكذا بقدرة قادر، خدمتها ظروف مواتية ـ من الحرب الدائرة، إلى تحكم الشقيق بردع من يراه ودفع من يحب، وخلق ما يشاء وإفناء ما ومن يريد ـ فتحولت المرأة في الشياح التي كانت تخالط البشر، وتزهو بجمال خلقتها.. تضحك وتشرب البيرة، إلى كائن حزين مقبوض وممتقع البشرة، تنقطع داخل شادورها عن الضوء والهواء والفرح. أو مخلوق ضئيل متحفز للشك والرفض: لا تقدر قيمة التفاهم، سواء بينها وبين الآخر، أو بين أولادها والآخرين. مستعدة فقط للدفاع ضد الناس، بوصفهم أعداء معروفين أو محتملين.

يكفي أن أقنعك بأن الآخرين أعداءك حتى توقن أنني ملاذك الوحيد: شفيعك وحاميك!

ثمة رسم كاريكاتيري لسعد حاجو يظهر شخصا ينصح آخر قائلا: إعرف عدوك. فيرد الثاني عليه: ولكن الإنسان عدو ما يجهل. هي عملية صراع بسيطة، رغم جوهريتها، بين المعرفة والجهل. بين التواصل والتجاهل. بين التفاهم والتخاصم. فحتى العدو الصراح يمكن للعلاقة معه أن تتحول إلى علاقة إنسانية طبيعية، عبر التفهم والتفاهم، وتجنب الكيدية وردات الفعل، والانسياق إلى التباغض معه.

الإنسان كائن تسووي­ على ما يكشف لك سلوك الطفل الرضيع ـ والعاقل الرابح أخيرا هو من ينجز التسويات الأسلم لكل الأطراف، ويستطيع أن يرتقي بنفسه وبنده إلى الأحسن والأسلم. أما ثقافة الشحن فتقوم على تجديد الحقد وتعليم الكره وتمتين اليقين بثنائية الحق والباطل. الحق هو نحن والباطل هو الآخرون؛ وإنها لمعركة بتكليف إلهي، لا تنتهي إلا مع حلول اليوم الموعود، حين يرد المؤمن التكليف لصاحبه، فيحسم أمر كل مخلوق مرة واحدة. ثقافة الشحن العقائدي هذه (والعقائديات الدنيوية والآخرية سواء) لا تنتج سوى العبيد في طرفنا والكفار في الطرف المستهدف.

ثقافة المقاومة تجل من تجليات اللغة القاطعة، التي تقسم العالم إلى شطرين، وتحشرك في زاوية المع والضد، فأنت إما مقاوم لك أن تفتخر وترفع رأسك، أو خائن عليك أن تطأطئ رأسك­ بل وأن تسلمه للمقصلة العادلة. أليست المقاومة واحدا من أخطر المسكوت عنه في ثقافتنا؟ منذ بضع سنين( 3 ـ 6ـ 2005ـ الحوار المتمدن)، نشرت ما يشبه السجال مع مقالة للرئيس الحص، يدافع فيها عن المقاومة وسلاحها، ورغم استخدامي في الحوار مع الكاتب لغة السؤال كما يلي( هل يستطيع أن يعلن اعتراضه على مبرر استقلال المقاومة عن سيطرة الدولة؟)، إلا أني بدوت لأحد الأصدقاء كما لو اني أمد يدي للشجرة المحرمة. وكلفني موقفي الصريح صداقة كنت أعتز بها، مع شخص لا أزال أحترمه. وقد يزداد الأمر غرابة أو مرارة حين نعلم أن الصديق يعيش معي في بلاد الغربة، ويتمتع بالمواطنة التي تنطوي على حقوق تؤمنها له ضرائب المواطن الأصلي، وكل يد أخرى عاملة في بريطانيا.

مرة أخرى أجدني مدفوعا لمشاركة يوسف قراءته للحرب بانها: تحدث في كل مكان: من تشاد الى السودان والصومال، إلى غزة والقدس وجنوب لبنان وزواريب بيروت إلى بغداد والحدود التركية، إلى المياه الاقليمية المتوسطية ومضيق هرمز وميناء البصرة، إلى افغانستان وشوارع نيويورك، وإلى أي محطة قطار في أوروبا“..

الصراع بين البشر بات ثقافيا على نحو مطرد، وباتت حقوق الإنسان، وما سواه من الكائنات الحية، والبيئة تاليا، هي النقاط التي تجمع وتفرق. وتلون خارطة الاصطفافات، الآن وصاعدا، رغم الجهود المستميتة لمرضى التدين التكفيري، وعصابيي العقائد والعرقيات التي تدافع عن وجودها ضد الانفتاح الهائل الذي حققته ثورة الاتصالات والتكنولوجيا الرقمية اللتين تمددتا وبسطتا مفاعيل العولمة على رقعة واسعة من الكوكب، كما لم يقيض لأي منجز بشري أو لأي إمبراطورية أن يحرز مثل هذا التمدد والتفعيل من قبل. فلا يوفر أولئك المتأدبون بالخضوع والتبعية، والمتلقنون ثقافة التفرقة والنفور من الآخر، والقمع والقطع ضده ومعه؛ لا يوفرون الجهد والمال والوقت، وسلوك أشد أنواع الصراع الهمجي ضراوة وانحطاطا، بما في ذلك تحزيم الأطفال بالمتفجرات، ثم الإفتاء بأنهم شهداء!)، و غير ذلك من طرائق حشد الأتباع، وأشكال تأجيج الحماس الجاهلي في الصدور، وتخويف المجتمع من الأغراب لإدامة خضوعه للحالة القطيعية، وتمثله غريزة الانتماء ما قبل العاقلة التي تدفعه إلى اللوذ في ظلهم، وطلب حمايتهم والانصياع لتحكمهم. كما لو انهم فعلا موقنون أن المعركة ـ في أي اتجاه أو مستوى ـ هي معركة فناء أو بقاء. أو معركة “وجود لا حدود” باللغة الثورية القومجية الموروثة من لدن عقائد شقيقة ـ دينية هذه المرة ـ في حركة عود أبدي تجعل هذه البقعة من الكوكب مستحيلة الاندراج في مدارج التطور البشري.

المستقبل – الاحد 30 آذار 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى