صفحات ثقافية

الهِجاء كَنَمط إنتاج

null
خيري منصور
مثلما حولت الحرب الباردة الثقافة في العالم الثالث إلى نمط إنتاج اقتصادي من طراز جديد، هكذا تحول الولايات المتحدة الآن جزءاً من ثقافتنا العربية إلى وسيلة تكسب، فالباب مفتوح على مصراعيه لمن يقدمون نقداً يصل حد النقض لكل مرجعياتنا الحضارية، لكنه مغلق ولا يسمع صريره أمام من يقرأون التاريخ كما هو وبمعزل عن الإسقاطات أو الإملاء، والتي دفعت مؤرخاً ألمانياً ذات يوم إلى القول: مزقّوا كتب التاريخ فقد كان الامبراطور يملي علينا ما نكتب .
نمط الإنتاج الثقافي في الحرب الباردة قدمت كاتبة بريطانية هي السيدة سوزان وثيقة لافتضاحه تحت عنوان مثير هو “من يدفع للزّمار؟” .
لكن مقابل زماري الحرب الباردة ثمة الآن طبالون للحرب على العرب والمسلمين، وهؤلاء يثيرون شفقة الصديق واشمئزاز الأعداء لأنهم يأكلون أنفسهم، ولا يدركون بأنهم الأمثولة المعاصرة لبراقش التي جنت على نفسها وأبنائها وأحفادها أيضاً .
ما يكتب تحت أي عنوان يوحي بإدانة هذه الحضارة واعتبار مرجعياتها حاضنات للعنف تتلقفه على الفور مؤسسات إعلامية ودور نشر وصحف تعتبر الأوسع انتشاراً في العالم، وقد لا يُطلب من المثقفين أو أشباهِهم أن يكتبوا في هذه المسألة أو تلك، إذ يكفي المزاج المبثوث والذي تُعولمه الميديا لإسالة لعاب هؤلاء، خصوصاً من أخفقوا في إنجاز أي شيء بلغاتهم وبين شعوبهم، فهم يكتبون لقارئ واحد هو المرسل إليه الذي يعرفون عنوانه جيداً، لكن هذا النمط من الإنتاج الثقافي يتم تهريبه من خلال أطروحات جاذبة وذات بعد إنساني ومعرفي، كالديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني . وكما كان مثقفو الحرب الباردة يستثمرون الصراعات لحساباتهم الصغرى فإن مثقفي حروب المارينز أو حروب ما بعد الحداثة يعزفون على وتر آخر، هو باختصار إعلان التوبة حتى عن الحليب الذي رضعوه وكتب المطالعة الأولى التي لثغوا بها في المدارس الابتدائية .
ويبدو أن المدرسة التي أنشأها فؤاد عجمي وآخرون ممن وعدوا الولايات المتحدة بالرقص في مآتم ذويهم كما فعلوا لحظة سقوط بغداد بدأت تتحول إلى أكاديمية كبرى، لها فقهاء وأحبار ودهاقنة، يبشرون بموت العربي وزوال أثره حتى عن أطلال أسلافه .
وما كتبه باتريك سيل ذات يوم عن بندقية للإيجار يصلح الآن وبدرجة أكبر على قلم للإيجار، وأحياناً للبيع، فالطرق كلها معبدة الآن إلى واشنطن وضواحيها النائية أكثر مما هي معبدة إلى سمرقند كما كان يقال في زمن غابر .
أكْتُبْ ما تشاء عن العرب والمسلمين وثقافاتهم واسْرَح وامْرَح في هذه السُّهوب المباحة والأهراء، فلن يعاقبك أحد، والعكس هو الصحيح، فالجوائز بانتظارك، والمطارات المحرّمة على سواك مفتوحة لك، شرط أن تعتذر عن اسمك إن كان محمداً أو عبدالله أو أحمد . . وأن تعتذر عن لون عينيك إن كانتا بلون عيني أبيك وأمك . إذن عليك أن تخلع حتى الوشم عن الذراع أو جدار القلب أو حتى شغاف الروح، وطلب الانتساب إلى النادي الجديد الذي يضمن لك السلامة والانتشار والكسب السريع لا يكلف كثيراً . . فالثمن مجرد كرامة وطنية، وكبرياء قومي وموروث علم الإنسان ما لم يعلم .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى