ما يحدث في لبنان

الوحدة الوطنية المتصدعة

خالد غزال
يحلو للبنانيين تجميل خلافاتهم واكسابها مضمونا لا يتطابق مع الواقع. فبعد حرب “اهلية صغيرة” شكلت تغييرا في ميزان القوى على الارض لصالح طرف طائفي مسلح، وبعد تعثر دام طويلا، “انشئ” ما عرف بـ”حكومة الوحدة الوطنية” التي عكست تناقضات الوضع المستجد. ليس من ظلم لهذه الحكومة إذا وصفت بأنها حكومة الاختلافات والاشكالات اللبنانية بامتياز، وتالياً حكومة المهاترات والضغائن التي تسيطر على النفوس اللبنانية من جميع الملل والطوائف والاطراف. ذلك أن مخاض التشكيل عكس حجم التصدع البنيوي اللبناني وصعوبة تلاقي اللبنانيين على الحد الادنى من خلافاتهم.
تجلت ميادين التصدع بداية في مناقشات البيان الوزاري التي عكست خلافا على منطق الدولة، هل يُقبل بوجودها كسلطة فوق سلطات الامر الواقع ام انها مجموعة دويلات يجب المناقشة حول تعايشها واقتسامها البلاد والسيطرة. اذا كانت المناقشة حول المقاومة وما يجب ان يكون عملها “في كنف الدولة” قد استدعت السجال الرئيسي رفضا لكلمة الدولة، فان هذا النزاع يعكس حجم الانقسام اللبناني الاهلي، كما يؤشر في الوقت نفسه الى حجم الخوف المسيطر على المجموعات اللبنانية من طغيان طائفة تمتلك السلاح في اخضاع الاخرين لهذا السلاح. تبدّى ان تعبير الوحدة الوطنية ليس اكثر من اكذوبة لبنانية سبق أن اعتادها اللبنانيون في مناسبة انفجار صراعاتهم واستعصاء التوصل الى حلول لها.
وتجلى تصدع الوحدة اللبنانية مجددا في مناقشات البيان الوزاري التي اظهرت بشكل “مكبّر” واقع الاجتماع اللبناني وما يحيط بالاتفاقات التي وقّعت وبالتعهدات التي اعطيت من هشاشة. لم يكن ينقص الجلسات هذا الحجم من ابراز التناقضات حول مكوّنات البلاد وقضاياها، الراهنة منها والتأسيسية، لاظهار صعوبة التعايش الذي يفترض أن يعيش اللبنانيين في ظله. عاد مشهد الحروب الاهلية يطل برأسه في خطب ممثلي المجموعات، فشهد المجلس مجددا خطابا طائفيا مليئاً بالتحريض واثارة الفتن. عادت البلاد الى أجواء استخدام لغة التكفير والتخوين والعمالة واللاوطنية وغيرها من منوعات “الثقافة الخلاقة” التي تبارى اللبنانيون في انتاجها، وطغت ثقافة “اهانة الاخر” بديلا من الوعود بالاعتراف بالاخر. لم يأت الاحتقان الكلامي على خلفية الغلبة الطائفية عبر السلاح التي تحققت في الاشهر الماضية فقط، بل انحكمت المناقشات بعامل آخر هو مخاطبة الجمهور اللبناني بلغة انتخابية، من اسسها ومقوماتها انها يجب ان تستثير الغرائز والاحقاد والنزاعات ليتمكن هذا الزعيم او ذاك من توحيد جمهوره حول خطابه وتكوين اصطفافات تلغي الحد الادنى من الفروقات بين ابناء البلاد بما يضع المواطن اللبناني امام خيارات احادية تفرض عليه ان يكون ضمن هذا “القطيع” او ذاك.
من غرائب الامور بل من نتائج التصدعات ان هذه الحكومة ستكون مشرفة على اجراء الانتخابات النيابية المقبلة، وهو امر “يتفوق” فيه اللبنانيون ويتفننون في اخراجه. من المعروف ان الانتخابات تجري في ظل حكومة حيادية ومن وزراء غير مرشحين الى الانتخابات، بما يضمن الحد الادنى من نزاهتها وعدم تدخل السلطة في تعديل نتائجها بما يتوافق مع مصلحة هذه القوة او تلك. لذا ليس غريبا ان تشهد البلاد نوعين من الحراك، يقوم الاول على توظيف كل وزير لمنصبه في خدمة الجهة التي يمثلها وتحويل الخدمة العامة الى خدمة خاصة، بكل ما يحمله هذا المسلك من حرمان لمناطق وفئات ومن دفق النعم على الجهات التي ينتسب اليها الوزير. والثاني تصعيد الشحن الطائفي والمذهبي واستحضار فزاعات تعيد اللبنانيين الى سنوات ظنوا انها باتت وراءهم، وفي طليعة هذه الفزاعات نغمة توطين الفلسطينيين والتحريض ضدهم بوصفهم المسؤولين عن انهيار الاقتصاد اللبناني، وهو امر يخدم في اثارة قوى طائفية شكل هذا الموضوع عنصرا من حروبها الاهلية. يتجاهل اصحاب هذا الطرح ان ربع قرن قد مضت على الموضوع الفلسطيني بصفته محورا من محاور الصراع الاهلي، وان الصراعات اللبنانية تدور منذ العام 1982 بين اللبنانيين انفسهم واستنادا الى خلافاتهم المستعصية.
في المقابل، وفي موازاة التحريض الطائفي والمذهبي والتهديد بفرض امر واقع جديد على الارض جوابا عن دفع السجالات الى حدودها القصوى في تظهير حجم الاختلافات، تسير بعض القوى في منحى “مغازلة” تيارات سلفية واصولية في وجه الهيمنة الطوائفية الجديدة. لا يصب هذا الاستحضار سوى في مزيد من التفسخ في الوحدة الوطنية وشحن اعلى للقوى الطوائفية تمهيدا للايام المقبلة غير السعيدة طبعا.
شيء واحد يمكن القول ان “الوحدة الوطنية” قد تحققت من خلاله هو توحيد الجمهور اللبناني تحت راية الثقافة الطائفية التي تستخدم لغة واحدة عمادها الشتائم والتخوين والتحقير وكل ما تزخر به اللغة العربية من بذاءة وسقط المتاع، بحيث تخرّج الطوائف اجيالا من شباب صاعد تؤمّن له هذه الثقافة حسن الفتك بخصمه الطائفي وجندلته في اول معركة ستحصل.
لن يكف اللبنانيون عن تحميل الاخر الخارجي مسؤولية صراعاتهم، وهو امر يتساوى في قوله الجميع. سيطول وقت ليعترف اللبنانيون بأن عجزهم عن مقاربة مشكلاتهم ومواجهة خلافاتهم ووضعها على طاولة المناقشة من اجل الوصول الى انتاج ثوابت مشتركة، سيظل العامل الرئيسي في انفجار المشكلات اللبنانية وخلق المزيد من الانهيار والتصدع في بنى المجتمع اللبناني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى