صفحات ثقافية

لجنة لمحاكمة الفائزين بجوائز الأدب!

null
راسم المدهون
لم تكن مناخات الساحة الثقافية السورية تحمل نذر عاصفة ما، تجاه الجوائز العربية التي يمكن أن تمنح لكتاب سوريين. لكن العاصفة هبّت فجأة، وبعد قليل من منح “جائزة نجيب محفوظ” للرواية للكاتب السوري خليل صويلح، وهي الجائزة التي تنظّمها هيئة النشر في الجامعة الأميركية في القاهرة، بإشراف لجنة تحكيم تضمُ عدداً من أبرز النقاد المصريين والعرب.
اسم الجامعة الأميركية بالذات هو الذي اتخذه رافضو الجائزة تبريراً لموقفهم، الذي أخذ منذ البداية طابعاً هجومياً حادّاً، إذ ذهب لإتهام الجائزة ومنظّميها بالإرتباط المباشر بالصهيونية، ما ترتّب على اتهام كهذا إتهام من نال الجائزة في وطنيته، وبالذات في ضلوعه في التطبيع.
هكذا يتساءل المثقفون اليوم :
هل عادت مناخات فصل أدونيس من “اتحاد الكتاب العرب” لتخيّم على أفق الحياة الثقافية السورية من جديد؟
سؤال يفرضه اليوم الجدل العاصف الذي أثارته مقالات وتصريحات نارية أطلقها رئيس اتحاد الكتاب العرب حسين جمعة، والكاتبة ناديا خوست ضد من أطلقا عليهم دعاة التطبيع من الكتاب السوريين، بعد حصول الروائي السوري خليل صويلح على “جائزة نجيب محفوظ”، وهي الشرارة التي طالت بالإتهام الكتاب السوريين الذين سبقت لهم المشاركة أو الفوز بإحدى مراتب “جائزة بوكر للرواية العربية”، ومنهم بالذات الكاتب الروائي خالد خليفة، الذي وصلت روايته “مديح الكراهية” الى أن تكون في القائمة القصيرة في الدورة الأولى للجائزة.
المحتجون على المشاركة في الجائزتين ينطلقون من فكرة أنهما “مشبوهتان”، إذ تنظّمهما جهات أجنبية معادية، دون أن تتوقف ذرائعهم عند هذا الحد، بل هي تتخطاه للحديث عن خروج الكتاب المتهمين عن “الثوابت الوطنية”، بانغماسهم في تأليف أعمال روائية لا تتكرّس لأدب مقاوم يرون هم أنه اللّون الوحيد المقبول، والمطلوب في التعبير راهناً عن المجتمع. رئيس اتحاد الكتاب العرب رأى في تصريحات له أن تلك الجوائز شجّعت الروائيين الجدد على كتابة أعمال روائية تتناسب مع ما تحبّذه لجان تلك الجوائز، في إشارة لروايات سورية تتناول الجنس، وتبتعد عن القضايا الوطنية الكبرى. اللافت في شأن الروايات السورية التي فازت بتلك الجوائز أنها حازت موافقة الرّقابة التي هي كما يعرف الجميع منوطة بلجان القراءة في اتحاد الكتاب العرب، أي أنها لم تكن قبل ذلك موضع اعتراض أو اتهام.
المسألة وكما قرأنا تجاوزت الاتهامات اللّفظية إلى تشكيل “لجنة” من الإتحاد للتحقيق مع الكتاب المتّهمين، ومعهم أيضا الروائي نبيل سليمان الذي يواجه تهمة المشاركة في كتاب عن مدن متوسطية شارك فيه كاتب إسرائيلي كتب عن تل أبيب، رغم أن نبيل سليمان سبق وأن أوضح أن مشاركته مع الكتاب المتوسطيين جاءت دون علمه بمشاركة كاتب إسرائيلي.
المسألة الأهم في كلّ هذا هو ما تشير إليه واقعة التحقيق في ذاته، إذ هي تتجاوز المألوف والمنطقي، أي الجدل والحوار، والرّد على الرأي بالرأي، ومقارعة الحجّة بالحجّة، وتقفز إلى “التحقيق”، أي إلى ما يقارب المساءلة القانونية، في شؤون أدبية إبداعية ليس مكانها التحقيق ولا ساحتها جلساته الأدبية.
مع ذلك فمن يقرأ تفاصيل الاتهامات وأسانيدها لا يعثر في الحقيقة إلا على مجرّد هواجس تخلط الشبهات بالأيديولوجيا، ولا يتوقف جدّيا أمام فداحة التهمة باعتبارها ترقى إلى مستوى الاتهام بالخيانة الوطنية، وكلُ ذلك دون أسانيد مقنعة، أو حجج حقيقية لها ما يبرّرها واقعياً.
هنا بالذات يعود الجميع لاستذكار واقعة فصل الشاعر أدونيس قبل قرابة العقد ونصف، والتي جرت أيضا بعد اتهامه بالتطبيع بسبب مشاركته في مؤتمر أدبي عالمي شارك فيه أدباء إسرائيليون، ما دفع إلى فصله من الإتحاد، ودفع الكاتبين المعروفين الراحل سعد الله ونوس، والروائي حنا مينه يومها للانسحاب من صفوف الإتحاد احتجاجاً على فصل أدونيس.
الذين يتابعون الحملة الجديدة يشيرون باستخفاف للاتهامات، وللمعركة كلّها، بل إنهم يذكّرون بأن عقدا ونصف العقد من السنوات لم تشهد تطبيعاً من أدونيس، بقدر ما شهدت عكس ذلك تماما، وهم يرون المسألة برمّتها تنتمي إلى نوع من المناكفات الأدبية غير الصحّية، وغير المقبولة بالطبع، خصوصاً وأن سؤالاً مهماً يطرحه هؤلاء عن معنى اتهام شاعر ومفكر بحجم أدونيس ومحاولة تشويهه سياسياً وأدبياً؟
الروائي خالد خليفة صاحب “حارس الخديعة” و”القرباط” و”مديح الكراهية” ومؤلف بعض أهم الأعمال الدرامية التلفزيونية رفض التهم جملة وتفصيلاً، واعتبرها نوعاً من القذف، وأعلن أنه قد يلجأ إلى القضاء في مرحلة معينة لمحاسبة أصحاب الحملة. أما زميله الروائي خليل صويلح فقد واجه بدوره تهماً مماثلة انطلقت بعد نيله جائزة نجيب محفوظ عن روايته “ورّاق الحب”، وأيضا بعد نشر الملحق الأدبي الذي يرأس هيئة تحريره خبراً عن رواية الكاتب ربعي المدهون “السيدة من تل أبيب”، وهو ما اعتبرته ناديا خوست غير مقبول لأن عنوان الرواية بحسب خوست “يروّج” لاسم مدينة تل أبيب، أي أنه يدعو للتطبيع أيضاً. وفي تصريحات ردّ بها على الاتهامات، أحال صويلح الأمر إلى نوع من المماحكات اللاّمجدية، سببها حسد بعض الكتاب الذين “انتهت صلاحيتهم” الإبداعية، وسعيهم إلى حرمان الناجحين من تأكيد فوزهم وجدارتهم وتميّزهم . وقد تساءل صويلح بسخرية عمّا إذا كان مطلوباً منه أن يعتذر عن نجاح روايته وفوزه بالجائزة.
من جديد تختلط الحيثيات الشخصية بالأيديولوجيا، فصاحبة الإسهام الأبرز في الاتهامات كلّها، الكاتبة ناديا خوست تروّج خلال كل ذلك لنوع محدّد من الأدب يرى الآخرون أنه ليس أكثر من تعبيرات أيديولوجية تنطلق من شعارات خطابية، تعكس سياسة جدانوفية لا يستقيم معها الإبداع، ولا تؤهله لتحقيق أية إنجازات ذات قيمة. في حين يرى “المتهمون” أن الأدب هو إبن الحياة، وهو تعبير عنها بأدوات جمالية لا يجوز أن “تتلطّى” خلف نبل الأهداف الوطنية.
كان يمكن لهذه الوقائع في سياقات صحيّة سليمة، أن تكون مثمرة وذات فائدة، لو أنها تنكبت عن أسلوب الاتهام والتخوين، وانطلقت من خلال إثارة أسئلة جدّية عن الكتابة وآفاق تحديثها وتطويرها، والممكن من وسائل تشجيع الأجيال الجديدة من المبدعين، لكنها وقد اتخذت هذا السياق الإتهامي بالذات ستنتج صراعات ضارّة جديدة، تثير الفتنة والنزاعات الفردية بين الكتاب، وتطلق نوعاً من صراع الأجيال وصراع الملكات الإبداعية، ولكن بطريقة مقلوبة، سلبية .
هل سيمثل “المتهمون” أمام لجنة تحقيق الإتحاد؟
ما يؤكده الكتاب المتهمون أنهم لن يفعلوا ذلك، بل إنهم ـ وباستثناء الروائي والناقد نبيل سليمان ـ ليسوا أصلاً أعضاء في “اتحاد الكتاب العرب” الذي يطلبهم للتحقيق، ما يعني انتفاء امتلاكه لأية صفة لاستدعائهم أو التحقيق معهم، وهنا أيضا يرى أغلبهم أن المسألة لن تتجاوز الصراعات اللّفظية، وستنتهي بسرعة وكما بدأت فجأة.
الحملة على “كتاب الجوائز الأدبية” أثارت ردود فعل عنيفة في أوساط الكتاب والمثقفين السوريين، فتناولها عدد منهم من خلال الصحافة والمواقع الالكترونية بمقالات غاضبة لم تخل مع ذلك من روح السخرية والتهكم، كما فعل الكاتب نبيل ملحم في مقالته في “شوكو ماكو”، وابراهيم الحاج عبدي في مقالته في الحياة.
حابل الرواية يختلط بنابل السياسة.
الروائيون الجدد مختلفون بالتأكيد، ومن يطلّ على المشهد الروائي السوري اليوم، سينتبه حتما إلى مساهمات مهمّة حقّقها خليفة وصويلح ومعهما عدد من الكتاب الشباب، ومنهم سمر يزبك وروزا ياسين حسن، وهي مساهمات من الطبيعي والمطلوب أن تتجاوز أفق الرواية السورية التقليدية، والتي بات واضحا أنها تعيش في مأزق إبداعي، سواء من خلال تقنياتها الفنيّة، أو حتى فضاءاتها السياسية والاجتماعية، إذ تراوح رواية جيل المؤسسين في حيز سياسي واجتماعي ضيّق، وتعجز عن الغوص في التطورات الكبرى التي شهدتها الحياة في المجتمع خلال العقود الماضية، وهي مسألة من البديهي أن تتصدّى لها الرواية الجديدة لمواكبتها ومحاولة التعبير عنها بأدوات فنيّة متقدمة.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى