صفحات مختارةميشيل كيلو

ضـلالات الحـق !

ميشيل كيلو
لا شك في القيمة التعبوية للفكرة التي ترى أن صاحب الحق منتصر حتماً. ولا شك في أننا عشنا، كجيل يحب وطنه، في أجواء هذه الفكرة، التي اعتبرت فوق أي نقد، وعُمّمت على مستوى يكاد يكون فلسفياً، حتى صرنا نعتقد بقوة أن الحق يهزم الباطل، في جميع الظروف والأحوال، ثم سحبنا هذا الاعتقاد الإيماني على واقعنا، فآمنا بنصرنا في فلسطين لأننا على حق، وبانتصار الاشتراكية على الرأسمالية، لأن الأولى ليست فقط على حق، بل هي الحق عينه. بيقينية هذا الضرب من التفكير، وضعنا أرجلنا في ماء الحتمية التاريخية البارد، وأعفينا أنفسنا من مشقة التفكير الذي يمكن أن يقودنا إلى الشك في مسلّماتنا، ومن التأمل العملي، الذي يؤكد أن التاريخ لم يذهب دوماً في الاتجاه الذي اعتقد الناس أنه كان عليه الذهاب فيه، وأن الحق لم ينتصر في جميع الحالات، وأن الباطل هزمه في أحيان كثيرة. مع الحتمية التاريخية، صرنا نتوهم أن ما لم نقدر نحن على فعله ستفعله بالنيابة عنا، ولمصلحتنا بالتأكيد، قوانين التاريخ الموضوعية، ذات القدرات العجيبة التي تمكنها من الإمساك بأعنة الواقع والتطور، وجرهما إلى حيث يجب عليهما الوصول: أهدافنا السامية، الإنسانية والنبيلة. صحيح أن باطل الرأسمالية صامد في وجه صواب الاشتراكية، ولكن إلى حين تفعل فيها القوانين الموضوعية ما قد نعجز نحن عن فعله، فتنهار: إن للحق جيوشاً لا نراها، تقاتل معركتنا فننتصر حتماً، لأنها جيوش الحق المسلحة بقوانين لا سيطرة للأشرار عليها ولا راد لإرادتها، هي القوانين الموضوعية: ركيزة الدين الجديد!
من الذي قال ذات مرة: إن الواقع لا يصير واقعياً إلا عندما تكتمل شروط تحققه، والحق لا ينتصر إلا عندما يؤسس البشر شروط انتصاره، في وعيهم وواقعهم، أي أنه لا ينتصر بذاته أو لأنه مجرد حق؟ ومن الذي أضاف: أما الباطل فهو ينتصر، إن واجه حقا لم تكتمل شروط تحققه، وتاليا غلبته، وإنه لا يمكن أن يهزم، إن هو استولى على عقول البشر أو عبر عن مصالحهم وحققها، مثلما حدث مرات كثيرة في التاريخ؟ أخيراً، من الذي جادل قائلا: الحق والباطل نسبيان، يتصلان بإرادة البشر ووعيهم ومصالحهم، والبشر يخطئون، وفي الإسلام العظيم: لا يصلح الله ما بقوم حتى يصلحوا ما بأنفسهم، فهي ـ أنفسهم هذه ـ وليس القوانين الموضوعية، العامل الحاسم في الهزائم والانتصارات السياسية والاجتماعية، وحسم صراعات البشر، الذين قد يكونون على صواب في ما يطلبون وعلى ضلال في ما يعون، وقد يكونون اليوم على وعي وغدا على آخر، ويقبلون التخلي عن مطالب بعيدة من أجل مكاسب آنية، وقد لا يطلبون ولا يعون من أمورهم شيئا، دون أن يغير ذلك حقيقة أن الحق والباطل يرتبطان بهم في هذه الحالات جميعها، فعن أي حق مجرد وباطل صرف نتحدث، وكيف ينتصر حق مجرد على باطل صرف، إذا أخطأ البشر في مواقفهم منهما؟
في نظرتنا، كان من المحتم أن ينتصر العربي والفلسطيني على الباطل الإسرائيلي والصهيوني. وكان انتصار الاشتراكية على الرأسمالية مسألة محسومة. كما كانت الوحدة العربية آتية لا ريب فيها، لأنها تعبير عن حق العرب في استقلال يردهم إلى حالهم الطبيعية، وليدة القوانين الموضوعية والحتمية التاريخية. لكن الحق العربي والفلسطيني لم ينتصر، بل انتصر الباطل الصهيوني. ولم تنتصر الاشتراكية بل هزمت. ولم تقع الوحدة العربية بل تفاقم انفصال العرب بعضهم عن بعض، وتعاظم عداؤهم بعضهم لبعض، حتى ليتساءل المرء إن كانوا ينتمون حقا إلى أمة واحدة، أو إن كانت الأمة العربية حقيقة فعلية أم مجرد وهم أيديولوجي من أوهام القوانين الموضوعية والحتمية التاريخية. في هذه الحالات الثلاث، هزم الباطل الصواب وتعذر إحقاق الحق، لا لسبب غير ما سبق ذكره: عمل أتباع الباطل بطرق صحيحة، بينما تاه أتباع الحق في ضلالات أوهامهم، ولم يفعلوا شيئا صحيحا لنصرته، فأفهمهم الواقع أن الحق لا يساوي شيئا بذاته، وأنه لا يكون حقا إلا بالنسبة إلى البشر وبدلالتهم، فإن لم يفهموا ذلك أو فهموه ولم يفعلوا شيئا يؤسس لانتصاره في الواقع الملموس، هزمه الباطل شر هزيمة، كما وقع لنا نحن العرب في حزيران من عام 1967، وللسوفيات عام 1991.
نحن أصحاب حق في فلسطين. هذا الصحيح لا يغير شيئا من واقع هزيمتنا أمام الباطل الصهيوني، ولا يحمينا من هزائم قائمة أو مقبلة، إذا واصلنا الاتكال على حتمية تاريخية مجردة ما، أخلاقية الطابع، تفتقر إلى أي بعد عملي/ واقعي، وواصلنا تجاهل الأمر الرئيس: خلق شروط عملية فاعلة في واقعنا وواقع عدونا، ترجح كفة حقنا على باطله، تتصل بقدرتنا على وعي هذا الواقع والتأثير فيه، أكثر مما تتصل بكلام يقيني حول حقنا المقدس وباطله النجس، وعلى إيجاد وسائل وأدوات مناسبة تمكننا من تغيير الواقع لمصلحتنا، بالفعل وبالملموس وليس بالكلام والمجردات الغيبية.
إذا نجحنا في امتلاك هذا الوعي وإقامة هذه الشروط، يصير حقنا حقيقيا ويهزم باطل العدو. أما إذا واصلنا الاتكال على قوة التاريخ الغيبية، وعلى قوانينه الموضوعية، التي نتوهم أن لها قدرة جبرية تستطيع فرضها دوماً على التطور والبشر، فإن هزائمنا بالأمس لن تكون شيئا يذكر بالنسبة إلى هزائمنا المقبلة، على يد الباطل الامبريالي/ الصهيوني بالذات، الذي هو أشنع وأفظع باطل عرفه تاريخنا. بدل أن ننصرف إلى تأسيس حقنا المجرد في واقعنا الملموس والمتعين، عبر وعي مطابق قدر الإمكان، وأفعال مناسبة إلى أبعد حد ممكن، فإننا نذوب واقعنا الملموس في مفهوم وهمي عن الحق، فنساعد بسلوكنا، الذي يوقف الواقع على رأسه، أعداءنا على هزيمتنا، مع أننا نوهم أنفسنا أننا على حق في ما نقول ونفعل، وهنا الطامة الكبرى!
بعد قرابة نيف وقرن من الصراع والهزائم، مع إسرائيل وغيرها، يجب أن نشعر بالخجل ونحن نذكّر أنفسنا بضرورة التخلي عن ضلالات وأوهام حقنا، المنتصر حتما وحكما، والانتقال إلى دنيا الواقع، الذي يجب أن نصنعه بأفعالنا، ولا مفر من أن نحسن صنعه، إذا كنا نريد، أخلاقيا وعمليا، تلبية متطلبات الضرورة ومستلزماتها، التي لا يتوقعن الحق ولا ينتصر على الباطل، بدونها أو خارجها.
مع الحق الذي قاتل صاحبه من أجل انتصاره، يكون المرء فارسا، كما يقول المثل الشائع. في غير هذه الحالة، ومهما كان حقه ثابتا ووطيدا وجليا، لا يكون غير أبله يثير الرثاء، يستكين لأوهام يكذبها الواقع دون رحمة!
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى