صفحات مختارة

في ضرورة خلق نواةٍ جديدةٍ لليسار

null
* راتب شعبو
اليوم، أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى، يقف مفهومُ “اليسار” عاجزًا عن إعانة مستخدِميه، بعد أن بات هيكلاً أجوفَ لا يُبقيه على قيد الحياة، في شكله المتوارَثِ على الأقلّ، سوى “قلّةِ الموت،” بل قلْ قلّة النقد! ولتلمُّسِ مدى قصور هذا المفهوم يمْكن مثلاً التساؤلُ عن فائدة مفهوم “اليسار” في التحديد السياسيّ بين اتجاهيْ يلتسن وغورباتشوف في مطلع تسعينيّات القرن الماضي (تحدَّدَ الصراعُ حينها بين محافظين وإصلاحيين)؟ وما هي فائدتُه في التحديد السياسيّ بين قوى 8 و14 آذار في لبنان، أو في التحديد السياسيّ بين اتجاهيْ “فتح” و”حماس” في فلسطين (تلعب الصفةُ الوطنيّةُ الدورَ المحدِّدَ هنا أكثرَ من غيرها)؟ وأيّهما اليسارُ في إيران اليوم: أحمدي نجاد، أمْ مير حسين موسوي؟ وما معنى اليسار في الخارطة السياسيّة الإسرائيليّة؟ وما معنى اليسار في التوصيف السياسيّ للأحزاب الحاكمة في أوروبا وأمريكا؟ سوف يجد من يدقّق النظرَ أنّ مفهوم “اليسار،” بمعناه القديم على الأقلّ، عديمُ الفائدة، ولم يعد أداةً للفهم (هذا إذا كان يومًا كذلك).
فمع انتهاء الحرب الباردة وارتطامِ “اليسار” العالميّ بالحائط الذي عمي أو تعامى عنه، انهارت وتشظّت جملةُ القياس التي خَدمتْ يومًا في تحديد يساريّة اليسار. وجملةُ القياس الجديدة، الأحاديّةُ القطب، التي بدا وكأنّها تكاملتْ وتوضّعتْ من خلف ظهر اليسار، لا تتعرّف على الهويّة اليساريّة السابقة. بكلامٍ آخر: إذا كان العنصرُ يستمدّ معناه من موقعه في جملةٍ أو بنْيةٍ معيّنة، فإنه لا يكون مطابقًا لذاته إذا وُجد في بنيتين مختلفتين. وبالتالي فإنّ التغيّر الذي حصل في بنْية العالم مع فشل المحاولة الاشتراكيّة للخروج عن العالم الرأسماليّ (وهو تغيّرٌ جوهريٌّ من وجهة نظر اليسار السابق نفسه الذي كان يسم مرحلةَ ما قبل تفكّك المنظومة الاشتراكيّة بأنها “مرحلةُ الانتقال إلى الاشتراكيّة”) انعكس تغيّرًا في موقع اليسار السابق ودلالته. لقد تغيّر حالُ اليسار جرّاء تغيّر ما يحيط به؛ فها نحن إذًا أمام قومٍ “غيّر اللهُ ما بهم” من دون أن يغيّروا ما بأنفسهم!
***
إذنْ، لا محلّ هنا للسؤال “عمّا تبقّى من هويّة اليسار؟”. السؤال المجدي اليوم هو ما هي الهويّة الجديدة لليسار (إذا حافظنا على التسمية) أو للتيّارات والقوى والأفكار التي تتولّى ضمن الجملة العالميّة الجديدة المهامَّ التي كان يُفترض أنّ اليسار “السابق” كان يتولاّها ـ وهي مهامُّ أصليّةٌ أوْلى من “الاشتراكيّة” ومن “الديمقراطيّة” وأكثرُ أساسيّةً من كلّ المفاهيم التي تُنحت ثم توضع في براويز وتتحوّل شعاراتٍ وتفقد عمقَها ومعناها وحيويّتَها: إنها مهامُّ التوصّل إلى علاقاتٍ اجتماعيّةٍ اقتصاديّةٍ سياسيّةٍ تحمي الغالبيّةَ الغالبةَ من الناس من جوْر النخَب وأصحابِ الامتيازات وتكتّلات المصالح، وتتيح لهم التمتّعَ بثمار عملهم بعدل، والتمتّعَ بحريّة الاختيار، وبحقّهم في العيش بكرامةٍ وأمان. والواقع أنّ الرأسماليّة في كلّ مراحلها عجزتْ عن تحقيق هذه المهامّ، وقد خُيّل لـ “اليسار” السابق طوال حقبة من الزمن أنّ الاشتراكيّة (الأمميّةَ عند بعضه، أو القوميّةَ عند بعضه الآخر) هي الحلّ، ثم تبدّى بالتجربة التاريخيّة خلافُ ذلك. إذن، يتعيّن البحثُ عن سبيلٍ آخر، أيْ عن هويّةٍ أخرى. ولا معنى في هذا السياق للكلام عن فصل الفكرة عن حامليها، كأن يقال إنّ الخلل كامنٌ في التطبيق لا في الفكرة: فالفكرة هي ما يتجسّد ممارسةً في الواقع، وسوى ذلك يمثّل فكرةً أخرى ولو حملت الاسمَ نفسَه، وإلاّ وقعنا تحت طائلة الفصل الجوهريّ المغلوط بين تقديس الفكرة “المنزَّهة” أبدًا ورجمِ الممارسة “الدنسة” أبدًا. وإذا كان هذا الفصلُ الخاطئ مألوفاً لدى الإسلاميين الذين لا يستطيعون الخلاصَ منه نظرًا للقداسة المعلنة لمراجعهم، فإنه يدعو إلى الاستغراب عند من يعلنون عدمَ قداسة مراجعهم واستعدادَهم الدائم للمراجعة والنقد.

***
لم يكن اعتناقُ الماركسيّة، ولا الدفاعُ عن الاتحاد السوفياتيّ، ولا الإيمانُ بالصراع الطبقيّ، عواملَ مشتركةً بين اليسار. لم تكن هذه العواملُ متوفّرةً مثلاً عند أحد أبرز رموز اليسار العربيّ، الرئيس جمال عبد الناصر، ولا عند الحكومات السوريّة “اليساريّة” المتتالية بعد انقلاب 8/3/1963، أو جزائر بومدين أو ليبيا القذافي … الخ. كان القاسمُ المشتركُ الأعظمُ لليسار هو العداء (أو حتى التعارض) مع الإمبرياليّة، مجسّدةً بالسلطات الحاكمة في الغرب وبمن لفّ لفها واتّسق مع نهجها من “السلطات الرجعيّة” ـ وهذه بدورها تسميةٌ نسبيّةٌ، مثلها مثل “اليسار،” وتحيل على تصوّر حركةٍ تقدميّةٍ للتاريخ تعمل تلك السلطاتُ على إعاقتها، لا بل على “إرجاعها” (يمْكننا بشكلٍ عابرٍ أن نتساءل: ماذا حلّ بمفهوم “الرجعيّة” هذا بعد أن تكشّف أنّ المراكز الرأسماليّة، التي ترتبط بها هذه السلطاتُ وتحمي مصالحَها، هي اليوم “قاطرةُ التاريخ،” وبعد أن صار بعضُ اليساريين السابقين يروْن أنّ الرأسماليّة هي اليوم في ريعان شبابها، أيْ قوة “تقدميّة”؟). أما اليوم، وقد حلّ مفهومُ “الديمقراطيّات الغربيّة” ومفهومُ “المجتمع الدوليّ” محلَّ مفهوم “الإمبرياليّة،” وباتت فكرةُ “الديمقراطيّة البرجوازيّة” هي السلاحَ الأمضى (على ركاكته) ضدّ الاستبداد السياسيّ، فإنّ القاسم المشترك الأعظم لليسار قد تطاير وتطايرتْ معه ركائزُ المفهوم.
يصْعب على اليسار العربيّ أن يُقرّ بأنه وصل في سيره إلى طريقٍ مسدود. ولطالما رأى الإسلاميين يَنْبشون في نصوصهم الخالدة ليُثْبتوا إنهم سبّاقون في كلِّ ما يأتي به العلمُ من جديد: ففي الزمن الاشتراكيّ يَستخرجون من هذه النصوص ما يؤكّد اشتراكيّتَهم، وفي الزمن الديمقراطيّ يستنطقونها لتقول إنهم أصلُ الديمقراطيّة. هكذا التقط اليساريون هذا الدرسَ الأورويليَّ المحْزن، وراحوا ينبشون في ماضيهم وأدبيّاتهم ما يقول إنهم ديمقراطيّون في الأصل. وهناك مَن تعمّق أكثر سعيًا وراء تأصيل نفسه ديمقراطيّاً، فقال إنّ “الاشتراكيّة هي الديمقراطيّة ذاتها حين تتطوّر ويتعاظم مضمونُها الاجتماعيّ.” ليس الغرض هنا، بالتأكيد، الانتقاص من قيمة هذا القول الوارد في مشروع موضوعات حزب الشعب الديمقراطيّ السوريّ للمؤتمر السابع، بل التدليل على تبعيّة اليسار لما يمْكن أن نسمّيه “الموضة السياسيّة،” وسعيه إلى تقديم نفسه وفقَ ما يلائم هذه الموضة من أجل مقبوليّةٍ شعبيّةٍ (وغير شعبيّة ربّما).
اليوم يجد “اليسارُ العربيُّ،” المستجدُّ بالفعل على ساحة الديمقراطيّة، نفسَه بعد أن نضا عنه ثوبَ الاشتراكيّة العتيقَ الزيِّ نزوعًا إلى الترهين (updating)، وهربًا من تبعة الفشل (من الطرافة أنّ بعض اليسار السابق صار يهرب من كلمة “الاشتراكيّة” إلى كلمة “الاجتماعيّة” القليلةِ الإيحاء، مستفيدًا من أنّ كلمة socialism تَقْبل الترجمتين)، وبعد أن تعامل طويلاً مع مفهوم “الديمقراطيّة” على أنه سلاحٌ برجوازيٌّ رجعيٌّ في المعركة الإيديولوجيّة ضدّ الاشتراكيّة، وعلى أنه يكرِّس سلطةَ رأس المال المعتَبَرِ أصلَ الشرور الاجتماعيّة قاطبةً. هذا اليسار العربيّ يجد نفسه كتفًا إلى كتف مع سلطات رأس المال الرئيسيّة في رفع راية الديمقراطيّة. ويزيد في مأزق هذا اليسار أنّ القوى الديمقراطيّة الرأسماليّة العريقة، التي وجد نفسَه بين ليلةٍ وضحاها في خندقها “الديمقراطيّ،” هي نفسُها القوى التي تدعم الاستبدادَ الذي يحاربه؛ وهي نفسُها القوى التي تفشل ديمقراطيّتُها في رؤية حقوقٍ وطنيّةٍ أساسيّةٍ للشعوب العربيّة التي يسعى اليسارُ العربيّ إلى الدفاع عن قضاياها؛ وهي نفسُها القوى التي تساند وتحابي أكثرَ الأنظمة العربيّة تساهلاً وتفريطًا بهذه الحقوق؛ وهي نفسُها القوى التي تساند وتحابي (و”بمبدئيّةٍ” عجيبة) إسرائيلَ في سياساتٍ عنصريّةٍ موصوفة. إنه مأزق قلّما وَجدتْ نفسَها فيه أيّةُ حركةٍ سياسيّةٍ أخرى. وتحت ضغط هذا المأزق ظهر قوسٌ من السياسات “اليساريّة” يتدرّج من الإحجام عن نقد السياسة الأمريكيّة، لا بل دعوة “الإمبرياليّة” الأمريكيّة إلى تصدير ديمقراطيّتها في بطون الدبّابات والصواريخ الذكيّة، إلى الدعوة للدفاع عن أنظمةٍ عربيّة، على استبداديّتها، في وجه أيّة محاولةِ تغييرٍ لها من الخارج. يساران لا يَسْهل على العقل ردُّهما إلى رحمٍ واحدة.
***
الواقع أنّ ما حلّ باليسار العربيّ (كجزءٍ من اليسار العالميّ) قبيْل الانتصار المبِين للرأسماليّة في الحرب الباردة وبعده شبيهٌ بما أصاب جيشَ آغاممنون على أسوار طروادة من تداعيات الإخفاق والقنوط. يمْكنك أن ترى داخل جيش اليسار هذا مذهبًا مكابرًا لا يرى في الهزيمة سوى انتكاسةٍ، أو ربما تمهيدٍ، لنصرٍ يساريٍّ (اشتراكيّ) قادمٍ لا ريْب فيه رغم كلّ شيء، ولا داعي إلى إعادة النظر في المفاهيم التي ورِثها عن الأوّلين جاهزةً لتدرَّ عليه المعرفةَ الأكيدةَ المُطْمَئنَّة والمُطَمْئِنَة. وترى مذهبًا مطاوعًا لاءم مفاهيمَه القديمة مع جملة المفاهيم الليبراليّة المنتصرة، تمامًا كما لاءم الوثنيون معتقداتِهم وطقوسَهم وأدخلوها متنكّرةً في العقيدة الدينيّة الشموليّة التي سيطرتْ على مناطق وجودهم… مع فارقٍ جوهريّ، هو أنّ هؤلاء حاولوا خدمة معتقداتهم القديمة واحترامَها داخل جلباب الدين الجديد، في حين يعمل اليساريون المطاوعون على خدمة “الدين الجديد” بإذلال معتقداتهم القديمة: فتصبح السياسةُ الأمريكيّة الحربجيّة والاحتلاليّة والتمييزيّة التي لا تراعي أبسطَ قواعد العدالة، نوعًا من “ضرورةٍ تاريخيّةٍ” في وعي هؤلاء. هكذا بدا لهذا الوعي احتلالُ العراق وتدميرُ الدولة العراقيّة وتفكيكُ المجتمع العراقيّ والعودةُ به إلى الخلف صعودًا؛ وهكذا تبدو الآلامُ الناجمةُ عن هذه السياسة (من تهجيرٍ وتدميرٍ ومجازر…). إنه مذهبٌ ارتداديٌّ أفاق فجأةً على فكرة البراغماتيّة، فتوسّل منها نسخةً وضيعةً لا ترى ضيرًا في تغذية طاقات التباين الطائفيّ والمذهبيّ لاستثمارها في عمليّة تغييرٍ غيرِ محدَّدة الوجهة. وإنها براغماتيّةٌ يتسلّح بها مَن لا قدرة له على الدخول من الباب الضيّق (التحليل والنقد السياسييْن للسلطات السياسيّة التي تستعمر الدولة) استسهالاً للدخول من الباب الواسع (إحلال “التحليل” الطائفيّ محلَّ التحليل الطبقيّ السياسيّ) الذي لا يدرك أحدٌ إلامَ يفضي وإنْ كان الدخولُ منه سهلاً.
***
لقد بلغتْ قوى اليسار العربيّ السابق مرحلةً متقدّمةً من التحلّل بعد أن فقدتْ تماسكَها الداخليّ وراحت تخْسر كتلتَها لصالح قوى جذبٍ أخرى، هي القوى التي تمثّل أحدَ المشروعين المتصارعين في المنطقة: المشروع الأمريكيّ، والمشروع المناهض له والذي يغْلب عليه الطابعُ الإسلاميّ. واللافت أنّ القوى المتصارعة (الأمريكيّة والإسلاميّة) تجتمع على معادة اليسار العربيّ وما يمثّله أو كان يمثّله. إذن، لا تعترف الخارطةُ السياسيّةُ الجديدةُ للعالم باليسار كما كان يحدَّد في السابق. وهذا يعني أنّ ثمة مصالحَ عامّةً، مصالحَ لكتلٍ بشريّةٍ واسعةٍ تغيب تحت ستار الصراع المذكور الذي تحاول الآلةُ الإعلاميّةُ المسيطرةُ تضخيمَه من أجل المزيد من الحجب.
الواقع الجديد يستوجب، إذنْ، ولادةَ يسارٍ جديدٍ يبني هويّتَه على نواةٍ مستقلّةٍ عن ذاك الصراع، وعلى بحثٍ جادٍّ ومتحرِّرٍ من أسْر المفاهيم المنجَزة عمّا يحقّق بالفعل مصالحَ الطبقات الشعبيّة، سواء بتعبيراتٍ أهليّةٍ أو نقابيّةٍ أو سياسيّةٍ أو سواها.
دمشق

* كاتب من سوريا.
مجلة الآداب » ٤-٥/ ٢٠١٠

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى