صفحات سورية

انقلاب في المشهد الشرق أوسطي؟ … مدخل تركي للتفاوض بين سورية وإسرائيل

null

رضوان السيد

بدا المشهدُ التركيٌّ – السوريُّ بدمشق يومَ السبت الماضي مَهيباً وغير عادي، على رغم أنه ما كان مفاجئاً. فمنذ زيارة الرئيس بشار الأسد الأُولى لتركيا عام 2004، قال لي أكمل الدين إحسان أوغلو، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي،
(وكان وقتها لا يزال رئيساً لمركز التاريخ والفنون والآثار التابع للمنظمة بأسطنبول، واستقبل هو وعقيلته الأسدَ وزوجته في مركزه آنذاك) إنّ العلاقة بين سورية وتركيا تتجاوز الاقتصاد ومشكلة الأكراد إلى المدى الجيوسياسي، والصراع العربي – الإسرائيلي. وقد تكرر الحديثُ نفسُه خلال الزيارات المتبادَلة في السنوات الثلاث الماضية، وذكره عبدالله غل الرئيس التركي الحالي، ووزير الخارجية السابق، مرتين على الأقلّ. وقد كان بين أسباب النسْيان أو التناسي في كل مرةٍ أنّ السوريين سارعوا دائماً إلى اتّهام إسرائيل بأنها لا تُريدُ السلام، وأنّ الإسرائيليين بدوا متردّدين في «تصديق» وعود الأسد تارةً، وفي إيثار القنوات السرية المباشرة وغير المباشرة تارةً أُخرى. لكنّ السبب الحقيقيَّ لانصراف الأذهان عن هذه القناة الجدية كان ولا يزال العلاقة الاستراتيجية القائمة بين إيران وسورية منذ أكثر من رُبع قرن، وتصاعُدُ المواجهة بين «المحورين» الأميركي والإيراني في السنتين الماضيتين. وقد امتدّت مجالات المواجهة إلى العراق ولبنان وفلسطين والنووي الإيراني، وأخيراً النووي السوري أيضاً! لكنْ في مطالع العام الماضي (2007) تسلَّلَ إلى خبراء استراتيجيين إسرائيليين الاعتقاد بأنّ نظام الأسد جدّيٌّ في اعتبار استعادة الجولان أَولوية، لكنهم رجَّحوا أحدَ مشهدين أو آليتين: الآلية الصاعقة التي اختارها الرئيس أنور السادات بالذهاب إلى إسرائيل عام 1977. أو الآلية التسلُّليّة التي اختارها ياسر عرفات بالمفاوضات السرية بأوسلو عام 1992/1993. ويبدو أنّ الطرفَين حاولا أُسلوب أوسلو لمدةٍ طويلةٍ نسْبياً، بعيداً بقدْرٍ كافٍ عن عيون (وليس عن أسماع) كلٍ من الأميركيين (الذين تعَّودوا على الصَخَب والضجيج أيام الرئيس جورج بوش الابن) والإيرانيين (الذين مارسوا الصَخَب إلى أقصى الحدود أيام الرئيس محمود أحمدي نجاد). وما نجح ذلك الأُسلوب، لأنّ سورية أصرَّتْ منذ البداية على البدء بوديعة رابين فتردد الطرفُ الإسرائيلي، وعندما وافق الإسرائيليون على السير على وقْع الوديعة (بعد مجيء وزير الدفاع الإسرائيلي ايهود باراك إلى الحكومة على أثر حرب تموز)، عادت المفاوضات للتعثُّر في طرائق الإعلان. ثم توقَّف كل شيءٍ بعد الغارة الإسرائيلية على شمال سورية. والواقعُ أنّه لا طريقة الإعلان ولا الغارة كانتا سبب التوقُّف، بل لأنّ نظام الرئيس الأسد ما كان جاهزاً بعد للخطوة الحاسمة والمتمثّلة في «الإجراءات المتبادَلة»: استعادة السيادة على الجولان المحتل، في مقابل الخروج من محور المواجهة والمجابهة الشرق أوسطي: المحور الاستراتيجي مع إيران.

لقد ظلَّ الأميركيون والأوروبيون والعرب، وفي شتى نقاط نقاشاتهم وجدالاتهم مع الرئيس الأسد ومساعديه وفي شأن العراق ولبنان بالتحديد، يركّزون على ثلاث مسائل: طبيعة أَولويات النظام السوري، وهل يستطيع مفارقة إيران، وهل يستطيع الوفاءَ بالوعود التي يقطعُها على نفسِه ونظامه حتّى في حالاتٍ تفصيلية؟ وقد فقدت بعضُ الأطراف (مثل الولايات المتحدة) صبرَها معه، في حين فقدت أطرافٌ أُخرى ثقتها، وانكفأت أطرافٌ ثالثةٌ عن التواصل معه اعتقاداً منها بتردُّده الدائم أو عجزه. وما كَلَّ الأتراكُ ولا مَلُّوا، وتارةً بسبب الإلحاح الإسرائيلي، وطوراً بسبب التقلُّب الأميركي، وأخيراً للانقطاع العربي بعد الأوروبي عنه. وللأتراك مصالح كبيرةٌ ومستقرةٌ مع سائر الأطراف بالمنطقة. وقد بدا اهتمامُهُمْ في السنوات الأخيرة واضحاً في الحضور بالمشهد، دونما مشاركةٍ في الاشتباك الحاصل بين الأطراف الرئيسية والصغيرة. وقد بادلتْهم سائرُ الأطراف الإقليمية والدولية اعتباراً باعتبار. لكنْ لا شكَّ أنّ النظام السوريَّ هو في حاجةٍ إليهم الآن، أكثر من حاجتهم إليه بكثير. فهو منكشفٌ تجاه المجتمعَ الدولي وحتى تجاه روسيا. وهو منكشفٌ تماماً في المحيط العربي، كما دلّ عليه اجتماع الكويت من أجل العراق ولبنان، بعد مناكفات القمة وخيباتها. وهو عندما يقرِّرُ أخيراً المصير إلى التفاوُض مع إسرائيل بهذه الطريقة يقومُ بأمرين: تظهير أولوياته، وأنها في الجولان، وليس في لبنان أو العراق أو فلسطين، وأنّ هذه الاستدارة (بعيداً من رهاناتِه السابقة وخصوماته)، إنما يحتاج في إنجازها الى مظلةٍ والى حمايةٍ، استراتيجية وأمنية وعسكرية، لا يمكنُ أن تؤمِّنهما له في الظروف الحاضرة غير تركيا. ويمكنُ قَبولُ رواية النظام السوري التي تقول إنّ إسرائيل هي التي تقدمتْ بالعرض من خلال تركيا، لكنّ النظام نفسَه ولا شكَّ هو الذي أخذ المبادرة بالاستجابة. وستترتّبُ على ذلك نتائج كبرى، تُشْبهُ تلك التي ترتبتْ على كامب ديفيد أو أوسلو. فأردوغان لا يأتي بنفسه إلى دمشْق بسبب العلاقات الوثيقة بين النظامين، ولا بسبب المنتدى الاقتصادي التركي – السوري والاستثمارات ببلايين الدولارات. فالاستثمارات ماشية، والعلاقات ممتازة. وإنما يأتي إلى سورية باعتبارها قد حدَّدت خياراتها بالفعل، ووصل الأمر إلى نقطة اللارجوع. ولو أنّ الأسد اختار الأسلوبَ الساداتي لاتُّهم بالخيانة، والنظام السوريّ لا يتحمَّلُ ما استطاعت الدولة المصرية احتماله. ولو أنه اختار أسلوب أوسلو لربما أصابه ما أصاب الرئيس عرفات. ولذا فقد اختار لتحوُّله الكبير أسلوباً ثالثاً أكثر أمناً لشخصه ولنظامه. وهو يستطيع القول للخصوم وللأصدقاء الآن: أُريدُ استعادة الأرض المحتلّة بهذا الأُسلوب، وإن لم أُوَفَّقْ فلكلّ حادثٍ حديث، ويا دار ما دخلك شرّ! وربما يكون قد قال ذلك للإيرانيين بالفعل، كما قال لهم قبل أنابوليس وبعدها. لكنّ الواقعَ أنه طريقٌ لا عودةَ منه ولا فيه، وعلى الجانبين الإيجابي والسلْبي.

كيف تكونُ ردودُ الأفعال، وهل يمكن تقدير الآثار؟

لا يستطيعُ العربُ الكبارُ رَفْض التصرُّف السوري بجانبيه: جانب السعْي من خلال تركيا لاستعادة الجولان، وجانب التوقُّف عن كونه – وطوال عقدين – طريقاً للامتداد الإيراني في الوطن العربي. وسيبرز ولا شكَّ طرفٌ عربيٌّ يقول باحتضان سورية، وإعادة تنظيم العلاقة معها لهذا الجانب من ضمن مبادرة السلام العربية. وسيقول آخرون – وقد قالوا – إنه ينبغي إعانة سورية على الخروج من الإسار الإيراني، وسيظلُّ الأميركيون متشككين، وسيلومون إسرائيل لتسرُّعها وربما لاموا حليفتهم الأُخرى تركيا! لكنّ الدولةَ الأعظَم هي التي تقطف الثمار في النهاية، وبخاصةٍ أنّ في ذلك مصلحةً استراتيجيةً لها ومزيداً من الأمن لإسرائيل. وكان السوريون قد قالوا لبعض الأطراف إنّ المجابهة مستمرة، وسينتهي الأمر بانتصار المحور الذي ينتمون إليه، كما تدلُّ على ذلك شواهدُ السنوات الماضية. وقالوا لأطرافٍ أُخرى إنّ سياسة الرئيس بوش مسؤولة عن كلّ هذا الخراب والتعطُّل، ولا بد من انتظار العهد الأميركي المقبل، من أجل التفكير في حلولٍ ملائمةٍ لكلّ الأطراف. لكنهم الآن بادروا – دونما خضوعٍ ظاهرٍ للولايات المتحدة – الى تحقيق ما كانت تُطالبُهُم به منذ سنوات؟!

لكنْ إذا كان الأميركيون والعرب والأوروبيون وحتى الإسرائيليون يستطيعون التمهُّل لتبيُّن أبعاد الخطوة السورية (على رغم اطمئنانهم المبدئي إليها!)، فإنّ الإيرانيين لا يملكون «فضيلة» الانتظار هذه. فهم يفقدون بهذه الاستدارة السورية الكثير مما عملوا لأجله خلال العقدين الماضيين. وقد وصلت المواجهة بينهم وبين الولايات المتحدة إلى الذروة، ولو صبر حلفاؤهم في سورية قليلاً لربما أمكن للطرفين أن يقطفا ثمار النضال الطويل بالكامل. وهم يمسكون بزمام الموقف إلى حدٍ كبيرٍ من حول أفغانستان وفي العراق، ولا يضيرُهُم كثيراً أن تتأثَّر «حماس» في دمشق وفلسطين. وقد استمعتُ مساءَ السبت إلى خالد مشعل يقول من دمشق إنّ «حماس» وضعت بيضَها كلَّه بيد مصر، في شأن الترتيبات للتهدئة المتبادَلة مع إسرائيل. فهل لذلك علاقةٌ بتحولات دمشق؟ قد يكونُ الأَمْرُ كذلك. أمّا الذي لا يستطيع الإيرانيون تحمُّلَه الآنَ بالذات، فهو تغيُّرُ الوضع بالنسبة الى «حزب الله»، من خلال تغير علاقة سورية بإيران. فسورية لا تستطيع السير حتى بـ «علاقة استراتيجية» مع تركيا – كما قال رئيس الوزراء السوري – إلاّ على حساب العلاقة «الاستراتيجية» الأخرى. وليست إيران وحدها التي لا تستطيع الانتظار والترقب في هذه الحالة، بل إن «حزب الله» لا بُدَّ له من المبادرة إلى المواجهة، قبل أن تتسع الهُوّة، وتتعرض استعداداتُه السياسية والعسكرية للتآكل أو «العدوان». فالمشكلةُ عنده ليست في الخطاب العالي الوتيرة فقط، بل في الاستراتيجية الإيرانية الثابتة منذ ما بعد العام 2000 تجاه المنطقة، وهو أداتُها الرئيسية. وقد بدت السياسات السورية تجاه لبنان في السنوات الثلاث الأخيرة نافرةً جداً، ليس بسبب سوئها بالفعل وحسْب، بل بسبب حصولها من ضمن الاستراتيجية الشاملة للمحور الإيراني – السوري. ومن شبه المؤكَّد أنه إذا اتخذت الاستدارة السوريةُ أبعادها الكاملة، أن يحاولَ السوريون (وبالتلاؤم مع المجتمعين العربي والدولي هذه المرة) «تصحيح» العلاقة مع لبنان ضمن أعرافٍ مقبولة، وسيزيد ذلك أيضاً من ضغوط الافتراق عن «حزب الله»، في حين يتوثّقُ تعاوُنُهم مع أصدقائهم القُدامى مثل الرئيس نبيه بري، والجدد مثل الجنرال عون. وبسبب هذه التطورات بالذات، قد يتمكن اللبنانيون من انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية بعد مضيّ قرابة الستة أشهرٍ على فراغ سُدّة الرئاسة، لكنّ لبنان لن يرتاح، لاضطرار «حزب الله» للمواجهة الحاضرة، ولتجرؤ إسرائيل عليه أكثر. وقد يتجه الحزب لمزيدٍ من الضغط في الداخل اللبناني أيضاً، إثباتاً لبقاء ورقة لبنان في يد إيران، أياً يكن ما تفعلُهُ سورية. وهكذا فإنّ كلَّ أجزاء السياسة الإيرانية بالمشرق ستتأثر بدرجاتٍ متفاوتةٍ طبعاً، إن اتخذت السياسة السورية الجديدة مداها، وصولاً حتى إلى طرائق تعامُل المجتمع الدولي مع الملفّ النووي الإيراني!

لقد أعلنت سورية بوضوح عن أهم أغراض زيارة رئيس الوزراء التركي، وقالت في الإعلام إنه يحملُ عرضاً للتفاوض والسلام. ومن ضمن نتائج الزيارة أُعلن عن اتفاق لبدء التفاوض بين الإسرائيليين والسوريين سوف يبدأَ (بتركيا؟) على مستوى الخبراء. ولذا فإنّ يوم السبت 26/4/2008 قد يصبح في المنطقة والعالم يوماً له ما بعده: (ولله الأمر من قبل ومن بعد).

كاتب لبناني

الحياة – 29/04/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى